مواضيع

التواصي بالصبر وبناء الحضارة

مكانة الصبر وتقسيماته

يُعدّ الصبر أحد المرتكزات الأساسية لتحقيق بيان «الخطوة الثانية للثورة الإسلامية» والسعي نحو بناء الذات والمجتمع وصناعة الحضارة، وذلك عبر جهود الشباب الذين يمثّلون الدافع الأساسي للثورة الإسلامية. إنّ التركيز على «الصبر» بمفهومه الشامل في القرآن والروايات، والاستفادة من التجارب المعاصرة، يُعدّ شرطاً مهماً في هذا الطريق. ولعلّ من أبرز ثمار الصبر الحضاري القائم على أسس الثورة الإسلامية كان تشكيل محور المقاومة الإسلامية، وهو إنجاز يعدّ من مفاخر الشعب الإيراني، الذي عبّر القائد عن إعجابه العميق به، فقد تحلّى هذا الشعب بصبر عظيم تحت ظلّ تربية جيلٍ مؤمنٍ وثوريّ.

يُعدّ الصبر من صفات القادة الإلهيين، كما ورد في قوله تعالى: <وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ>[1]، ويمكن للقائد أن يرتقي في مراتب القيادة العليا للمجتمع من خلال التحلّي بالصبر والتحمل إلى جانب اليقين. فالصبر والتحمل ينبعان من سعة الصدر والقدرة على التحمّل، فيما يتأصل اليقين من الفهم العميق للعقيدة التوحيدية ونظام الله المحكم.

يمكن تناول الصبر من منظور حضاري، وقد حظيت الآية 200 من سورة آل عمران بأهمية خاصة في هذا السياق؛ حيث قدّم العلامة الطباطبائي في تفسيره «الميزان» شرحاً موسعاً لهذه الآية امتدّ لستين صفحة، واضعاً الخطوط العامة لمفهوم الإسلام الاجتماعي. كذلك؛ ألّف الشهيد مطهري كتاب «المجتمع والتاريخ في القرآن» على هذا الأساس، وناقش آية الله جوادي آملي هذا الموضوع بتفصيل في تفسيره «تسنيم».

يقول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ>[2]. هذه الآية تختصر أنواع الصبر الأربعة:

  1. الصبر الفردي: ويُشار إليه بقوله «اصبروا»، وهو الصبر أمام المصاعب الفردية.
  2. الصبر الاجتماعي: يُعنى بالحفاظ على الوحدة والتكاتف، ويُشار إليه بلفظ «صابروا».
  3. الصبر السياسي: ويعني حراسة الإسلام والالتزام بمبادئه، ويُعبّر عنه بلفظ «رابطوا».
  4. الصبر الأخلاقي: يتمثل في التقوى؛ أي الالتزام بالواجبات والابتعاد عن المعاصي، ويُعبَّر عنه بقول «اتقوا الله».

يُقسم الصبر أيضاً إلى أنواع أخرى؛ منها:

  1. الصبر على الطاعة: الاستمرار في أداء الطاعات.
  2. الصبر عن المعصية: مقاومة النفس أمام المعاصي.
  3. الصبر عند المصيبة: التحمل في وجه الابتلاءات.

وهناك تقسيمات وفق مجالات الحياة المختلفة: الصبر السياسي، الصبر الاجتماعي، الصبر الأمني، وغيرها.

ومن أنواع الصبر الهامة، الصبر الاستراتيجي، وهو لا يتعارض مع الانتقام، إذ لا يعني الانتقام هنا فعلاً فردياً لحظياً؛ بل يُقصد به الانتقام كعملية متدرجة ومدروسة، حيث يُخطط لمواجهة العدو خطوةً بخطوة، في إطار عملية متواصلة.

معاني الصبر

وردت كلمة «الصبر» في القرآن الكريم بمعانٍ متعددة، نذكر منها ما يلي:

1.    التحكم بالغضب والسيطرة على النفس

يُقصد بهذا المفهوم القدرة على كبح الغضب وضبط العواطف دون الانفعال وفقدان الأعصاب، وهو قريب من التحكم في الانفعالات والمشاعر. تمر على الإنسان مواقف تثير غضبه وتدفعه للتعبير عن مشاعره بقوة؛ سواء في حياته الشخصية أو الاجتماعية أو السياسية. الأشخاص الذين يفتقرون إلى هذا النوع من السيطرة يصعب عليهم تحمل المواقف الصعبة، ولا يتمكنون من كبح انفعالاتهم. الصبر هنا يعني الامتناع عن الجزع، وكبح اللسان عن الشكوى، وضبط النفس عن التوتر؛ أي الصمود في وجه الشدائد دون اضطراب. ويجمع هذا الصبر بين «كظم الغيظ» و«الحلم».

2.    مقاومة الشهوات والغريزة الحيوانية

نحن لا ندعو إلى الرهبانية، فالشهوات والغريزة الطبيعية يمكن أن تكون مفيدة للفرد والمجتمع إذا تم استخدامها بطريقة متّزنة وشرعية. الصبر في هذا السياق يعني مواجهة الرغبات الداخلية وعدم الاستسلام للأهواء، وهذا يُعرف بالتقوى؛ أي أن يتمكن الإنسان من الوقوف في وجه الإغراءات التي تخرجه عن المسار الصحيح، كما ورد في الحديث: «مَنْ مَلَكَ نَفْسَهُ إِذَا رَغِبَ، وَإِذَا رَهِبَ، وَإِذَا اشْتَهَى، وَإِذَا غَضِبَ، حَرَّمَ اللَّهُ جَسَدَهُ عَلَى النَّار»[3]. فالصبر هنا يعني أن نكون أسياد أنفسنا، نمارس التحكم الذاتي ونضبط أنفسنا بإحكام.

3.    التحمل والصبر

يأتي الصبر هنا بمعنى التروي وعدم التسرع، والبقاء على قدرة التحمل دون أن تفقد السيطرة.

4.    الثبات والمثابرة

يُقصد بالثبات العزم القوي والاستمرارية في التخطيط والتنفيذ رغم العقبات. يجب على الإنسان تعلم الصمود أمام التحديات وتصميم خطة للتغلب عليها، والتحلي بالثبات والإصرار عند مواجهة الصعوبات. أن يتحلى الشخص بالثبات والقوة في مواجهة المسؤوليات، وألا يستسلم بسهولة. فإذا كانت الخطة صائبة، عليه الاستمرار في السعي للتغلب على العقبات وألا يترك الجهد. في تأدية المهام، ينبغي التحلي بالعزم والرؤية لتحقيق الكمال. منح الله الإنسان كل ما يحتاجه للنمو المادي والروحي، والأهم أن يتمكن من استخدام هذه الإمكانيات بوعي وحكمة، وأن يكون لديه خيارات متعددة لأي مشكلة، حتى إذا لم ينجح طريق، يمكنه تحقيق هدفه بطرق أخرى. الذين يفكرون بمنطق «إما كل شيء أو لا شيء» لا يصلون إلى أي مكان؛ فالثبات يحتاج إلى ثقة بالنفس وقدرة على تجاوز العقبات.

5.    الانتظار والأمل في الفرج

يشير الانتظار إلى السعي للانتصار والفرج، وتأجيل الرغبات العاجلة. ننتظر الوقت المناسب لاتخاذ قرار أفضل، وهذا أيضًا جانب من الصبر. قد يتخذ الإنسان قرارًا صائبًا في مصلحته، ولكن لو انتظر الفرصة الأنسب لكان ذلك أكثر نفعًا له. الصبر هنا يعني عدم القناعة بالإنجازات البسيطة؛ بل المثابرة لتحقيق إنجازات أعظم، مما يسهم في النمو والتطور. على الإنسان في رحلته نحو الكمال ألا يقنع بالقليل، فالصبر والتحمل الطويل يساعدان في إبراز قدراته الكامنة وازدهارها. البعض ممن أنهوا تعليمهم باكرًا واتجهوا إلى العمل قد لا يحققون نفس إنجازات من واصلوا السعي في التعليم بثبات. هنا الصبر يعبّر عن بروز الكمالات العقلية وحكمة العقل، وتظهر العلاقة الوثيقة بين الصبر والعقل والحلم؛ إذ بدون الصبر لا يتحقق العلم النافع، ويكمل جمال العقل بالحلم والصبر.

6.    الصمود

ظهر هذا المفهوم أولاً في علوم الفيزياء (مقاومة المواد)، ثم انتقل إلى علم النفس، ثم إلى علم الإدارة، ومنه إلى العلوم السياسية والاجتماعية المعاصرة. تعني القدرة على التحمل والقوة في مواجهة الصعاب. ويبحث هذا المفهوم في العلوم الإنسانية في مدى قدرة الإنسان على التحمل في مواجهة الضغوط والتحديات والأمراض؛ أي: إلى أيّ مدى يمكنه الصمود أمام الأزمات والمصاعب؟

في المجال السياسي، قد تواجه المجتمعات تحديات وضغوطًا هائلة، فيطرح السؤال: إلى أيّ مدى يمكن للمجتمع التحمل من أجل تحقيق أهدافه العليا؟ وفي النزاعات بين الدول، يحاول الخصم اختبار قدرة المجتمع المستهدف على التحمل لوضع استراتيجيات تقلل من قوة تحمّله وتدفعه نحو الاستسلام.

أوجه مختلفة للصمود

الصمود له عدة معانٍ:

1.    قوة التحمل

يعبّر هذا الوجه من الصمود عن القدرات والطاقات الكامنة في الفرد أو المجتمع أو الحضارة. ويمكن تلخيصها كما يلي:

  • القدرة على التحمل والصمود أمام المخاطر.
    • القدرة على تحمل التدمير دون فقدان التوازن.
    • القدرة على مواجهة الاضطرابات واستيعابها.
    • القدرة على مقاومة الضغوط النفسية.
    • البقاء سالمين بعد الأزمات أو الكوارث.
    • استعادة التوازن البيولوجي والنفسي والروحي في الظروف الخطرة.
    • التوازن بين العوامل الخطرة والعوامل الحامية؛ سواء كانت داخلية أو خارجية.
2.    التكيّف

التكيّف يعبر عن خاصيتين مهمتين:

  • التعامل الناجح مع الضغوط والعوامل الصعبة والمهددة.
    • القدرة على التكيف مع الضغوط الخارجية وتحويل التهديد إلى فرصة. وفي هذا السياق نرى في القرآن الكريم قوله تعالى: <فإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا 5 إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا>[4]، أي أنّ الصعوبات تحمل معها الانفراج، ولكن يجب أن يتمتع الإنسان بالقوة الروحية لاقتناص هذه الفرصة من قلب التهديد.
3.    القدرة على العودة إلى الحالة السابقة

هذا المعنى يشير إلى القدرات التي تشمل:

  • القدرة على استيعاب التغييرات.
    • مقاومة التغيير والعودة إلى الحالة الأصلية.
    • القدرة على الرجوع إلى الوضع السابق بعد الأزمات والكوارث.
    • استعادة الظروف الطبيعية وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.
4.    التأقلم

التأقلم يعني أن يجعل الإنسان نفسه متلائمًا مع الظروف الصعبة. ومن عناصره:

  • زيادة القدرة على التأقلم والمرونة.
    • النمو في مواجهة صعوبات الحياة المختلفة، كالأشخاص الذين فقدوا جزءًا من أجسادهم مثل أبطال الألعاب البارالمبية الذين تأقلموا واكتسبوا قدرات تمكنهم من الأداء بقوة تفوق الأصحاء، أو المكفوفين الذين يتفوقون في حفظ القرآن الكريم بفضل قدرتهم على التأقلم.
      فالتأقلم يُظهر قدرات خاصة لدى الإنسان ويزيد من طاقاته وكماله.
5.    التغيير وإعادة البناء

يعني أنّ الإنسان يظهر من الصمود والمقاومة ما يمكنه من استخدام الظروف الصعبة للوصول إلى التقدم والعدالة. مثال على ذلك الشعب الإيراني الذي واجه ظروف العقوبات الصعبة بالإبداع والابتكار، ساعيًا للحد من آثارها وتجاوزها. الصمود يعني إعادة البناء واستغلال الظروف الصعبة لخلق فرص جديدة.

التناسب الأكبر للصمود مع مفهوم الحضارة

الصبر بمعنى الصمود يتناسب أكثر مع مفهوم الحضارة. فعلى سبيل المثال: أصبح شعب غزة نموذجًا لهذا الصمود. رغم شراسة الهجمات، لم يفقدوا توازنهم، وخرجوا من تحت الأنقاض وأبناؤهم يرددون «حسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير»، هذا الصبر هو ما سيجعلهم ينتصرون على العدو.

كل هذه المعاني نجدها ضمن مفهوم الصبر، فعندما يقول القرآن <وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ>[5] فإنه يقصد كل هذه الجوانب، فكما أنّ الصبر موجَّه للأفراد، فإنه موجَّه أيضًا للشعوب والنُّظم والمدراء الاجتماعيين. المجتمع الذي يسعى لبناء الحضارة، يجب أن يضع نصب عينيه آفاق المستقبل، وأن يسعى لبلوغ القمم بالثبات والمثابرة، كما قال حافظ إبراهيم، الشاعر المصري، في قصيدته التي يخاطب بها الشباب:

أهلاً بنابغة البلاد ومرحباً / جدّدتم العهد الذي قد أخلقا

لا تيأسوا أن تستردوا مجدكم / فلرب مغلوب هوى ثم ارتقى

يوجّه الشاعر هنا الشباب قائلاً إنهم كالنباتات التي تنمو وتزدهر، ويحثهم على عدم اليأس من الوصول إلى المجد والعزة والكرامة، فكم من مغلوب استطاع النهوض والمقاومة بفضل مهارته وصموده، وتغلّب بذلك على عدوه.

عوامل إنتاج الصبر

ما هي العوامل التي تدفع فرداً، أو جماعة، أو دولة، أو مجتمعاً، أو حضارة إلى إنتاج الصبر والمقاومة، وتمنعهم من الخروج عن الميدان؟ الإجابة عن هذا السؤال تُعدّ بالغة الأهمية، وهنا نستعرض أبرز هذه العوامل:

1.    وجود خارطة طريق قابلة للتحقيق

إنّ الإنسان بحاجة إلى معرفة آفاق المستقبل والطريق الذي يسير عليه. ولله الحمد، فإن نظام الجمهورية الإسلامية يمتلك خارطة طريق قابلة للتحقق، وهي تتمثل في النظرية الحضارية التي وضعها الإمام الراحل وسماحة قائد الثورة الإسلامية، والمستمدّة من الإسلام الأصيل وهدي أهل البيت (عليهم السلام). هذه الخارطة الحضارية يمكن تحقيقها؛ إذ تقوم على ثنائيات متجانسة أُعيدت صياغتها في هذا التصور الحضاري؛ مثل: العلم والإيمان، والعقلانية والمعنوية، والحرية والمسؤولية، والعدالة والتقدم، والديمقراطية والقيم الإسلامية، والتقدم الدنيوي والكمال الأخروي. وقد تحققت هذه الثنائيات في صدر الإسلام على يد الرسول الأكرم (ص)، الذي كان مبشّراً للحضارة الإسلامية.

وفي زمن الثورة الإسلامية، عادت هذه الثنائيات لتتجدد وتُشكّل حركة حضارية متمسكة بالعلم والاقتدار والتقدم؛ رغم جميع المصاعب والضغوط. وبعد مرور 45 عاماً، باتت الثورة الإسلامية قوة دولية وإقليمية بارزة. لقد قامت الثورة الإسلامية في عالم منقسم إلى قطبي الشرق والغرب؛ حيث كان المسلمون يعيشون في حالة من الضعف والخوف، واحتقار الذات، والاغتراب، وفقدان الهوية، وقلة الثقة بالنفس، والتقليد الأعمى. لكنّ الثورة الإسلامية غيّرت هذه المعادلة، وغرست روح الثقة بالنفس، والمستندة إلى الإيمان، وجعلت شعار «نستطيع» قابلاً للتطبيق. وبعد مضي 45 عاماً، لم يعد هناك شرق أو غرب يستطيع البقاء حتى النهاية. فروسيا والصين لم تعودا تمثلان شرقاً أيديولوجياً أو حضارياً؛ بل أصبحتا شرقاً اقتصادياً بلا رؤية مستقبلية. علاقاتنا معهما اليوم هي تعاملات متكافئة مبنية على المصالح الوطنية. أما الغرب المتفاخر، فقد أصبح أضعف بكثير. لقد نشأت الحضارة الغربية بعد القرنين الثالث عشر والرابع عشر مع عصر النهضة، وبلغت ذروتها في القرن العشرين، لكنها الآن على منحنى الهبوط تتجه نحو الأفول. في المقابل، فإنّ الحضارة الإسلامية التي تبلورت خلال 45 عاماً، برغم قصر هذه المدة مقارنةً بالقرون الستة التي استغرقتها الحضارة الغربية، تمثل نمواً تصاعدياً؛ لأنها قامت على أساس خارطة طريق واضحة.

2.    التمتع بقائد بانٍ للحضارة

إنّ من أعظم أسباب الصبر الحضاري التمتع بقائد بانٍ للحضارة، وقد تفضل الله علينا بهذه النعمة العظيمة، إذ أنعم علينا بالإمام الراحل والقائد الحكيم للثورة الإسلامية. كانت رؤية هذين القائدين للثورة مبنية على إقامة الحكم الإسلامي، وتأسيس حضارة سامية، وبلوغ أعلى مراتب الكرامة.

3.    الإيمان والأمل

يُعدّ الإيمان والأمل جناحي بناء الحضارة. يقول الله تعالى: >وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ>[6]. نزلت هذه الآية بعد غزوة أحد؛ حيث ترك بعض المحاربين مواقعهم طمعاً في الغنائم، ما أدى إلى استشهاد العديد من خيرة أصحاب النبي (ص)، وعلى رأسهم سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، وإصابة النبي الكريم (ص) وجرح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع). وقد شاعت شائعة استشهاد الرسول (ص)، ما دفع الكثير إلى الفرار، لكن نزلت الآية الكريمة: <وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ>[7]. فدعت الآية إلى الصبر وعدم الاستسلام، مؤكدةً على أن الإيمان قوة تستند إلى القوة الإلهية، ثم أمر الله نبيه الكريم بالخروج لمعركة حمراء الأسد؛ لإظهار القوة العسكرية، ما دفع العدو للتراجع.

4.    الشعب الصبور

يسعى العدو إلى إضعاف صبر الشعب عبر الحرب الناعمة ودفعه للاستسلام، ولكن ما سرّ صمود شعبنا؟ كان الشهيد سليماني يقول: «نحن أمة الإمام الحسين». ولا يعني هذا أن جميع الناس في أعلى مراتب الإيمان، ولكن يكفي أن يكون هناك 10% من المؤمنين والمجاهدين القادرين على الوقوف بجانب قائد عاشورائي ليواصلوا الطريق. تماماً كما حدث في قصة طالوت وجالوت؛ حيث ابتُلي الناس بعد تعيين طالوت قائداً، فقال بعضهم: <لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ>[8]، بينما قال المؤمنون منهم: <قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ>[9]، هذه الفئة القليلة تمثل الفئة الصابرة والمقاومة. واليوم، نجد هذه الفئة القليلة في جميع أنحاء محور المقاومة، بدءاً من السيد حسن نصر الله ورفاقه في لبنان، وأنصار الله في اليمن، وحماس في فلسطين، وصولاً إلى المقاومة في العراق. النموذج الحقيقي للمقاومة الإسلامية هو نهج الحسين ونهج زينب، والسيدة زينب (ع) تمثل أبرز مثال على الصبر الاستراتيجي.

5.    تشكيل سلسلة التواصي

لكي نحقق صبراً حضارياً، لابدّ من تشكيل سلسلة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر، ويجب أن نذكر بعضنا البعض بثمار الصبر وإنجازاته الحضارية. إنّ رواية الانتصارات العظيمة والتقدمات التي حققتها الثورة الإسلامية، وكذلك رواية الخدمة والعطاء المؤمن، تجعل الصبر متجذراً وتزيد من ثباته.

السمات الشخصية الضرورية لتحقيق الصبر المدني

في سياق الحديث عن الصبر المدني، يتوجب علينا أن نعمل على تعزيز مجموعة من الصفات في أنفسنا؛ ومنها:

  1. التحكم في النفس والصبر.
  2. التقييم الدقيق لحساب التكلفة والفائدة؛ حيث إنّ تكلفة التنازل والاستسلام تفوق بكثير تكلفة المقاومة.
  3. الانتظار واتخاذ الإجراءات المناسبة في الوقت المناسب.
  4. تعزيز الاستعداد كما ورد في قوله تعالى: <وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ>[10].
  5. المرونة في التعامل مع الظروف.
  6. رؤية بعيدة الأمد والتطلع إلى آفاق المستقبل.
  7. الالتزام والشعور بالمسؤولية تجاه المجتمع.
  8. الحلم والصبر في مواجهة التحديات.
  9. الثقة بالنفس والتوكل على الله في كل الأمور.
  10. التعلم من الأخطاء والسعي لتعويض النقص وزيادة الكفاءة في النظام الإسلامي.

من خلال هذه الصفات والأعمال، يمكننا تقليل المخاطر، وزيادة المزايا، والحفاظ على كرامة الإنسان وعزته. ومع ذلك؛ يجب أن نكون واعين لبعض القيود التي قد تواجهنا:

  1. قد نفقد الفرص بسبب الأخطاء؛ لذا ينبغي علينا تجنب الوقوع فيها.
  2. قد تتزعزع الثقة وتفقد القدرة على التحمل في بعض الأحيان.
  3. قد تنشأ سوء تفاهمات؛ لذا يجب علينا العمل على إزالة سوء الفهم هذا من خلال التواصي بالحق والصبر، وعدم السماح للعدو بإيجاد فرصة لإعادة بناء نفسه.

  • [1] السجدة: 24.
  • [2] آل عمران: 200.
  • [3] تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشيعة، ج15، ص162.
  • [4] الشرح: 5-6.
  • [5] العصر: 3.
  • [6] آل عمران: 139.
  • [7] آل عمران: 144.
  • [8] البقرة: 249.
  • [9] نفس المصدر.
  • [10] الأنفال: 60.
المصدر
كتاب تفسير سورة العصر بمنظور حضاري | آية الله الشيخ عباس الكعبي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى