«ثُمَّ انظُر في أُمورِ عُمّالِكَ» أي اجعل الموظّفين موضعاً لاهتمامك. والبداية تكون عبر اختيارهم «فَاستَعمِلهُمُ اختِباراً» فعليك أن تمتحنهم وأن تقوم باختيار الأصلح. و«الجدارة» الّتي نُكثر الحديث عنها في هذه الأيّام يجب أن تكون هي حقّاً موضع اهتمامك. وهنا، يقوم أمير المؤمنين (ع) أيضاً بالتّوصية بذلك. «ولا تُوَلِّهِم مُحاباةً وأثَرَةً» أي لا تختر أحداً على أساس القرابة والصّداقة فقط، بحيث لا تراعي المواصفات أي فقط لأنّه صديقي فسأختاره ولا تختره تعسّفاً واستبداداً، بحيث تتمسّك بشخص من دون أن تراعي المواصفات والمعايير أو دون التّشاور مع أهل النّظر والخبرة.
ثمّ يذكر الإمام (ع) خصوصيّات هؤلاء الأشخاص: أصحاب التّجارب، من أهل الحياء وغيره «وتَوَخَّ مِنهُم أَهلَ التَّجرِبَةِ والحَياءِ» إلى أن يصل إلى قوله «ثُمَّ أسبِغ عَلَيهِمُ الأَرزاقَ» أي عند اختيارك للموظّف الصّالح فعليك أن تأمّن له معيشته. أنا دائماً ما أوصي المديرين أنّه عليكم أن تراقبوا عمّالكم وموظّفيكم والمكلّفين من قِبلكم، وأن تجعلوهم نصب أعينكم ولا تغفلوا عنهم. فعليكم أن تكونوا كالحارس في الّليل يجول على المصابيح ويبحث في الزّوايا، تقومون دائماً بجعل الأمور نصب أعينكم وأن تراقبوا، ولذا عليكم أن لا تغفلوا عن موظّفيكم. «ثُمَّ تَفَقَّد أَعمالَهُم» أي تابع أعمالهم وانظر هل ينجزونها أم لا؟ وهل يقومون بإنجازها بشكل صحيح أم لا؟ وهل هناك أخطاء أو تجاوزات فيها أم لا؟ «وابعَثِ العُيونَ مِن أَهلِ الصِّدقِ والوَفاءِ عَلَيهِم» أي قم بوضع أشخاص ليكونوا أذنك الّتي تسمع بها وعينك الّتي ترى بها كي يراقبوا أعمال أولئك، «فَإِنَّ تَعاهُدَكَ فِي السِّرِّ لِأُمورِهِم حَدوَةٌ لَهُم عَلَى استِعمالِ الأَمانَةِ والرِّفقِ بِالرَّعيَّةِ»، فإنّ هذا يؤدّي إلى سعيهم الحثيث على حفظ الأمانة. 09/10/2005
حقّق وحقّق وحقّق، وإنّ تأكيد هذه الجمل على أن نحقّق قد يمتدّ لعشر أو عشرين سطراً. يجب أن نتابع الأمور، بمعنى أن لا نكون مطمئنّين لأيّ شخص، ولو كان ذلك الشّخص الّذي عيّنتموه في رأس المسؤوليّة موضع ثقتكم، فليس هناك محذور في أن يكون شخص موضع ثقتكم وفي نفس الوقت أن لا يكون من يعمل تحت يده موضع ثقة لكم، فإنّكم لا تعلمون شيئاً عمّن يعمل تحت يده! أو أنّ هذا الّذي هو موضع ثقتكم، لا يمكن أن يخونكم، ولكن ألا يُخطئ؟ ألا يمكن أن يسيء الإختيار؟ عليكم أن تتابعوه. 13/11/1982
ومن ثمّ يقول (ع): «فَإِن أَحَدٌ مِنهُم بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خيانَةٍ اجتَمَعَت بِها عَلَيهِ عِندَكَ أَخبارُ عُيونِكَ» أي إذا تأكّدت من خيانة أحدهم – لا ترتّب الأثر بمجرّد وصول التّقرير إليك؛ كلّا، بل يجب عليك أن تتأكّد من خلال وصول التّقارير المتواترة والموثوقة عن خيانة ذلك الشّخص – وحينها «اِكتَفَيتَ بِذلِكَ شاهِداً فَبَسَطتَ عَلَيهِ العُقوبَةَ في بَدَنِهِ وأَخَذتَهُ بِما أَصابَ مِن عَمَلِهِ» لا بدّ أن يُعاقب. وبالطّبع فإنّ للعقوبات أنواعاً وأقساماً وأشكالاً مختلفة ومتطلّبات متنوّعة. فلا بدّ من أن تكون العقوبة مناسبة لما تقتضيه المخالفة. 09/10/2005
ويقول (ع): «وإِنَّما يُؤتَى خَرابُ الأَرضِ مِن إعوازِ أَهلِها» أي حين يكون النّاس فقراء فإنّ الأرض ستكون خربة. وإنّه (ع) لا يقول هذا الأمر كنكتة فلسفيّة، بل كأمر واقعيّ. و«الأرض» في كلامه هنا هي أرض مصر الّتي يتوجّه إليها مالك الأشتر. ولكن بالطّبع فإنّ الشّام والعراق وإيران والمدينة وأيّ نقطة في العالم لديها حاكم يمكن مقارنتها بمصر. فيقول (ع) إنّك إذا استطعت أن تجعل النّاس أغنياء في تلك الأرض الّتي أنت متوجّه نحوها فستعمر، ولكن إذا بقي شعبها فقير أو جعلته فقيراً فلن تعمر هذه الأرض كذلك الأمر، وستبقى خرابة. إنّ النّاس هم من يُعمرون الأرض بنشاطهم والإمكانات الّتي يحصلون عليها. إنّ إبداع الأفراد هو ما يعمر جميع أنحاء الأرض. ومن ثمّ يقول: «وَإِنَّما يُعوِزُ أهلُها». الإعواز من باب إفعال، ولكنّه لازم: فيصبح النّاس فقراء. يستخدم (ع) لام التّعليل قائلاً: «لِإِشرافِ أَنفُسِ الوُلاةِ عَلَى الجَمعِ» إنّ فقر النّاس سببه تقصير القادة، فهم من يسبّبون فقر النّاس، لأنّهم يريدون ما ينتج من ثروة ومصالح لأنفسهم، وهذا يؤدّي إلى فقر النّاس.
«لِإِشرافِ أَنفُسِ الوُلاةِ عَلَى الجَمعِ» فهم من يقومون بجمع الأموال وغيرها. «وسوءِ ظَنِّهِم بِالبَقاءِ وقِلَّةِ انتِفاعِهِم بِالعِبَرِ» أي يسيئون الظّنّ بالنّسبة لما بقي من عمرهم، أنّه ماذا سيحصل لاحقاً. لا يجب أن يكون هناك سوء ظنّ، بل يجب أن يكون هناك حسن ظنّ بالله وبالنّفس. ويقول (ع) أيضاً: «وقِلَّةِ انتِفاعِهِم بِالعِبَرِ» قليلاً ما يستفيدون من العبر. 10-11-2004
إذا أراد الحكّام وأصحاب المناصب في النّظام الإسلاميّ القيام بهذه الواجبات، فهم بحاجة إلى نقطة أخرى وهي الإخلاص لله والعمل من أجله ومواصلة الاتصال بالله. فلا تقتصر قضيّة المسؤول وصاحب المنصب في النّظام الإسلاميّ على العلاقة مع النّاس، فلو لم يتّصل بالله، لتعثّر عمله من أجل النّاس وخدمتهم، أي لتعثّرت تلك المسؤوليّة الأساسيّة الّتي تقع على عاتقه. ما يدعم هذه المسؤوليّة، هو العلاقة مع الله، لذلك يعود أمير المؤمنين ليقول – وفقاً لما ورد في نهج البلاغة – في هذه الرّسالة الّتي وجّهها إلى مالك الأشتر «واجعَل لِنَفسِكَ فيما بَينَكَ وبَينَ اللهِ أَفضَلَ تِلكَ المَواقيتِ» أي أن تجعل أفضل الأوقات، أثناء تقسيم وقتك للأعمال المختلفة، للخلوة بينك وبين الله. فلا توكِل حالة الإرتباط بالله والإنابة والتّضرع إليه إلى أوقات تعبك وكسلك. ثمّ يقول (ع): «وإِن كانَت كُلُّها لِله» أي وإن كانت جميع أعمالك، حين تكون صاحب منصب في الحكومة الإسلاميّة لله – والشّرط في ذلك «إِذا صَلَحَت فيهَا النّيَّةُ وسَلِمَت مِنهَا الرَّعيَّةُ» بمعنى أن تكون نيّتك خالصة لله، وأن لا يصدر منك ما فيه أذيّة للنّاس – ولكن في الوقت ذاته، وفّر من بين مساعيك، الّتي هي كلّها من العبادات، وقتاً للخلوة بينك وبين الله. هذه هي الصّورة لذوي المناصب والمسؤوليّات في النّظام الإسلاميّ وفي قاموس أمير المؤمنين. 15/12/2000