مواضيع

الدخول في العمليات الحربية والمشاركة الفعلية

كان [المرحوم شمران] عالماً، يتمتّع بشخصيّة بارزة ولديه الكثير من المؤهلّات، وقد أخبرني بنفسه أنّه عندما كان يتلّقى دراساته العليا في الجامعة في الولايات المتحدّة الأمريكية، كان أحدَ أفضل اثنين في تلك الجامعة والقسم والاختصاص. كما كان يُخبرني عن مواقف الأساتذة معه وعن تطوّره في المجالات العلمية، لقد كان عالماً بما للكلمة من معنى، لكن آنذاك بلغ إيمان هذا العالم العاشق مبلغاً جعله يترك الشّهرة، والمال، والمقام، والمنصب، والمستقبل الدنيويّ الّذي يبدو عقلائياً في ظاهره، وينخرط في العمل الجهادي مع “الإمام موسى الصدر”، وذلك عندما كان لبنان يمرّ بأكثر أوقاته مرارة وخطورة.

فنحن في عام 78م كنا نسمع أخبار لبنان، وكانت شوارع بيروت قد تحوّلت إلى دشم، والصّهاينة يقومون ببعض التّحركات إضافة إلى تلقّيهم الدعم من الداخل [اللبناني]. لقد سادت حالة عجيبة ومؤلمة، وكانت الساحات مزدحمة وصاخبة. آنذاك، وفي ظلّ تلك الأوضاع وصلَنا ونحن في مشهد شريط مسجل من المرحوم شمران، وكانت هذه بداية تعرّفي عليه. كان قد سجّل في هذا الشّريط محاضرةً استغرقت ساعتين من الزمن، ليوضّح المشهد في لبنان وما الّذي يجري هناك. لقد كان الخطاب جذّاباً جداً، ويتميّز برؤية واضحة، ونظرة سياسية ثاقبة وفهمٍ عميق للوضع؛ حيث شرح ما الّذي يجري في ذلك المشهد الصاخب، وما هي الجبهات والجهات الموجودة، ومن الّذي يرغب باستمرار هذه الحرب الأهلية في بيروت، كلّ هذا خلال ساعتين في تسجيل صوتي. نعم؛ لقد ذهب [شمران] إلى هناك وأمسك بندقيته بيده، ثمّ تبيّن أنه يمتلك نظرةً سياسيةً وفهماً دقيقاً وهو مسلّح بمصباح يخترق ضباب عصر الفتنة؛ فالفتنة مثل ضباب كثيف تُعكّر الأجواء، وينبغي أن يتسلّح الإنسان بمصباح يخترقها ألا وهو البصيرة.

لقد حارب [شمران] هناك، وعندما انتصرت الثورة عاد إلى إيران، وسجّل حضوراً في الأماكن الحساسة منذ بداية الثورة؛ حيث ذهب إلى كردستان ونشط بفعاليّة في المعارك الّتي حصلت هناك، ثم جاء إلى طهران واستلم مسؤولية وزارة الدفاع. وبعد أن بدأت الحرب، ترك الوزارة وباقي المناصب الحكومية وغيرها وجاء إلى الأهواز، حارب وصمد إلى أن استشهد في 21/6/1981م. لم يكن للمنصب ولا للدنيا ولا مظاهرها أيّ قيمة عنده. على الرغم من أنه لم يكن شخصاً بارداً لا يفهم بملذّات الدنيا؛ بل بالعكس كان مرهفاً، يتمتّع بذوق جيد، وكان مصوّراً محترفاً، فقد قال لي مرة “لقد التقطتُ آلاف الصور لكنني لست فيها لأنني كنت المصوّر دائماً”. لقد كان فناناً، قلبه صافٍ؛ مع أنه لم يدرس عرفاناً نظرياً، وقد لا يكون تلقّى أي درس توحيدي أو سلوك عمليّ عند أي أستاذ، لكن فطرته كانت سليمة تبحث عن الله وتطلبها، وقلبه نقيّ، كان من أهل المناجاة ومن أهل المعنى.

إضافةً لذلك؛ كان شمران إنساناً منصفاً، ولا بدّ أنكم تعرفون قصة “باوه”؛ حيث حوصر مع عدّة أشخاص على مرتفعات “باوه” بعد عدة أيام من بداية الحرب من قبل مناهضي الثورة، وكادوا يصلون إليهم، لكن عندما علم الإمام بالأمر انتشرت رسالةً صوتية له على الراديو يأمر الجميع فيها بالتّوجه إلى باوه، وكانت الساعة الثانية بعد الظهر، وعند الساعة الرابعة بعد الظهر كنت أرى الناس في شوارع طهران يركبون الشاحنات الكبيرة والصغيرة، وما لديهم من وسائل نقل؛ سواء العسكريين أو المدنيين ليذهبوا إلى باوه، وقد كان هذا حال بقية المدن أيضاً.

عندما فكّ الحصار وعاد المرحوم شمران إلى طهران، اجتمعنا في جلسة، وكان يُقدّم تقريراً لرئيس الوزراء آنذاك[1]، وكانت تربطهما علاقة ودّية وقديمة أيضاً. قال المرحوم شمران في ذلك الاجتماع: “عندما انتشرت رسالة الإمام عند الساعة الثانية، وبمجرد انتشارها وقبل أن يصلنا أيّ خبر عن انطلاق الناس نحو باوه، شعرنا بانفكاك الحصار عنا”، وأردف قائلاً: “لقد كان حضور الإمام وقراره ورسالته مؤثراً وسريعاً، وبمجرّد وصوله إلينا شعرنا كأنّ جميع الضغوطات انتهت؛ فَقَدَ مناهضو الثورة معنوياتهم، وفي المقابل شعرنا بالنّشاط يدبّ فينا، فهاجمنا وكسرنا حلقة الحصار واستطعنا الخروج”. عندها غضب رئيس الوزراء ونهر المرحوم شمران قائلاً: “نحن من فعل كل هذا، وبذلنا كل هذا الجهد، لِمَ تنسب جميع الأمور للإمام؟!”؛ أي لم يكن [المرحوم شمران] يجامل أحداً؛ بل كان منصفاً، فمع أنه كان يعرف أنّ هذا الكلام سيتسبّب بالاعتراض لكنه قاله.

كما تعلمون؛ تعرّضت “سوسنجرد” للاحتلال مرتين، فقد سقطت مرة ثانية بعد تحريرها أول مرة، وبذلنا الكثير من الجهد لكي تأتي قوات الجيش وتنظّم الهجوم وتقبل الانطلاق إليها واستعادتها، وكانت قوات الجيش تحت قيادة شخص آخر. [وبعد تنظيم الهجوم والقيام بما ينبغي] وفي اللّيلة الّتي كان من المقرّر أن يتم الهجوم من الأهواز إلى سوسنجرد، وعند الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وصلَنا خبر بانسحاب إحدى الوحدات التي كان من المقرر أن تشارك في هذا الهجوم، مما يعني إحباط الهجوم قبل تنفيذه أو إفشاله بالكامل. قمتُ حينها بكتابة رسالة لقائد الجيش الّذي كان في الأهواز[2]، وكتب المرحوم شمران رسالة أيضاً – حيث زارني ذلك القائد المحترم مؤخّراً وأعطاني نفس تلك الرسالة، وكان قد علقها في إطار، وتعود ذكراها إلى ما قبل ثلاثين عاماً؛ والآن تلك الورقة موجودة معي[3]– وبقينا نحاول إلى ما بعد الساعة الواحدة ليلاً كي يتم الهجوم في صباح اليوم التالي. ثم ذهبتُ لأنام وانفصلنا عن بعضنا الآخر.

قمتُ في الصّباح الباكر، وكانت القوات العسكرية التابعة للجيش قد انطلقت، فانطلقتُ بدوري مع مجموعة الأشخاص الذين يرافقونني خلف قوات الجيش. وعندما وصلنا إلى المنطقة، سألت: “أين شمران؟”، قالوا: “لقد جاء شمران عند الصباح الباكر وهو في الأمام”؛ أي كان شمران قد تحرّك، وانطلق وتقدّم مع مجموعته عدة كيلومترات إلى الأمام قبل أن تنطلق القوات المنظمة. ثم نجح هذا العمل الكبير وأُصيب شمران آنذاك.

ليرحم الله هذا الشهيد العزيز، هكذا كان شمران، لم تكن تهمّه الدنيا والمنزلة، ولا المال، ولا الشهرة، ولا باسم من سينتهي العمل. لقد كان منصفاً من دون مجاملة، وشجاعاً،  ومجدّاً. لقد كان مرهفًا ورقيقاً يتمتع بذوق شاعري وعرفاني، وجندياً مقداماً في الحرب في آنٍ واحد[4].


  • [1] المقصود هو مهدي بازركان.
  • [2] نصّ رسالة سماحته إلى قائد الفرقة 92 للمدرعات؛
  • ليلة الإثنين 17/11/1980م، الساعة 1:10
  • الرئيس الضابط قاسمي قائد الفرقة 92 المدرعات الأهواز
  • السلام عليكم، سمعت أنّ الجنرال ظهيرنجاد اتصل بك كي لا تشارك الوحدة 2 في العمل المقرّر غداً إلّا عند صدور الأمر. ويقصد أمر رئيس الجمهورية. أنا لا أعتبر هذا العدول عن قرار العصر أمراً مقبولاً، وهو يعني إيقاف أو إفشال عمليات الغد. إنّ جهوزية العدو تصل لدرجة أنّ سريّتَي المشاة تينك لا يمكنهما القيام بفعل شيء ما أمامه، وإذا لم يتدخّل اللواء معهم في الحقيقة لا يمكن للهجوم أن يتم، وإذا أردنا انتظار مجيء الجنرال ظهيرنجاد حتى الصباح فسيفوتنا الوقت. إنّ شبابنا سيقاومون في سوسنجرد حتى الصباح على أكثر تقدير، وإذا لم نُخفف من حجم هجمات العدو بمقدارٍ ما، فسيُقضَى على الجميع، وستسقط المدينة كاملاً. الخلاصة هي أنه حسب معطياتنا وتشخيصنا يجب أن يتم العمل كما اتفقنا عصراً، ويجب ان يكون اللواء جاهزاً للمساعدة صباحاً. في غير هذه الحالة تقع مسؤولية سقوط سوسنجرد على أيّ شخصٍ خالف هذا القرار وعدل عنه.
  • السيد علي الخامنئي
  • [3] جاء قائد الوحدة قاسمي في عام1999م إلى منزل القائد مع آخرين. في هذا اللقاء طلب منه سماحة السيد علي الخامنئي أن يعرّف نفسه بعد أن كان واقفاً في صفوف الصلاة، وقد تغيّر شكله كثيراً. بمجرّد أن يقول : “ضابط المدرعة المقر قاسمي” وقف قائد جميع القوّات وقال: “قائد الفرقة 92 المدرعات الأهواز! أهلاً وسهلاً بك في مجلسنا”. في هذا المجلس يقدّم القائد قاسمي أصل رسالة العمليات الأولى في سوسنجرد في إطار إلى سماحة القائد. يعتبر المرحوم قاسمي لقاء قائد جميع القوات بعد ثلاثين سنة أكبر حدث في حياته.
  • [4] من خطابه خلال لقاء أعضاء التعبئة في هيئات الجامعات العلمية بتاريخ 23/6/2010م.
المصدر
كتاب في محضر الحبيب – خواطر الإمام الخامنئي بلسانه وبيانه

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى