مواضيع

أركان الاستعاذة

الركن الأول المستعيذ

وهو الإنسان في حال سلوكه إلى الله ذي الجلال والإكرام؛ حيث يجب عليه الاستعاذة بالله سبحانه وتعالى وبكلماته التامة من شر كل عائق وشوك يعترض طريقه إليه، وهنا ينبغي التنبيه على ثلاث حالات للإنسان، وهي:

الحالة الأولى: أن يمكث الإنسان في بيت النفس وقفص الطبيعة أسيراً للهوى والشهوات والغضب والكسل والجبن والخوف والبخل وغيرها من مساوئ الأخلاق، وأن يكون من جنود الشيطان وخدام إخوانه من الفراعنة والطواغيت وأوليائهم الكلاب، ويشاركهم في تنفيذ مخططاتهم الشيطانية لإضلال الناس وظلمهم واغتصاب حقوقهم، والترويج لذلك وإلى القبول بالأمر الواقع الظالم المنحرف وفرضه على الناس، ولم يشتغل بالسفر الروحاني والسلوك إلى الله تبارك وتعالى.

وفي هذه الحالة تترسخ في الإنسان بعض الصفات القبيحة، وتتأكد ضروب الملكات الخبيثة، ويكون الإنسان خاضعاً تحت سلطة الشيطان وحكومته، وليس له عقل أو فهم إنساني للحقائق والأمور، فهو لا يفهم القرآن ولا يفهم دعوات الأنبياء والأوصياء ولا ينتفع بها، ولا تنفعه النصائح والمواعظ، وليس للاستعاذة أي قيمة أو منفعة لدى هؤلاء، ويتكرر منهم صدور الأعمال القبيحة والمعاصي الكبيرة، وإن استعاذوا فإنما استعاذتهم قلقلة لسان لا فائدة منها ولا قيمة عملية لها، وهي تثبيت وتحكيم لسلطة الشيطان – كما سبق توضيحه – وليست استعاذة حقيقية من الشيطان.

مثال ذلك: لو قصدك عدو يريد قتلك أو إلحاق الضرر بك، وعندك حصن حصين تستطيع الوصول إليه والتحصن فيه، وقلت لعدوك: أعوذ منك بهذا الحصن الحصين، ولن تستطيع الوصول إليّ والإضرار بي، ولكنك لم تتحرك من مكانك ولم تدخل ذلك الحصن، فإن كلامك لا ينفعك ولن يمنعك من عدوك.

وكذلك الاستعاذة لا تنفع الإنسان إذا قال بلسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) ما لم يتحرك ويفر فعلاً من الشيطان الرجيم، ويلجأ إلى الله الرحمن الرحيم، فيترك ما يحبه الشيطان الرجيم وما يحبه إخوانه وأوليائه من الطواغيت والفراعنة، ويترك ما يكرهه الرحمن من الشهوات وغيرها، ويأتي بما يكرهه الشيطان وإخوانه وأوليائه من الفراعنة والطواغيت، وما يحبه الرحمن من الطاعة ومكارم الأخلاق.

فالمستعيذ الحقيقي: هو الذي يقترن عنده القول بالعزم والإرادة على التعوذ بحصن الله تبارك وتعالى من شر الشيطان الرجيم، والتحرك والعمل من أجل ذلك، وحصن الله تبارك وتعالى هو (لا إله إلا الله).

في الحديث القدسي: «لا إله إلا الله حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي»[1].

ودخول حصن «لا إله إلا الله» ليس بالكلام والادعاء، وإنما بالإذعان القلبي واليقين القطعي بأن كل معبود سوى الله تبارك وتعالى باطل، وأنه لا طاعة، ولا خضوع، ولا خوف، ولا طمع إلا في الله الذي لا إله غيره، ولا معبود سواه، وأن كل من اتخذ إلهه هواه، وكل من أطاع الطاغوت، وكل من خضع للفراعنة وأعانهم على الظلم والفساد تحت أي عنوان، فهو من أولياء الشيطان وجنوده وفي ساحته، لم يخرج منها ولم يدخل في حصن الله، ذلك وإن صام الدهر كله، وإن ظهر بمظهر أزهد الزاهدين وأكثر الناس صلاة وتسبيحاً.

يقول الإمام زين العابدين (ع): «اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص وسورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلة القناعة وشكاسة الخلق، وإلحاح الشهوة وملكة الحمية ومتابعة الهوى ومخالفة الهدى وسنة الغفلة وتعاطي الكلفة وإيثار الباطل على الحق والإصرار على المأثم واستصغار المعصية واستكثار الطاعة ومباهاة المكثرين والإزراء بالمقلين وسوء الولاية لمن تحت أيدينا وترك الشكر لمن اصطنع العارفة عندنا أو أن نعضد ظالماً أو نخذل ملهوفاً أو نروم ما ليس لنا بحق أو نقول في العلم بغير علم، ونعوذ بك أن ننطوي على غش أحد وأن نعجب بأعمالنا ونمد في آمالنا»[2].

قول الله تعالى: <قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ 162 لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ>[3]

أيها الأحبة الأعزاء: إن الإنسان ما دام مشغولاً بالدنيا ومنهمكاً فيها، ولم يشتغل بتزكية نفسه وتطهيرها، و أطلق لها العنان، فإنه يتجاوز حدود الله تبارك وتعالى وينتهك حقوق الناس، ويكون مستعداً لأن يدمر شعباً بأكمله كما فعل صدام وشارون، ويفعل أمثالهما من الحكام الظلمة المستبدين؛ بل يكون مستعداً لأن يدمر الكرة الأرضية بأكملها من أجل الرئاسة والسيطرة كما يفعل الرئيس الأمريكي بوش، وهؤلاء لا يسمعون دعوات الأنبياء والأولياء ولا يستفيدون من الكتب السماوية والمواعظ الحسنة، ولا يعطون قيمة للتمييز بين الخير والشر أو الحق والباطل أو العدل والظلم، فهذه وكل القيم الإنسانية والأخلاقية والمعنوية لا قيمة لها عندهم، فهم يعتبرون الظلم شجاعة وكياسة وانتصاراً، ويرون التمسك بقيم الحق والعدل والخير ضعف ومثالية وغباء و… الخ.

قول الله تعالى: <إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ 80 وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآَيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ>[4]

ولكي يسمع الإنسان كلام الله ودعوات الأنبياء والأولياء والمواعظ الحسنة ويستفيد منها، عليه أن يهتم بتزكية نفسه وتطهيرها من الآثام والمعاصي والذنوب، وأن يبتعد عن الخداع والمكر والتذاكي على الناس ولعب أدوار الشطارة الشيطانية عليهم، لكي يكون إنسانياً يميز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ويستفيد من الكتب السماوية ودعوات الأنبياء والأولياء وتنفعه النصائح والمواعظ الحسنة.

قول الله تعالى: <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى 14 وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى>[5]

وقول الله تعالى: <ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ>[6]

كما لا ينفع مع هؤلاء التحذير والتأديب والإرشاد والتهذيب لبطلان قوتهم وزوال استعدادهم لجانب الفضيلة والكمال.

قول الله تعالى: <إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ>[7]

وقول الله تعالى: <وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ>[8]

ولنا في هذه الحالة درس في غاية الأهمية، وفيه تحذير للمؤمنين الأعزاء من ثلاثة مخاطر، وهي:

الخطر الأول: الحذر من إيثار الدنيا على الآخرة، والاشتغال بهموم الدنيا ونسيان العمل للآخرة، فهذا الإيثار داخل في دائرة هذا المقام غير المحمود، وصاحبه خاسر لا محالة، وأن استعاذته لا فائدة لها وخالية من المضمون.

قول الله تعالى: <أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ 1 حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ 2 كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 3 ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ 4 كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ 5 لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ 6 ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ 7 ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ>[9]

الخطر الثاني: وفيه تحذير للمؤمنين لا سميا العاملين منهم في الحقل السياسي والجهادي، بأن الحرص على الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والرفاهة المادية، على حساب الجوانب الروحية والأخلاقية والدينية وتضييعها، يجعل هؤلاء العاملين في هذا المقام غير المحمود، ومن الأخسرين أعمالاً، فينبغي الاهتمام بالمصالح المادية و الرفاهية ورغد العيش، ولكن ليس على حساب المصالح الروحية والآخرة.

الخطر الثالث: إن إيثار كلام البشر وتفضيله على كلام الله والأنبياء والأوصياء (عليهم السلام)، وتقديمه عليه في تدارسه وتدريسه وتقديمه للناس، وكذلك تقديم القيادات والزعامات الدنيوية على الزعامات الروحية وتفضيلهم عليهم، يجعل من يفعل ذلك من الماكثين في هذا المقام غير المحمود، ومن الأخسرين أعمالاً.

كما ينبغي التنبيه وإعادة التأكيد على ضرورة حماية القيادات الروحية للمصالح المادية المشروعة للناس، وصيانتها وعدم التفريط فيها، فهم مؤتمنون عليها وعلى المصالح الروحية معاً، وليس الروحية فحسب، و إن التقصير في حماية المصالح المادية للناس والدفاع عنها، وتكريس الاهتمام على المصالح الروحية، يسيء للدين ومنهجه في الحياة، ويسيء إلى القيادات الروحية، ويلغي جزءاً من دورها، ولا يخدم المصالح العليا للدين والبشرية.

الحالة الثانية: أن يتلبس الإنسان بالسير الروحاني والسلوك إلى الله تعالى، وفي هذه الحالة فكل ما يعترضه من مانع في سلوكه فهومن الشيطان وبتأييد منه، ويحتاج الإنسان إلى الاستعاذة منه بالله القوي العزيز.

وفي هذه الحالة (حالة: تلبس الإنسان بالسير والسلوك) يجب أن يخرج الإنسان من دار الكثرة التي كان فيها في الحالة الأولى قبل السلوك؛ حيث كان يرى الأفعال من صنع العباد دون الله تبارك وتعالى، ويدخل في حالة السلوك إلى دار توحيد الأفعال؛ حيث يرى الأفعال من الله تبارك وتعالى في المظاهر المتكثرة، في هذه الحالة يرى الإضلال من الله تبارك وتعالى في مظاهر الشيطان، والهداية من الله في مظاهر خلفائه (عليهم السلام)، فيكون من حكم الاستعاذة في هذا المقام: الاستعاذة من إضلال الله تبارك وتعالى في مظاهر الشيطان، بهدايته إلى مظاهر أوليائه (عليهم السلام).

الحالة الثالثة: أن يختم الإنسان السلوك ويصل إلى صفو العبودية، ومقام الرجوع التام إلى رب الأرباب وخالق العباد الذي إليه المنتهى والرجعى، ويحصل له الفناء الذاتي المطلق بحيث لا يرى ذاتاً في الوجود سوى ذات الله الواحد الأحد الفرد الصمد، وهو غاية السلوك ومنتهاه، وفي هذه الحالة يهلك الشيطان، وتكون استعاذة العبد: (أعوذ بالله من الله، وأعوذ بك منك) من غير شعور منه بذاته، بل تكون استعاذته بفطرة وجوده.

قول الله تعالى: <وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى>[10]

ويقول الإمام زين العابدين (ع): «إلهي استشفعت بك إليك، واستجرت بك منك»[11].

وكان الرسول الأعظم الأكرم (ص) إذا سجد وركع قال: «اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أبلغ ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك»[12].

يقول صدر المتألهين الشيرازي: «ثم اعلم إن في هذا ا لمقام أيضاً يكون العبد مما قد بقى في يقلبه اشتغال بغير الله، ومقام الأنبياء والأولياء صلوات الله عليهم أعلى وأجل من هذا المقام، وإنما يجري منهم الاستعاذة والدعاء والمناجاة وما يجري مجراه، إما تعليماً للأمة وإما عند نزولهم أحياناً على مقام البشرية ومباشرة الخلق ما داموا في هذه الحياة الدنيوية، وذلك لأن مرتبتهم أعلى من أن يشتغلوا بالمناجاة وأن يستعيذوا بالله من الشدائد، لأن من كان في هذه المرتبة، كانت قبلته في دعائه واستعاذته طلب راحة لنفسه أو دفع أذى عنه، فهو بعد أسير الهوى، معتكف على طلب ما هو الأولى لنفسه، تارة يعتريه الخوف، وتارة يسلبه الرجاء، وهذه كلها اشتغال بغير الله، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام، وفنى عن نفسه، وفنى أيضاً عن فنائه عن نفسه، فهنا يرتقي عن مقام الاستعاذة، ويصير مستغرقاً في نور البسملة. ألا ترى أن رسول الله (ص)، لما قال في سجوده: «أعوذ بك منك» ترقى عن هذا المقام، فقال: «أنت كما أثنيت على نفسك»[13]

وعن عبيد بن زرارة، عن أبيه قال: قلت لأبي عبد الله (ع): جعلت فداك الغشية التي كانت تصيب رسول الله (ص) إذا نزل عليه الوحي؟

فقال (ع): «ذاك إذا لم يكن بينه وبين الله أحد، ذاك إذا تجلّى الله له، قال: ثم قال تلك النبوة يا زرارة. وأقبل بتخشع» (أي: واقبل الإمام (ع) إلى الله تعالى حين التكلم بهذا الكلام بحالة التخشع والخضوع).[14]

وفي هذه الحالة يهلك الشيطان، ويكون السالك على كماله الأتم الملائم لذاته من غير مانع ولا دافع، وبريء من كل الوجوه عن الشرور والآفات، ولا يكون في قلب العارف سوى الله تبارك وتعالى والسلطة الإلهية، وتتم الاستعاذة في هذه الحالة، ولا يبقى أثر لها.

قال أبوعبد الله (ع): إن الله (عز وجل) يقول: <وأن إلى ربك المنتهى> «فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا»[15].

من الواضح أن المصنف: صاحب الكافي الشريف (رحمه الله) لقد أورد الحديث فيما يراد منه الإمساك عن الكلام في ذات الله تبارك وتعالى، ولكن ذلك لا يمنع من فهم إشارة الحديث في مطلبنا من البحث.

بحث في مكانة أهل البيت (عليهم السلام)

ولنا في هذا البحث وقفة في غاية الدقة والأهمية، تتعلق بمقام أهل البيت (عليهم السلام)؛ حيث ينبغي علينا الوقوف عنده والاستفادة منه في الهداية إلى الله جل جلاله والسلوك إليه، وسوف نأخذ من الإمام علي بن أبي طالب (ع) نموذجاً؛ تسهيلاً للبحث وإدراك مطالبه، وفيه:

أولاً – قال رسول الله (ص): «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني»[16].

وهذا الحديث الشريف يدل قطعاً على أن علياً (ع) قد بلغ مقام الفناء المطلق في الله جل جلاله، وأن إرادة علي (ع) لا تخالف إرادة الله تعالى في أي أمر، وفي ذلك دليل على عصمته (ع)، و فيه تفسير لبعض ما ورد في القرآن وفي الحديث عن أهل البيت (عليهم السلام)، مثل: أن علياً (ع) وجه الله، فليس لله تعالى وجه، ولكن ما يظهر على وجه علي (ع) من الفرح والسرور يدل على رضا الله تعالى، وما يظهر على وجه علي (ع) من الكراهية يدل على غضب الله تعالى، وكذلك القول: بأن علياً (ع) نور الله، لأنه (ع) يهدي الناس إلى الحق والصواب والصراط المستقيم، وكذلك قول الله تعالى: <وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى>[17] فليس ذلك دليل على الجبر كما ذهب إليه البعض، ولكنه تعبير عن اتحاد إرادة الرامي مع إرادة الله سبحانه وتعالى.

ثانياً – عن أم سلمة (رضي الله تعالى عنها) أنها قالت: سمعت رسول الله (ص) يقول: «علي مع القرآن والقرآن مع علي، لن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض»[18].

وهذا الحديث الشريف عن الرسول الأعظم الأكرم (ص)، يدل بوضوح تام على أن علي بن أبي طالب (ع) والقرآن في رتبة واحدة، وأن علي بن أبي طالب (ع) قد بلغ مقام الفناء المطلق في الله، بدليل أن القرآن الكريم هو التجلي الأعظم لله تبارك وتعالى إلى خلقه، ومن يكون مع القرآن لابد أنه قد بلغ مقام الفناء المطلق في الله تبارك وتعالى.

ويدل قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «علي مع القرآن» على دلالات عديدة، منها الدلالات التالية:

الدلالة الأولى: إن علياً (ع) يعلم كل ما في القرآن، ويكشف عما فيه، وقد قال الله تبارك وتعالى عن القرآن: <وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ>2

الدلالة الثانية: إن علياً (ع) ملازم للقرآن، لا يفارقه ولا يختلف معه في علم أو قول أو عمل، وأنه تجسيد للقرآن في حياته الخاصة، وتجسيد للقرآن في حياته العامة وحكمه بين الناس، وأن كل من يخالف علياً (ع) في قول أو فعل فقد خالف القرآن الكريم.

الدلالة الثالثة: إن علياً (ع) معصوم شأنه في ذلك شأن القرآن الذي قال الله تعالى عنه: < لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ >[19].

وأما قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «والقرآن مع علي» فله أيضاً عدة دلالات، منها الدلالات التالية:

الدلالة الأولى: إن القرآن و علياً (ع) في رتبة واحدة.

الدلالة الثانية: إن علياً (ع) معيار للحق وكاشف عما في القرآن، وأن كل من يفارق علياً أو يخالفه أو يختلف معه في العلم أو القول أو العمل، فقد فارق القرآن، وفارق الحق والخير والعدل وخالفه واختلف معه.

الدلالة الثالثة: إن القرآن يأمر بالرجوع إلى علي (ع) و اتباعه مطلقاً، وعدم مخالفته في أي أمر من الأمور في الدين والدنيا.

وفي الختام: فإن كل ما ثبت للإمام علي بن أبي طالب (ع)، فإنه يثبت لجميع الأئمة الاثنى عشر (عليهم السلام)، بدليل حديث الثقلين.

قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا على الحوض»[20].

ولحديث الثقلين دلالات عديدة، منها الدلالتان التاليتان:

الدلالة الأولى: إن أهل البيت (عليهم السلام) في منزلة القرآن ويعلمون كل ما جاء فيه.

الدلالة الثانية: إنّ كل من خالف أهل البيت (عليهم السلام) خالف القرآن.

الدلالة الثالثة: إنه لا يخلوا زمان من متأهل منهم (عليهم السلام) إلى يوم القيامة.

وتبرز في هذا الدرس لكل سالك طريق الرب تبارك وتعالى ضرورةُ الاستعاذة من كل مخالفة لأهل البيت (عليهم السلام) في العلم والقول والعمل وتقديم غيرهم عليهم.

الحالة الرابعة: أن يحصل للإنسان الصحو والرجوع من الفناء المطلق، وفي هذه الحالة، تكون للاستعاذة حقيقة، ولهذا أمر الله تبارك وتعالى الرسول الأكرم الأعظم (ص) بالاستعاذة.

قول الله تعالى: <وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ 97 وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ >[21]

وتبرز أهمية الصحوة بعد الفناء والرجوع إلى الناس لتبليغهم ما يتلقاه النبي عن الله تبارك وتعالى، وقد وجدنا في الحديث الشريف الذي رواه الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الغشية، قوله (ع): «تلك النبوة يا زرارة».

فالنبوة هي التلقي عن الله تبارك وتعالى، والرسالة هي التبليغ إلى الناس عن الله جل جلاله، وهذا التبليغ يقضي الصحوة والرجوع.

الخلاصة، وفيها النقاط التالية:

النقطة الأولى: إن الإنسان ليس مستعيذاً في مقامين من المقامات الأربعة السابقة، هما:

المقام الأول: في حالة الاحتجاب المحض قبل السلوك (الحالة الأولى) ويكون الإنسان في هذه الحالة واقعا تحت تصرف الشيطان بالكامل، ولا قيمة فعلية للاستعادة ولا حقيقة لها إلا بالتفضل والعناية الإلهية.

المقام الثاني: في حالة ختم السلوك والفناء المطلق (الحالة الثالثة) وقد سبق توضحيه بالتفصيل هناك.

النقطة الثانية: إن الإنسان يكون مستعيذاً في مقامين من المقامات الأربعة السابقة، هما:

المقام الأول: في حالة السير الروحاني والسلوك إلى الله تعالى (الحالة الثانية)، وهو يستعيذ من كل مانع وأشواك الوصول التي قعدت له على الصراط المستقيم.

قول الله تعالى على لسان إبليس عليه اللعنة: <قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ>[22]

المقام الثاني: في حالة الصحو والرجوع بعد الفناء المطلق (الحالة الرابعة) وهو يستعيذ من الاحتجاجات التلونية وغيرها.

الركن الثاني: المستعاذ منه

الاستعاذة ينبغي أن تكون لدفع جميع الشرور والآفات الروحية والجسمية، وهي أمور غير متناهية ولا يمكن حصرها، ونذكر منها على سبل المثال الأمور التالية:

أولا – إبليس اللعين والشيطان الرجيم، الذي يمنع الإنسان السالك من الوصول إلى غاية السلوك ومنتاه؛ حسداً من عند نفسه، لأن الله الجليل تبارك وتعالى طرده من عالم القدس بسبب تركه السجود لآدم أبي البشر (ع).

ثانياً – هوى النفس والقوى الشهوية والغضبية، فهذه لها حالتان، وهما:

الحالة الأولى: أن تروض بالرياضات الدينية وتؤدب بالآداب العقلية والوجدان الأخلاقي، وهي في هذه الحالة، تكون معينة للإنسان في سفره إلى الحق، وتفاصيل ذلك في كتب علم الأخلاق.

الحالة الثانية: إذا لم تروض بالرياضات الدينية، ولم تؤدب بالآداب العقلية والوجدان الأخلاقي، وهي في هذه الحالة، تكون من أعداء الله وأولياء الطاغوت وجنود الشيطان وشريرة مثله، وطيعة لإغواءاته ووساوسه، ومذعنة له في قضاياه الاعتقادية الباطلة، وما يأمرها به من المنكر، وينهاها عنه من المعروف، ومغترة بما يورده عليها من الوعد بالشر في حال مخالفته، والإيعاد بالخير و الآمال الطويلة العريضة، والأماني في حال طاعته، وذلك لأنها واقعة في عالم المادة والظلام والبعد عن الله تبارك وتعالى وفي مهوى الشيطان، ومتطبعة على أفعال وأعمال مهوية للإنسان ومبعدة له عن الإنسانية الرفيعة، ودار الكرامة ومحل القرب من الله جل جلاله ومنبع الخير والنور.

ثالثاً – الأشياء الضارة التي ترد على الإنسان من الخارج، وهي أصناف عديدة، منها الأصناف التالية:

الصنف الأول: الأعداء والخصوم في الدين والدنيا وعلى رأسهم الفراعنة في مشاريعهم التي تقوم على أساس الظلم والإفساد وسلب الحقوق، والطواغيت في مشاريعهم التي تروج للباطل ونشر الضلال بين الناس وإبعادهم عن الحق وصرفهم عنه.

الصنف الثاني: الوحوش والسباع والعقارب والحيات والسموم وغيرها من الكائنات الضارة.

الصنف الثالث: الزلازل والبراكين والصواعق، والهدم والحرق والغرق والمرض والعلل والأسقام والآفات والمتاعب والمشاق وغيرها من الحوادث والوقائع القاتلة المؤذية.

الصنف الرابع: القتل والحبس والنهب والسرقة والظلم والجور والافتراء عليه وشهادة الزور في حقه وغيرها من الأعمال والجنايات الضارة بحقه.

الصنف الخامس: العقائد والآراء الباطلة، والفسوق والمخالفات الشرعية، والأخلاق القبيحة وغيرها من الحالات والأوضاع المضرة بإنسانية الإنسان ودينه وغاية وجوده ومصيره.

ومن الواضح لكل ذي عقل، أن جميع الخلائق ليس لديهم القدرة على دفع جميع هذه الشرور، فحينئذ يلتجئ الإنسان إلى الله العليم القدير الحكيم لدفعها عنهم.

قال الرسول الأعظم الأكرم (ص): «أعوذ بوجه الله الكريم وبكلمات الله التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وشر ما ينزل من الأرض وما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارق يطرق بخير»[23] والطارق بخير: هو الطارق الإلهي الذي يدعو إلى الحق تعالى.

وها هنا ملاحظتان رئيسيتان، وهما:

الملاحظة الأولى: كل شوك وعائق في طريق الحق، وحجاب عن جمال المحبوب فهو شيطان، سواء كان من الجن أم الإنس، وكل مانع من السير والوصول إلى غاية السلوك ومنتهاه والأنس بالمحبوب والخلوة معه والاستغراق في بحر الجمال والجلال، فهو من الشرور، ومرتبط بعالم الشيطان وعمله ومكائده وحبائله، سواء كان من المقامات المعنوية أم العلوم العقلية أو الحرف والصنائع أم المكانة والوجاهة الاجتماعية أو العيش والراحة أو المشقة والذلة وغيرها، ولابد من الاستعاذة منها.

الملاحظة الثانية: إن الشرور المشار إليها في البحث متفاوتة المراتب في الشرية، وكلما كانت شرية الشيء أعظم، يجب الاستعاذة منه أكثر، ومعلوم أن شرور الآخرة أشد من شرور الدنيا؛ بل لا نسبة بينهما، كما لا نسبة بين خيرات الآخرة وخيرات الدنيا، لأن بقاء الأخروي غير متناهٍ، والتفاوت في نوع اللذات الدنيوية والأخروية تفاوت كبير جداً لا يمكن قياسه بالمقاييس الدنيوية، وكذلك التفاوت بين طبقات الجنان ولذاتها، فالتفاوت بين أهل اليمين وبين الأبرار والمقربين تفاوت كبير. كبير لا يخطر على بال أحد، فما يناله أهل الجبروت والملكوت من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين والأولياء الكاملين سلام الله عليهم أجمعين، ومن يتلوهم من السعداء الصالحين من ملاحظة جمال الله وجلال حضرة رب العالمين، لا يمكن قياسه إلى اللذات التي ينالها أهل اليمين؛ فضلاً عن اللذات التي ينالها أهل الحواس الخمس من البهائم والسباع والدواب والأنعام ومن يحذو حذوهم من لذات البطن والفرج والرياسة في هذه الحياة الفانية المشوبة بالكدورات الممزوجة بالآفات.

فالاستعاذة مما يضر الدنيا ويضاد للسعادة فيها، على النسبة التي بين خيرات النشأتين وشرورها.

ثم إن أعظم تلك الأمور تأثيراً في الإضرار بجوهر النفس الإنسانية بحسب النشأة الآخروية، هي القوى الحيوانية المدركة والمحركة؛ أعني: الهوى والقوة الشهوية والغضبية، إذا لم ترتض بالرياضات الدينية ولم تتأدب بالآداب العقلية، تتحول من الولاية لله الواحد الصمد، إلى أعداء له جل جلاله، وأولياء للطاغوت وجنود الشيطان، لأنها واقعة في عالم البعد عن الله جل جلاله وفي مهوى الشيطان، وتكون مطبوعة على أفعال وأعمال مهوية مهلكة مبعدة للإنسان عن دار الكرامة ومحل القرب من الله ذي الجلال والإكرام ومنبع الخير والنور، فلا جرم أنها (أي القوى) تجيب دعوة الشيطان الذي هو رئيس الظلمة وولي أهل الظلمات، وتُدخل الإنسان إلى ساحته وفي حكومته، فيجب على كل إنسان أن يستعيذ أشد الاستعاذة من شرورها.

إن هذه القوى التي زود الله المبدع بها الإنسان، تعتبر معينة له في سفره إلى الحق وتحقيق غاية وجوده، إذا حافظ الإنسان على سلامتها ونقائها من التلوث، وألزمها بطاعة العقل والشرع، وتعتبر وبالاً عليه ومن جنود الشيطان وشريرة مثله عندما تخرج عن دائرة الفطرة وطاعة العقل المنور بنور الشرع.

وقد جاء في دعاء الحزين الذي كان الإمام زين العابدين (ع) يدعو به بعد صلاة الليل، قوله (ع): (فيا غوثاه ثم واغوثاه بك يا الله من هوىً قد غلبني، ومن عدو قد استكلب عليّ، ومن دنيا قد تزينت لي، ومن نفس أمارة بالسوء إلا ما رحم ربي).

الركن الثالث: المستعاذ به

مما ورد في القرآن الكريم والحديث الشريف، أن الاستعاذة على وجهين، وهما:

الوجه الأول: أن يقال (أعوذ بالله).

قول الله تعالى: <فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ >[24]

وفي الحديث عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «أوحى الله عز وجل إلى داوود (ع)، ما اعتصم بي عبد عن عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيته، ثم تكيده السماوات والأرض ومن فيهن، إلا جعلت له المخرج من بينهن، وما اعتصم عبد من عبادي بأحد خلقي، عرفت ذلك من نيته، إلا قطعت أسباب السماوات والأرض من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبال بأي واد هلك»[25].

وقد ذكرت في الركن الأول بأن الاستعاذة متحققة في السلوك إلى الله تعالى في جميع مراتب الوصول ومنازله، فتختلف الاستعاذة بالله على حسب مقامات السالكين ومنازلهم.

قول الله تعالى:< قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ 1 مَلِكِ النَّاسِ 2 إِلَهِ النَّاسِ 3 مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ 4 الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ 5 مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ>[26]

المقام الأول: الاستعاذة برب الناس، وذلك في بداية سلوك الطريق إلى الله تعالى، والتخلص من رؤية الكثرة، ونسبة الأفعال كلها إلى الرب الواحد الأحد الصمد، بعد أن كان ينسبها إلى غيره، ويعترف بالربوبية إلى الله تعالى، وينضوي تحت لوائها معترفاً نادماً على ما بدر منه من المخالفة لأمره ونهيه.

والرب هو الأقرب من الإنسان، وأول ما يلتفت إليه السالك في أول الطريق، لأن الرب هو الذي يلي أمره ويدير شؤونه ويربيه ويرجع إليه في جميع حوائجه، ويشعر بالحاجة إلى عونه في دفع ما يهدده من الشر.

المقام الثاني: الاستعاذة بملك الناس، ذي القوة والسلطان والحكم النافذ، الذي يقصده من لا ولي له فيقضي حاجته، ولازم الاعتراف بالمالكية لذي الملك: الخضوع التام لحكومته، والتسليم المطلق لأمره ونهيه. ويستعيذ به السالك لتطهير القلب من تصرفات الشيطان وسلطنته الجائرة، ويعرف هذا المقام بمقام القلب.

المقام الثالث: الاستعاذة بإله الناس، المعبود وحده لا شريك له، ولازم ذلك إخلاص العبد نفسه له، فلا يدعو إلا إياه، ولا يرجع في شيء من حوائجه إلا إليه، ولا يريد إلا ما أراده، ولا يعمل إلا ما يشاء، وإنما قصده وسار في طريق عبوديته وحده لا شريك له، عن معرفة وإخلاص لا عن طبعه المادي. ويستعيذ به السالك حين تتصل روحه بالإله المعشوق، والهيام في بحر جماله وكماله وجلاله، ويعرف هذا المقام بمقام الروح.

المقام الرابع: الاستعاذة بالله من الله، (اللهم إني أعوذ بك منك) ويعرف هذا المقام بمقام السر، وقد سبق بسط الكلام فيه.

والاستعاذة باسم الله تبارك وتعالى، تناسب جميع المقامات، لأنها الاستعاذة المطلقة، لجامعية الاسم، أما سائر الاستعاذات، فهي استعاذات مقيدة، وسوف يوضح الموضوع أكثر في دراسة مضامين البسملة.

الوجه الثاني: أن يقال: (أعوذ بكلمات الله)

فما هو المراد بكلمات الله؟

في البداية: علينا أن نستحضر بأن قول الله سبحانه وتعالى وكلماته ليس من جنس الأصوات والحروف، وإنما هي موجودات مقدسة روحانية أمرية، وهي وسائط بين الله تعالى وبين الأكوان الخلقية، وبها نفاذ علمه وقدرته وسريان مشيته وإرادته في الكائنات، بحيث يستحيل أن يعرض له مانع أو عائق.

قول الله تعالى: إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ>[27]

فقد أطلق الله تبارك وتعالى على عيسى ابن مريم (ع) بأنه: (كلمة منه)، وهكذا الحال في الملائكة وغيرهم.

والاستعاذة بكلمات الله تعالى التي هي وسائط من عالم الأمر والنور بين الله تبارك وتعالى وبين الأكوان الخلقية، لأنها بريئة من كل شر وقصور وآفة، بخلاف ما في عالم الخلق، فإن الأجسام مصابة بالآفات والشرور، فوجب الاستعاذة من شر ما خلق بما في عالم الأمر، فالاستعاذة بكلمات الله تعني: الاستعانة بالأرواح العالية المقدسة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة.

وهنا تجدر الإشارة إلى بعض الملاحظات المهمة، وهي كالتالي:

الملاحظة الأولى: يقول صدر المتألهين الشيرازي: «إن الاستعانة بكلمات الله إنما يحسن ويليق لأن الاستعانة بها من حيث هي كلمات الله وأمره، استعانة به تعالى لا بغيره، وأما الاستعاذة بها من حيث هي موجودات ممكنة بذواتها، موجودة بوجود جوهري إمكاني افتقاري، فلا يحسن ولا يليق، لأنها حينئذ يكون الاستعانة بها استعانة بغير الحق، ومن استعان بغير الحق ذل»[28].

الملاحظة الثانية: يقول صدر المتأهلين الشيرازي: «ثم لا يخفين عن فطنتك، أن قول العبد (أعوذ بكلمات الله التامات) من حيث هي متغايرات غيريات، إنما يلائم له ويليق به، إذا كان بعد غير واصل إلى صفو العبودية ومقام الرجوع التام، ويكون قد بقي في نظره التفات إلى غير الله، فهو بعد مريد نفسه وقاصد حظه، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد وتوغل في بحر الحقائق، وصار لا يرى في الوجود إلا الله الواحد، لم يستعذ إلا بالله، ولم يلتجئ إلا إليه، ولم يعوّل إلا عليه، فلا جرم يقول: أعوذ بالله، وأعوذ من الله بالله. كما قال النبي (ص): أعوذ بك»[29].

الركن الرابع: المستعاذ له

وهي الغاية التي يستعيذ الإنسان لأجلها بالله تعالى وبكلماته مما هو شر ووبال عليها، ومعلوم أن مطالب الإنسان في الكمال غير متناهية، ومقابلاتها في السقوط إلى الحضيض غير متناهية، فالسلوك مقامات، وغاية السالك الحقيقية في كل مقام حصول الكمال والسعادة والخير في ذلك المقام، وبالتالي فالغاية تتفاوت حسب مراتب السالكين ومقاماتهم، ففي بادي السلوك، ما دام السالك في بيت النفس وحجاب الطبيعة (الحالة الأولى) تكون غاية سيره حصول الكمالات النفسانية والسعادات الطبيعية، فإذا خرج السالك من بيت النفس، وذاق شيئاً من المقامات الروحية والكمالات المعنوية التجريدية (الحالة الثانية) يصير مقصوده الكمالات القلبية والسعادة الباطنية، وهي أعلى وأكمل من الكمالات النفسية والسعادات الطبيعية، فإذا واصل السير ودخل منزل السر الروحي(الحالة الثالثة) تبرز في باطنه مبادئ التجليات الإلهية، وفي هذا المنزل مقامات أولها: (وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض) وآخرها(وجهت وجهي له) والحق تبارك وتعالى هو غاية الغايات، ومنتهى السلوك والطلبات.

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «إلهي ما عبدتك خوفاً من عقابك، ولا طمعاً في ثوابك، ولكن وجدتك» – تأمل ملياً لفظ وجدتكَ – «أهلا للعبادة فعبدتك»[30].

ولكل أحد وفي كل مقام من هذه المقامات، ولكل سعادة من هذه السعادات شيطان مخصوص وحبائله المانعة من حصول السعادة المطلوبة والكمال المترقب، ولابد للسالك أن يتعوذ بالحق تبارك وتعالى من ذلك الشيطان وشروره وحبائله للوصول إلى المقصود الأصلي والمنظور الذاتي في ذلك المقام، وكلما كان السالك أفضل وأجل، ومقامه أعلى و أكمل، كان شيطانه أقوى وأغوي وأضل عن طريق الاستقامة، وله في لطائف الحيل وجوه أدق وأخفى.

وانتهى البحث في المدخل الأول


  • [1] جامع السعادات، ج 3، ص 349
  • [2] الصحيفة السجادية، في الاستعاذة من المكاره و سيئ الأخلاق ومذام الأفعال
  • [3] الأنعام: 162-163
  • [4] النمل: 80-81
  • [5] الأعلى: 14-15
  • [6] البقرة: 2
  • [7] البقرة: 6
  • [8] النمل: 81
  • [9] سورة التكاثر
  • [10] النجم: 41
  • [11] الصحيفة السجادية، مناجاة الراغبين
  • [12] كنز العمال، ج 8، ح 22663، ص 225
  • [13] تفسير القرآن الكريم، ج 1، ص 12
  • [14] توحيد الصدوق، باب: ما جاء في الرؤية، ص 115
  • [15] الكافي، ج 1، باب: النهي عن الكلام في الكيفية، ح 2، ص 92
  • [16] مستدرك الوسائل، ج 3، ص 121
  • [17] الأنفال: 17
  • [18] مستدرك الوسائل، ج 3، ص 124
  • [19] فصلت: 42
  • [20] مستدرك الوسائل، جزء 3، صفحة 148
  • [21] المؤمنون: 97-98
  • [22] الأعراف: 116
  • [23] تفسير الشيرازي، ج 1، ص 15
  • [24] النحل: 98
  • [25] الكافي، ج 2، باب: التفويض إلى الله والتوكي عليه، ح 1، ص 63
  • الباب كله وفيه ثمانية أحاديث، كلها يخدم هذا الغرض
  • [26] سورة الناس
  • [27] آل عمران: 45
  • [28] تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين، ج 1، ص 12
  • [29] نفس المصدر، ص 12
  • [30] بحار الأنوار، ج 41، ص 14
المصدر
كتاب الاستعاذة | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى