مواضيع

مرابطة العلماء الروحانيين في حراسة الحدود الإلهية والإنسانية

لقد أصبح في غاية الوضوح حجم ونوعية المخاطر التي تهدد المسيرة الإنسانية العظيمة في الأرض، فالظلم في العالم المعاصر كثير كثير، وشبهات الشياطين ووساوسهم كثيرة كثيرة، و إن البشرية مهددة بالانسلاخ من إنسانيتها في ظل الأطروحات الوضعية الشيطانية وفرض مناهج الشيطان في الحياة بالإغراءات وقوة السلاح والاستبداد، وكلنا مطالبون بالوقوف في وجه الأطروحات والمناهج ومقاومتها بكل الأساليب المشروعة المتاحة، ولكن العلماء الروحانيين عليهم مسؤولية مضاعفة في ذلك، فهم القادة الحقيقيون في حماية ثغور الدين والإنسانية.

قال الإمام الصادق (ع): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب. ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا، كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم»[1].

فهذا الرباط المقدس على ثغور العقائد والإنسانية، الذي تمثل قلوب ضعفاء المسلمين وعقولهم حدوده، وهي حرم الله الذي لا ينبغي للشيطان وعفاريته المضلين أن يدخلوها، هذا الرباط هو أفضل أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، ومن واجبات المرابطين: رصد حركات العدو، وسد المنافذ التي يمكن للعدو الدخول منها إلى الحدود الشرعية المقدسة لقلوب ضعفاء المسلمين وعقولهم، فعلى العلماء الروحانيين العاملين أن يحرسوا هذه الحدود الشرعية المقدسة، وأن لا يسمحوا لإبليس وعفاريته أن يدخلوها وينتهكوا حرماتها، وأن يستحضر العلماء الروحانيون أنهار الدماء الطاهرة المقدسة من الأنبياء والأوصياء والمؤمنين التي سفكها الأعداء في سبيل اقتحام هذه الحدود ولم يسمحوا لهم بذلك، والمطلوب من المرابطين على هذه الحدود المقدسة أن يعرفوا قيمة هذه الحدود عند الله جل جلاله وفي الحضارة الإنسانية على الأرض وحجم مسؤولياتهم عنها، وأن لا يهنوا ولا يضعفوا في الدفاع عنها وحمايتها من انتهاك ودخول الأعداء إليها، وإلا فهم ليسوا أهلاً للشرف الذي تعنونوا به، وإن فعلوا ما أمرهم الله تعالى به في الدفاع عن الحدود وحمايتها من انتهاك الأعداء لها، كان عملهم أفضل من الدفاع عن الحدود المادية للأرض الإسلامية والمصالح والمكتسبات المادية والدنيوية للمسلمين، فليست الدنيا كالآخرة، وليست المصالح المادية كالمصالح الدينية والمعنوية للإنسان في نفسه ودنياه وآخرته، وأول ما يحصل عليه من الثواب أن الله تعالى يلقنه حجته في قبره.

قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع): «من قوّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته، على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله تعالى يوم يدلي في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخوتي، فيقول الله، أدليت بالحجة، فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة»[2].

وأما عن ثواب الآخرة، فقدقالت الصّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع): سمعت أبي رسول الله (ص) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف خلعة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذ عنهم من العلوم، حتى إن فيهم لمن يخلع عليه مائة ألف حلة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم.

ثم قالت (عليه السلام): إن سلكاً من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف مرة.[3]

وقال علي بن الحسين (ع): «أوحى الله تعالى إلى موسى: حببني إلى خلقي, وحبب خلقي إليّ. قال: يا رب كيف أفعل؟ قال: ذكرهم آلائي و نعمائي ليحبوني، فلئن ترد آبقاً عن بابي أو ضالاً عن فنائي، أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها.

قال موسى (ع): ومن هذا العبد الآبق منك؟

قال: العاصي المتمرد.

قال: فمن الضال عن فنائك؟

قال: الجاهل بإمام زمانه تعرفه، والغائب عنه بعد ما عرفه، والجاهل، تعرفه شريعته وما يعبد به ربه ويتوصل به إلى مرضاته.

قال علي بن الحسين (ع): فبشّروا علماء شيعتنا بالثواب الأعظم والجزاء الأوفر»[4].

لنتأمل بدقة كبيرة ما جاء به الحديث الشريف، يقول: بأن الذي يستطيع أن يرجع آبقاً أو يهدي ضالاً إلى ربه فعلمه أفضل من مائة سنة عبادة، ليست من عبادتنا وصلاتنا وصومنا نحن، وإنما من عبادة وصلاة وصوم نبي الله وكليمه وأحد أولي العزم: موسى بن عمران (ع)، فعلينا أن نعلم هذه القيمة العظيمة جداً لهداية الناس إلى الله تبارك وتعالى، وألا نقصر في الدعوة إلى الرب الرحيم وهداية الناس إليه.

المطلوب منا ليس لعن العاصين والمقصرين والشماتة بهم أو التكبر عليهم ونزعم بأننا خير منهم، وإنما المطلوب هو الحرص على هدايتهم إلى الله ربهم الرحمن الرحيم تبارك وتعالى، وإعادتهم إلى حظيرة قدسه وطاعته وولايته، هذا هو المطلوب من المؤمنين و لاسيما العلماء الروحانيين منهم، ولنقتدي في ذلك بالأئمة (عليهم السلام)، ومن ذلك موقف الإمام موسى بن جعفر الكاظم (باب الحوائج) (ع) مع أبي نصر بشر بن الحارث، الذي كان من أصحاب المعازف والملاهي، فلما سمع عن انحرافه وغواية الشيطان الرجيم له، لم يلعنه، ولم يشتمه، وإنما قصده وتوجه لإعادته، نعم إعادة هذا العبد الآبق إلى ربه الرحمن الرحيم، الذي يحب عودة عباده الآبقين إليه، والإمام موسى بن جعفر (ع) هو رسول الرب الرحيم إلى عباده، يعرفهم به، ويهديهم إليه، وإنه يقف بكل قوته وبكل ما يملك على الجبهة المضادة للشيطان، ووظيفته إنقاذ عباد الله الرحمن من مخالب الشيطان الرجيم، وليس لعنهم وشتمهم أو التفرج عليهم وعدم الاكتراث بهم، وقد ضحى الإمام الحسين (ع) بنفسه وبأهل بيته و خاصة أصحابه من أجل هداية الناس وإنقاذهم من الشيطان ومن مخالب أئمة الضلال مثل يزيد بن معاوية ومن على شاكلته، وكل مؤمن لاسيما العلماء الروحانيين هم رسل الرب الرحمن الرحيم إلى عباده جميعاً.

لقد خرج الإمام الحنون الحريص على الناس جميعاً موسى بن جعفر (ع) من بيته، وتوجه إلى باب دار العبد الآبق (بشر بن الحارث) في الوقت الذي كان يجتمع فيه هذا العبد الآبق مع أصحابه الآبقين في بيته لسماع الغناء والمعازف وشرب الخمر، فلما وصل على باب الدار، وإذا بجارية تفتح الباب، وتخرج من البيت لترمي بآثار الجريمة في الطريق، فسألها صاحب القلب الرحيم الحريص على الناس: بيت من هذا؟

فأجابت: بيت سيدي فلان.

فسألها العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر (ع): سيدك هذا حر أم عبد؟!

فقالت متعجبة: أقول لك سيدي فتسألني حر هو أم عبد؟!!

فقال (ع): نعم؛ حر أم عبد؟!

فأجابت: هو حر.

فقال (ع) ليبلغ الرسالة للعبد الآبق: صدقت لو كان عبداً لخاف مولاه!!

ولما دخلت البيت سألها مولاها الآبق: ما أبطأك؟

فأبلغته الرسالة المختصرة جداً، والبليغة جداً.

قالت: رجل مارّ في الطريق تبدو عليه آثار الصلاح والتقوى، فسألني بكذا وأجبته بكذا!! فلما أنهت حديثها فكر ملياً فيما نقلته إليه، وعرف على الفور صاحب الرسالة البليغة الصادقة ومعدنها الإنساني الأصيل، ووقع أثر الرسالة في قلبه، ففتحته على مصراعيه لتلقي النور والرحمة، وخرج حافياً يجد في طلب صاحب الرسالة، الأب الحنون الحريص على الناس جميعاً.

فلما بلغه وقع على قدميه يقبلهما!!

قال: سيدي هل لي من توبة؟

قال (ع): نعم؛ تب يتب الله عليك!!

فتاب العبد الآبق: (بشر بن الحارث)، على يدي العبد الصالح: (الإمام موسى بن جعفر (ع)) توبة نصوحا، ولم ينتعل (بشر) من يومه ذاك نعالاً حتى مات، ليبقى يتذكر خروجه حافياً ليتوب إلى ربه عز و جل على يد سيده ومولاه الإمام موسى بن جعفر (ع)، وليخلّد لنا درساً في أخلاق المؤمنين ومنهجهم في الدعوة إلى الله المحمود، وما يحملونه في قلوبهم من الرحمة على الناس جميعاً، وما يحملونه من الحكمة في الدعوة والحياة.

وقد أصبح (بشر بن الحارث) بعد يومه ذاك عارفاً عابداً زاهداً، وصار يعرف بـ(بشر الحافي) عليه الرحمة والرضوان.

وهكذا ينبغي أن يكون كل مؤمن بفطرته السليمة، حريصاً على هداية الناس جميعاً، وعودة العاصين: الآبقين والضالين إلى ربهم الرحمن الرحيم الذي يشفق عليهم ويشتاق إلى عودتهم.

قول الله تعالى: <وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ>[5]

فليس المطلوب من المؤمن لعن العاصين والضالين والتشفي منهم والتكبر عليهم، فليس هذا بمنهج المؤمنين، وليس بخلقهم وتربيتهم، وليس بأدبهم الرباني الذي تأدبوا عليه، وليس بلون فطرتهم المصبوغة بالرحمة والمحبة والطيبة، والطاهرة من التلوث والتكبر والشماتة واحتقار الآخرين والتشفي منهم، وليس بالذي يرضي ضمائرهم الحية، وليس بالذي يعبر عن وجدانهم الديني والأخلاقي النبيل، وليس بالذي يحقق أهدافهم وغاياتهم العالية والسامية في الحياة.

قال الله تعالى في وصف النبي الأعظم الأكرم (ص): <لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ>[6]


  • [1] الاحتجاج، ج 1، ص 8
  • [2] نفس المصدر، ج 1، ص 10
  • [3] بحار الأنوار، ج 2، ص 3
  • [4] نفس المصدر، صفحة 4
  • [5] الأنعام: 54
  • [6] التوبة: 128
المصدر
كتاب الاستعاذة | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى