فلسفة الاستعاذة
ما من موجود في الممكنات إلا وله كمال من جهة وفقر من جهة ثانية، ولكل منها عشق لما حصل من الكمال، وشوق إلى ما هو فاقد له منه، ولهذا حكموا بسريان العشق والشوق في كل الموجودات[1].
والإنسان بحسب فطرته الأصلية التي أبدع عليها في أول أمره ومبدأ تكوينه، يمتاز من بين الموجودات بأنه ذو بعدين، وأنه واقع بين تصرف الشيطان وتصرف الرحمن كما سبق توضيحه، وأن أمر الله تعالى للإنسان بالاستعاذة هو من أجل خروج الإنسان من تحت تصرف الشيطان ودخوله تحت تصرف الرحمن، والبُعدان هما:
البعد الأول: البعد الإنساني
ويسمى العقل والروح، وهو الجانب الملكوتي النوراني والنفخة الربانية للإنسان، ولهذا البعد قدر عظيم ومنزلة عالية شريفة، وهو مسجود الملائكة.
قال الله تعالى: <وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 28 فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ>[2]
وبسبب هذه النفخة الربانية وجدنا السير التكاملي للإنسان وقَطْع منازل القرب والزلفى من العلي الأعلى سبحانه وتعالى، وشاهدنا ما يتنعم به الإنسان من لذات روحية؛ كلذة العبادة والعلم والمعرفة والتعاون ومساعدة الآخرين و… الخ، ومن جنود هذا البعد الرباني: العفة والصبر والحلم وكل الفضائل ومكارم الأخلاق، وهي تصون العبد من المعاصي، وتهديه إلى صراط العزيز الحميد، وبها يراعي الإنسان حدود الله الرب الرحمن الرحيم، وحقوق العباد ومصالحهم، وتتكون لدى الإنسان مجموعة الإدراكات والمشاعر التي تجعله يرتفع فوق مستوى الحيوانات، ويتجاوز بتفكيره حدود الماديات والمصالح المادية كالوضع المعاشي والغذاء والسكن، ويتعداها إلى المعنويات وقيم العقل والدين والأخلاق.
البعد الثاني: البعد الحيواني
ويسمى الجسم وهو مجموعة الغرائز والميول لدى الإنسان، وهذا البعد مظلم وهو مصدر لجميع الشرور والجرائم والدمار والفساد والظلمات والنيران في العالم التي يثيرها الفراعنة والطواغيت وقوى الاستكبار العالمي وكل السيئين في العالم من الحروب الظالمة المدمرة على الشعوب والدول المستضعفة، وسفك الدماء والقتل بغير حق خارج دائرة القانون، والظلم للناس والاعتداء على حقوقهم العادلة ومصالحهم ومكتسباتهم المشروعة، ويلصق هذا البعد الإنسان بالأرض، ويدخله إلى الظلمات الروحية والمعنوية، ولا يسمح له بالتحليق في فضاء النور والفضيلة، فهو لا يريد للإنسان أن يتوجه للعبادة لأنها صعبة ومتعبة، ولا يريد للإنسان أن يعطي من أمواله لأنه يخاف الفقر و… إلخ، ويكون الإنسان مع الركون لهذا الجانب من أولياء إبليس، وأكثر وحشية من كل حيوان وأكثر ظلمة، وهذا البعد المنظور في اندهاش الملائكة وتعجبهم.
قول الله تعالى: <وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ>[3]
ومن الواضحات لدى علماء الأخلاق وأصحاب العرفان، و إن الإفراط في لذات الجسم حتى المباح منها – مؤلم للروح؛ كالإفراط في الأكل والشرب والنوم وإشباع الشهوات وكسب المال.
ولو أمعنا النظر في غرائز الإنسان، لوجدنا الشقاوة والظلام كامنين فيها متى أرسل لها الإنسان العنان، فلا يمنعه مانع من فعل الشر. فإذا غلبته الغريزة الجنسية، مثلاً: فإنه لا يغض بصره عن أعراض الآخرين ولو تزوج بنساء الدنيا كلها، وإذا تغلبت عليه غريزة حب المال، فلا يملاً عينيه شيء وإن ملأ بنوك الشرق والغرب من الأموال وملك الأرض كلها، ولن يملاً عينيه إلا التراب، وإن سيطرت عليه غريزة الرئاسة، فإنه يكون مستعداً لقتل العالم كله في سبيل الحصول على الرئاسة أو البقاء فيها.
ملاحظات مهمة
وهنا تجدر الإشارة إلى عدة ملاحظات مهمة في موضوع البحث، وهي:
الملاحظة الأولى: إن الإنسان يملك حرية الاختيار بين السير في طريق الحق والخير والنور أو السير في طريق الباطل والشر والظلام، و إن قيمة الإنسان وميزته تكمن في هذه القدرة على الاختيار، فإن اختار طريق الحق والعدل والخير والنور، كان أفضل من الملائكة، وإن اختار طريق الباطل والظلم والشر والظلام، كان أخس من البهائم.
قال الله تعالى: <إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا 2 إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا>[4]
وقال تعالى: <وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ>[5]
وقال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا 7 فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا 8 قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا 9 وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا>[6]
والنتيجة: إنّ الاستعاذة ليست مجرد موقف يتطلع فيه الإنسان إلى الله سبحانه وتعالى لكي يحل مشكلته ويرفع مكانه بدون أن يقوم بأي جهد إرادي في طريق الهداية والصعود، وإنما تعني أن الإنسان يفر من مصادر الشر والظلام والفساد في الأرض، يفر من الفراعنة المستبدين، والطواغيت الضالين، وقوى الاستكبار العالمي الناهبين لثروات الشعوب ومقدراتها، وكل السيئين من الأتباع والعملاء الكلاب، ويستجير بربه القوي العزيز، ويستمد منه القوة والنور والهداية في طريق الحق والخير والعدل والإصلاح في الحياة، لينطلق من خلال ذلك كله لمواجهة المواقع المضادة التي تصنع الفاسد والظالم والظلام في الأرض بكل يقين وقوة وصمود وثبات، وبذلك ينتصر في ساحة النفس والمجتمع بالإرادة والإيمان والممارسة، ويخرج نفسه ومجتمعه من ساحة الشيطان وحكومته، ليبقى بحق وحقيقة في ساحة الله تبارك وتعالى وسلطانه.
الملاحظة الثانية: إن الإنسان إذا اختار طريق الحق والعدل والخير والنور وسيطرة البعد الروحي الإنساني، الذي هو طريق تزكية النفس وتطهيرها وتهذيبها، وسيطرة الشرع والعقل والوجدان الأخلاقي على البعد الحيواني، وركب هذا البراق الإنساني الذي لا يملكه أي ملك مقرب حتى جبرائيل (ع)، فإنه بما يملك في ذاته من قوة الارتقاء والسير التكاملي والاستعداد والأهلية لاكتساب كل فضيلة وكمال، والتخلص من الشرور والآفات، والعروج إلى قمة الكمال، والاتصال بعالم الأنوار، والسكن في عالم الملكوت الأعلى، متنقلاً في ذلك من مقام إلى مقام، ومن منزلة إلى منزلة، فما من مقام أو منزلة يصل إليها إلا ويشتاق إلى ما ورائها ولا يقنع بها حتى يحصل إلى الكمال الأتم والغاية القصوى والجلال الأرفع والنور العظيم في الحضرة الإلهية؛ حيث يصل إلى حالة الانقطاع عما سوى الله تبارك وتعالى، والعبودية المطلقة له وحده لا شريك له؛ حيث لا يرى في الوجود إلا الله الواحد الأحد، ولا يعلم بشيء في الوجود سواه، ولا يسيطر على قلبه أي شيء إلا الله تبارك وتعالى، ويكون قلبه عرش الرحمن، وهو منتهى الكمال الإنساني ونهاية طريق السلوك والسعادة الحقيقية ومنبع السرور ومعدن الخير والنور، فالإنسان كلما اقترب في حركته التكاملية من الساحة الإلهية المقدسة، عن طريق الطاعة والعبودية لله الواحد القهار، حاز الكمالات الإنسانية أكثر، ويكون نصيبه من النعم الإلهية والسعادة أوفر.
ومن الواضح جداً – مما سبق – لكل فطن لبيب، أنه لا يوجد حد نهائي لمسيرة الإنسان التكاملية، فحده النهائي عند الله تبارك وتعالى وفي جواره، وعندما يصل إلى ذلك الحد، فإنه يبقى متمتعاً بالإفاضات الربوبية، إفاضة بعد إفاضة، وكمال فوق كمال، ونظرة بعد نظرة، وقد وصل الرسول الأعظم الكرم (ص) إلى مقام الخاتمية والولاية والعروج إلى الحد الفاصل بين الخالق والمخلوق بسبب تزكيته لنفسه، وعبوديته المطلقة لرب الأرباب خالق العباد وخالق كل موجود.
يُروى عن الرسول الأعظم الأكرم (ص) أنه قال بما معناه: «رأيت ليلة المعراج مكان ومقام الذين يدخلون الجنة، ورأيت قصوراً أوسع من الدنيا بنيت من اللؤلؤ والمرجان، وجاء الخطاب يا رسول الله: هذه القصور هي لعبادي الذين عرفوني. يا رسول الله: إنني أنظر إلى عبادي هؤلاء سبعين مرة كل يوم، و أفيض عليهم في كل نظرة، ثم أقول لهم: يا عبادي: ليتنعم أهل الجنة بنعمهم، ولتكن نعمتكم هي حديثي معكم وحديثكم معي أي أكلمكم وتكلموني».
قال الله تعالى: <وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ 22 إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ >[7]
وقال الله تعالى: <إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54 فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ>[8]
وقال الله تعالى عن امرأة فرعون آسية بنت مزاحم رضي الله تعالى عنها وأرضاها: <وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ>[9]
تأمل قولها: (عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ).
لم تقل: بيتاً في الجنة، وإنما قالت: عندك؛ أي بقربك وفي جوارك.
فهذه المرأة الصالحة: ترى بأن العيش في قصر فرعون ونظامه الطاغوتي سجن لروحها الإنسانية الطاهرة، وترى أيضاً: بأن العيش في الجنة بعيدة عن الله تبارك وتعالى سجن كذلك، فهي تريد أن تعيش في الجنة قريبة من المحبوب، لكي تقر عينها بالنظر إلى المحبوب والحديث معه.
قول الله تعالى: <فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ>[10]
فالذي يريد السير التكاملي بالنفس البشرية وقطع منازل القرب من الله تبارك وتعالى منزلاً بعد منزل، عليه أن يبدأ بتهذيب النفس وتزكيتها وتطهيرها، وأن يتوجه إلى الله في كل ما يقوم به من الأعمال صغيرها وكبيرها، وأن يخلصها من الشوائب التي تزلق الإنسان إلى مهاوي الضلال والردى، وألا يخضع للشيطان والفراعنة والطواغيت وقوى الاستكبار العالمي، ولا يخضع للهوى والنفس الأمارة بالسوء، ولا يستسلم للغرائز والشهوات وما تمليه عليه نفسه الضعيفة من الضعف والجبن والبخل والراحة والكسل والخمول و… إلخ، فإن هو فعل ذلك، فسوف تكون السعادة في الدارين من نصيبه، ويبلغ أعلى الدرجات في الجنة وأشرفها منزلة، كما اتضح فيما سبق.
قول الله تعالى: <قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين 162 لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ >[11]
و إن أول مراحل السير إلى الله تبارك وتعالى اتّباع العقل.
عن أبي جعفر (ع) قال: «لما خلق الله العقل استنطقه، ثم قال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إليّ منك، ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، و إياك أنهى، و إياك أعاقب، و إياك أثيب»[12].
و سُئل الإمام الصادق (ع): ما العقل؟
قال (ع): ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان.
قال السائل: فالذي في معاوية؟
قال (ع): تلك النكراءّ، تلك الشيطنةّ وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل.[13]
ومن جهة ثانية: إذا اختار الإنسان طريق الباطل والظلم والشر والظلام، ولم يرتض بالرياضات الدينية، ولم يتأدب بالآداب العقلية والوجدان الأخلاقي، وسمح بسيطرة الجانب الحيواني الذي هو مجموعة من الشهوات والغرائز الحيوانية على الجانب الإنساني، فإن الإنسان يصبح من أعداء الله تبارك وتعالى وأولياء الشيطان الغوي الرجيم، وإن الهوى والشهوة والغضب وما ينتج عنهما من ميول مثل حب المال والثروة، وحب الرئاسة والسلطة، تسيطر على العقل وتستخدمه لمصلحتها، لأنه واقع في عالم البعد عن الله تبارك وتعالى وفي مهوى الشيطان الغوي الرجيم، حتى يصبح الإنسان أشد وحشية من أي حيوان مفترس على وجه الأرض، ويصل إلى حد الانسلاخ من إنسانيته تماماً، والكون من جنود إبليس والفراعنة والطواغيت، يشاركهم في مخططاتهم لظلم الناس و إضلالهم وإهلاكهم وسلب حقوقهم العادلة المشروعة والترويج إليها، ويمكن أن يكون واحداً منهم، فلا يرى الحق، ولا يسمع الموعظة، فيصنع القنبلة الذرية ويفجرها ليقتل بها مئات الآلاف من الناس الأبرياء، ويسجن ويشرد ويسلب الحقوق العادلة والمكتسبات المشروعة من الناس، كل ذلك من أجل الرئاسة والسلطة وحب المال والثروة. والمحصلة النهائية لهؤلاء الأشقياء التعساء السقوط إلى قعر جهنم وبئس المصير.
إن الإنسان ما لم يراعِ الحدود الشرعية الإلهية، ويضع حداً للهوى والشهوات والغضب، ويتأدب بآداب العقل والشرع والوجدان الأخلاقي ويزكي نفسه ويعقلها، فإن نفسه الحيوانية المنقادة للشيطان وجنوده سوف تحرقه في الدنيا قبل الآخرة، ولو أتيح لها فإنها سوف تحرق العالم بأسره و تؤججه بنارها، فإن النار الكامنة في النفس الحيوانية الآمرة بالسوء، أشد خطراً على الإنسان من النار التي تذيب الحديد، ويكفي أن ننظر للدول المثيرة للحروب وعلى رأسها أمريكا والكيان الصهيوني ونظام صدام الملعون، وما يفعله الفراعنة والحكام المستبدون بشعوبهم، لنعلم بحقيقة هذا القول وخطر النفس الحيوانية الأمارة بالسوء على الإنسان والحضارة والمجتمعات الإنسانية.
ويلزم من ذلك: أن يسلك الإنسان طريق القرب إلى الله تبارك وتعالى، فينظر أي الأعمال يكون فيها رضا الله تبارك وتعالى فيعملها؛ أي يعمل الواجبات ويترك المحرمات فرضاً، ويحرص بجد وإخلاص وقوة على عمل المستحبات وترك المكروهات، ويزكي نفسه ويطهرها من الذنوب والمعاصي والآثام، ويحليها ويزينها بفضائل الأخلاق ومحاسنها. وينظر أي الأعمال يكون فيها رضا الشيطان ورضا إخوانه من الفراعنة والطواغيت من أتباع الهوى والشهوات والمعاصي والذنوب والآثام والخوف والطمع والركون إلى الخمول والكسل والغضب؟ فيتركها، وينظر أي الأعمال يكون فيها غضبهم؟ فيعملها، وأن يتوجه إلى الله في كل ما يقوم به من الأعمال كبيرها وصغيرها، ولا يترك الاختيار إلى النفس الضعيفة التي تحب الدعة وتميل إلى الراحة، فإن في ذلك رضا الشيطان الغوي الرجيم والتقرب إليه، والحرمان من درجات القرب من الله الرحمن الرحيم ذي الجلال والإكرام، وأن يحرص كل الحرص، وأن تكون له كل العناية في رقي الدرجات وقطع المنازل في الكمال والرشد الإنساني والعروج إلى الله تبارك وتعالى، بتهذيب النفس وتزكيتها وتطهيرها من رذائل الصفات الحيوانية الخسيسة الهابطة، وتخليصها من الظلمات وإزالة الحجب التي تراكمت عليها بسبب الشهوات والمعاصي ورذائل الأخلاق من الظلم والحسد والتعدي على الآخرين والتآمر عليهم، فإن ذلك كله من الموانع التي تحول بين الإنسان والاستضاءة بنور العقل والهدي الإلهي، وإدراك الحقائق والالتذاذ بها، وتصيّر الإنسان من جنود إبليس وإخوانه من الفراعنة والطواغيت، ولذلك لابد من إزالتها جميعاً من أجل إنسانية الإنسان ورقيه، وإدراك الوجود النوراني والالتذاذ به، والسير في طريق الحق والخير والعدل والنور والسعادة والكرامة للإنسان في الدنيا والآخرة.
والإنسان في مسيرة حياته في الدنيا: إمّا أن يخرج بعض الكمالات أو كلها من القوة إلى الفعل، و إما أنه يخرج مقابلاتها وأضدادها كلها أو بعضاً منها من القوة إلى الفعل. فإذا خرج الإنسان من عالم الدنيا إلى الآخرة، فقد بطلت قوته وزال استعداده، فهو إمّا سعيد بالفعل و إما شقي بالفعل، وبحث تفاصيل أحوال الناس بعد الموت خارج عن دائرة هذا البحث.
والحاصل آن الإنسان كلما كان أكثر فوزاً بالمقاصد التي يشتقاها ويطلبها، كان أعظم حرصاً وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها.
عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «منهومان لا يشبعان: منهوم علم ومنهوم مال»[14] (والمنهوم: المولع بالشيء).
الدرس المستفاد: إن ما يصلح العالم هو العقل المتكامل الذي ينفر منه الشيطان، وهو يحصل أكثر كلما أفنى العبد نفسه في ذل العبودية وعز الربوبية، فبالعقل تطفأ النيران التي يؤججها جنود الشيطان وأذنابهم العملاء و المأجورون، و باتباع الهوى والنفس الأمارة بالسوء، وبالانغماس في الشهوات والملذات المحرمة تزداد اشتعالاً وتأججاً واضطراماً.
فجنود الشيطان، إذا صار أحدهم قوياً أحرق الدنيا بما فيها، وإن صار غنياً منع المال عن الفقراء والمحتاجين وملأ الأرض بالفساد، وإن صار عالماً سخر العلم للأغراض الشيطانية، وهكذا…
وأما عباد الله الصالحين، فهم أساس العمران وعلى أيديهم تصلح الأمور في المجتمع والعالم، فإن أوتي أحدهم بسطة في المال أو العلم أو الجاه والمكانة أو السلطان، فإنه يسخره في إصلاح العالم وإطفاء نيران الفتن الدينية أو الطائفية أو العرقية، وإطفاء نيران الحروب، ويراعي أحكام الله و حدووده في الحرب والسلم، حاكماً ومحكوماً، ولا يضيع حقوق الناس ولا يسلبها ولا يكون سبباً في شيء من ذلك، وهكذا…، فهو مصداق للعدل الإلهي وحكمة الرب من خلال المنهج الذي يمن به ويطبقه في حياته العامة والخاصة.
قول الله تعالى: <الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ>[15]
الملاحظة الثالثة: إن مقامات الإنسان ومطالبه في الكمال غير متناهية، ولكل مقام ومنزلة شيطاناً مخصوصاً له حبائله المانعة من حصول السعادة المطلوبة والكمال المترقب، وكلما كان السالك أفضل وأجمل، ومقامه أعلى وأكمل، كان شيطانه أقوى وأغوى و أضلّ عن الصراط المستقيم، وله من وجوه الحيلة ما هو أدق وأخفى، ولا قدرة للعبد على الشيطان وكافة الشرور والآفات ولا قِبل له بها، كما لا قدرة لجميع الخلائق على تلك الشرور والآفات، ولا قِبل لهم بها إلا بالرجوع إلى الله العليم القوي العزيز القاهر فوق عباده، والغالب الذي لا يغلب على شي مما يريد، الذي قدرته شاملة لجميع المقدورات، وعلمه محيط بها من جميع الوجوه والجهات، فيقول العبد: أعوذ بالله من شر ما خلق، ومن شرما أعلم وما لا أعلم.
ومما سبق ندرك بأنه لابد للسالك في كل مقام ومنزلة أن يتعوذ بالله تبارك وتعالى من الشيطان الغوي الرجيم الذي لا يقبل المصانعة ولا يداري بالإحسان، ومن شروره وحبائله، لكي ينجو من الشرور، ويتغلب على العوائق والموانع التي تعيقه وتقطع عليه الطريق إلى الله تبارك وتعالى وكمال إنسانيته، وتجرّه من عالم الروحانيات إلى حضيض عالم المادة، ولكي يحصل على مطلوبة وكمالة وغاية وجوده، وهذه خاصية يمتاز بها الإنسان من بين جميع الموجودات، لأن لديه القابلية والاستعداد للرقي والكمال حتى ينتهي إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر، ولديه القابلية والاستعداد للهبوط حتى ينسلخ من إنسانيته ويهوي إلى قعر جهنم، وليس غيره من الموجودات كذلك مما يجعله في حاجة دائمة للاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم من الشرور والآفات، وللخلاص من الظلمات الشاغلة له عن عالم الأنوار في كل مقام ومنزلة، فما خير من الخيرات إلا وهو يحتاج إلى تحصيله، وما شر من الشرور إلا وهو يحتاج إلى دفعه عنه وإبطاله، ولا قوة له بذلك إلا بالله العلي العظيم القاهر الغالب غير المغلوب.
يقول صدر المتأهلين الشيرازي: «ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصان العبد ودرجات فقره وفتوره وقصوره، كما لا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته ومبالغة عنايته وحكمته، ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات عقلاً كما يجب سمعاً، فيجب علينا في كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول ضميراً أو لساناً: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»[16].
وأما بخصوص حالة الإنسان قبل أن يبدأ السلوك الروحاني، فسوف نتناول ذلك في بحث: «أركان الاستعاذة» إن شاء الله تعالى.
الملاحظة الرابعة: إن خسارة الإنسان إذا اختار طريق السقوط خسارة نوعية لا تُقدر بقدر ولا بثمن من أثمان الدنيا كلها، لأن الإنسان بحسب فطرته لديه الاستعداد للحصول على أعلى الدرجات في الجنة، والوصول إلى مكان ليس فيه إلا الله تبارك وتعالى، وتكون ألذ لذاته المعنوية: النظر إلى الله والحديث معه، والاقتباس من نوره، ولكنه إذا اختار طريق الشيطان وتوغل في هذا الطريق، يكون كدودة القز يلتف حول نفسه ويضيّق عليها ليقضي على وجوده؛ بدلاً من التحليق في عالم الفضيلة والنور والكمال، وقطع منازل القرب والزلفى والوصول إلى أعلى الدرجات وأشرفها، وينسلخ من إنسانيته، ويهوي إلى أسفل درك في الجحيم وبئس المصير.
قول الله تعالى: <أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ>[17]
وقول الله تعالى عنهم حينما يُلقون في جهنم أنه يقال لهم: <قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ>[18]
فأي ظلم – أيها الناس – يظلم الإنسان به نفسه بعد هذا الاختيار الأسوأ؟!
أيها الأحبة الأعزاء: إن عمر الإنسان هو أنفس النفائس في الوجود، فلا يوجد في الوجود جوهر أغلى من عمر الإنسان، فعلى كل إنسان أن يعرف حقيقة وعظمة الجوهرة النفيسة التي يملكها، والتي هي أنفس النفائس في الوجود، وأن يعرف كيف ينفقها ويتصرف فيها، ويعرف ماذا يربح إذا أحسن التصرف، وماذا يخسر إذا أساء التصرف!!
رسالة غاية في الأهمية: إلى الذين يهدرون أعمارهم، تلك الجواهر النفيسة التي لا تُقدر بثمن من أثمان الدنيا مهما كانت، يهدرونها في خدمة الشياطين والفراعنة والطواغيت وقوى الاستكبار العالمي، ويلقون بأنفسهم إلى قعر جهنم – والعياذ بالله – بتحقيقهم للأغراض الخبيثة لأولئك، فيحرقون جوهر حياتهم وأنفسهم بنيران أولئك في الدنيا والآخرة، ولا سيما المحسوبين على الدين من العلماء والمثقفين والوجهاء والتجار وغيرهم، أفيقوا قبل فوات الأوان، أفيقوا قبل فوات الأوان، أفيقوا قبل فوات الأوان، فإن الموت والحساب ينتظركم، و إنه لا صداقة لكم مع ملك الموت، وقد يفاجئكم الموت في أية لحظة!!
وإلى الذين يضيعون أعمارهم وشباب حياتهم في خدمة القضايا التافهة والأعمال المبتذلة؛ بدلا من خدمة القضايا الإنسانية وقضايا الشعوب والمستضعفين الرفيعة والأعمال النافعة.
وإلى الذين يقضون أفضل أوقاتهم من الليل والنهار – ولا سيما الشباب – يقضونها أمام التلفاز، وفي الضحك واللهو واللعب والنوم والفراغ، أو يقضونها في الفجور والحرام؛ بدلا من قضائها في طلب العلم والعبادة وطلب الرزق الحلال، وفي الدفاع عن قضايا الشعوب والمستضعفين العادلة، والمطالبة بالحقوق والمكتسبات المشروعة، على هؤلاء جميعاً أن يفيقوا من سكرتهم التي هم فها يعمهون، ويتداركوا أنفسهم قبل فوات الأوان، فإن الموت والحساب ينتظرهم، ولا صداقة لهم مع ملك الموت، وقد يفاجئهم الموت في أية لحظة ولن ينظرهم ملك الموت إذا جاء أجلهم لحظة واحدة.
قول الله تعالى: <وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ>[19]
وقول الله تعالى: <يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ 9 وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ 10 وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ>[20]
وقول الله تعالى: < حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ 99 لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 100 فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ 101 فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ 102 وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ 103 تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ 104 أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ 105 قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ 106 رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ 107 قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ 108 إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ 109 فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ 110 إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ>[21]
وقول الله تعالى:< إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا>[22]
وقول الله تعالى: <وَالْعَصْرِ 1 إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ 2 إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ>[23]
وقول الله تعالى: <لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ 4 ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ 5 إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ>[24]
أيها الأحبة الأعزاء: إن للإنسان في هذه الحياة الدنيا ضالة وحيدة يبحث عنها، ويقضي حياته في الوصول إليها، وضالته هو الله ذو الجلال والإكرام، وليس الجاه، وليس المال، وليس الرئاسة، وليس الدنيا بأكملها، فإن ذلك لا يساوي عند أهل الله جناح بعوضة.
قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «لو عدلت الدنيا عند الله عز وجل جناح بعوضة أو ذبابة، ما سقى الكافر منها شربة»[25].
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز»[26] (عفطة عنز: المخاط الذي تتنثره من أنفها عند العطس).
نسأل الله تعالى التوفيق لوجدان الهمة العالية، وعدم الخمول والكسل، وعدم الاعتناء بالدنيا والمصالح المادية الضيقة، و ألا نكون من الحمقى الذين يخدمون الدنيا ويكونون عبيداً لها، وهي التي من المفترض أن تخدمهم وتكون تحت تصرفهم.
- [1] تفسير الشيرازي، ج 1، ص 8
- [2] الحجر: 28-29
- [3] البقرة: 30
- [4] الإنسان: 2-3
- [5] البلد: 10
- [6] الشمس: 7-10
- [7] القيامة: 22-23
- [8] القمر: 54-55
- [9] التحريم: 11
- [10] السجدة: 17
- [11] الأنعام: 162-163
- [12] الكافي، ج 1، كتاب: العقل والجهل، ح 1، ص 10
- [13] نفس المصدر، ح 3، ص 11
- [14] الخصال، باب: الاثنين، ص 5
- [15] الحج: 41
- [16] تفسير القرآن الكريم، صدر المتألهين، جزء 1، صفحة 31
- [17] الأعراف: 179
- [18] المؤمنون: 108
- [19] مريم: 39
- [20] المنافقون: 9-11
- [21] المؤمنون: 89-111
- [22] الأحزاب: 72
- [23] سورة العصر
- [24] التين: 4-6
- [25] بحار الأنوار، ج 73، باب: حب الدنيا وذمها، ص 124
- [26] نهج البلاغة، الخطبة: 3