بحث حول الشيطان

نتناول في هذا البحث أهم المسائل التي تساعدنا في فهم أفضل لموضوع البحث في الاستعاذة، وهي كالتالي:
المسألة الأولى – التعريف بالشيطان
الشيطان في اللغة هو الروح الشرير البعيد عن الحق والخير والمعادي لهما، والذي لا همّ له إلا الشر وبث الفرقة والاختلاف والفساد في الأرض، والآخذ بالباطل وتصويره في صورة الحق، ليضل به عن سبيل الله العزيز الحميد، فكل متمرد منحرف مؤذٍ خبيث يزين فعل الغواية ويغري بالفساد والضلال فهو شيطان، ويطلق اللفظ في القرآن الكريم على كل شرير من الجن والإنس.
قول الله تعالى:< وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ>[1]
والشيطان بحسب طبعه بعيد كل البعد عن فعل الخير و إن أخفى نفسه في أثواب الصالحين والعلماء والقديسين، و إن قام بفعل الخير حسب الظاهر، فلأغراض شيطانية خبيثة خفية، كما تتظاهر أمريكا في الوقت الحاضر بالدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان من اجل السيطرة على الشعوب واستعمارها ونهب ثرواتها وحماية الكيان الصهيوني. وقد غلب استعمال لفظ الشيطان في إبليس الذي هو رأس الشياطين، وهو الذي أغوى أبانا آدم و أمنا حواء (عليهم السلام)، ومازال يتربص بأبنائهما الدوائر.
قول الله تعالى: < فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى 120 فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى>[2]
ولم يخلق إبليس في الأصل شيطاناً، وإنما خلق على الفطرة السليمة الطاهرة الداعية الى التوحيد وطاعة الله الواحد الأحد الصمد، وقد أقام ردحاً من الدهر مع الملائكة يعبد الله تبارك وتعالى، ولكنه تكبر وأساء التصرف حين رفض السجود لآدم (ع) بأمر الله تبارك وتعالى، وعزم على الطغيان والتمرد، وسلك طريق الانحراف مختاراً.
قول الله تعالى: <فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ 29 فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ 30 إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 31 قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ 32 قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ 33 قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ 34 وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ 35 قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ 36 قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ 37 إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ 38 قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 39 إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 40 قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ 41 إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ 42 وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ 43 لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ>[3]
وإبليس من الجن وليس من الملائكة،قول الله تعالى: < وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا>[4]
والجن: نوع من الموجودات العاقلة ذوات الشعور والإرادة، وهي مستورة عن حواس الإنسان بحسب طبعها وهم غير الملائكة.
ولكلمة الشيطان مصاديق أخرى في أحاديث الرسول الأعظم الأكرم (ص) وأهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام)، منها الدواب والجراثيم المضرة.
قال أمير المؤمنين (ع): «لا تشربوا الماء من ثلمة الإناء ولا من عروته، فإن الشيطان يقعد على العروة والثلمة»[5].
المسألة الثانية – الفرق بين إبليس وأعوانه من الجن والأنس
إبليس هو الشيطان الذي ينتهي إليه أمر كل غواية وإضلال في بني آدم، أما أعوانه من الجن والإنس، فولاية الواحد منهم: إما لبعض الناس دون بعض، وإما في بعض الأعمال دون بعض، وإما على نحو العونية، وأولياء الشيطان أصناف: فمنهم من يغريه بالظلم وإراقة الدماء وهتك الحرمات وسلب الحقوق واضطهاد الشعوب والأمم مثل الفراعنة والحكام المستبدين، ومنهم من يغريه بالفسق والفجور والخيانة مثل القوادين، ومنهم من يغويه بالمساعدة على الظلم والفساد في الأرض مثل الجلادين والمعذبين والسجانين، ومنهم من يغريه بارتداء أثواب الصالحين والزاهدين والقديسين ليضل بهم عن العدل والمطالبة بالحقوق العادلة والمكتسبات المشروعة مثل علماء السوء والبلاط، ومنهم من يغويه بالإمامة والدين والمذاهب والفلسفات ليضل عن سبيل الله المستقيم ونهجه القويم ويزين للناس الانحراف مثل الطواغيت.
والخلاصة: إن لكل ولي من أولياء الشيطان وجنوده وأعوانه من الجن والأنس وسيلته التي تناسبه وطريقته في الإضلال وتزيين الانحراف والدعوة إلى الشيطان الأعظم (إبليس) وطريقه ومنهجه في الحياة. فشياطين الجن توحي بالوسوسة على شياطين الإنس، وشياطين الأنس يوحي بعضهم إلى بعض بأسرار وأساليب المكر والخديعة والإضلال والإفساد وزخرف القول (وهي الأقوال المنمقة التي تشبه الحق وليس من الحق) غروراً، ويبقى إبليس هو سيدهم ورأس الشياطين جميعاً، والأصل في كل غواية وإضلال لبني آدم (ع).
قول الله تعالى: <وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ>[6]
المسألة الثالثة – سلطة إبليس على الإنسان
عن أبي عبد الله (ع) أنه قال: «ما من قلب إلا وله أذنان، على أحدهما ملك مرشد وعلى الآخر شيطان مفتن، هذا يأمره وهذا يزجره، الشيطان يأمره بالمعاصي، والملك يزجره عنها»[7].
من هذا الحديث الشريف نفهم أن الملائكة والشياطين يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.
ولنبدأ أولاً بذكر الآيات التي تشير صراحة إلى تكليم الشيطان للإنسان، منها الآيات التالية:
قول الله تعالى: <الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ >[8]
وقول الله تعالى حكاية عن إبليس: < وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ >[9] بتك: شق.
وقول الله تعالى: <وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ>[10]
وقول الله تعالى: < كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ>[11]
وقول الله تعالى: <الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ 5 مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ>[12]
أما الآيات الكريمة التي تشير إلى اتصال الملائكة بالإنسان فهي كثيرة منها الآيات التالية:
قول الله تعالى: < إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ 30 نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ 31 نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ>[13]
وقول الله تعالى: <إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ>[14]
وقول الله تعالى: <هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا>[15]
ويسمي القرآن الكريم الكلام الملكي حكمة، و يسمي الكلام الشيطاني رجساً.
قول الله تعالى:< الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ 268 يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ >[16]
وقال الله تعالى:< فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ>[17]
سؤال: كيف يميز الإنسان الكلام الملكي من الكلام الشيطاني؟
يميز الإنسان الكلام الملكي من الكلام الشيطاني من خلال ملاحظة النقاط التالية، وهي:
النقطة الأولى: الكلام الملكي يصاحبه انشراح الصدر، والكلام الشيطاني يلازم ضيق الصدر.
قول الله تعالى: <فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ>[18]
النقطة الثانية: الكلام الملكي يدعو إلى المغفرة والفضل، والكلام الشيطاني يدعو إلى اتباع الهوى ويأمر بالفحشاء ويخوف بالفقر والمذلة وملامة الناس.
قول الله تعالى:<الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ>[19]
وقول الله تعالى: <الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا 37 وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا>[20]
النقطة الثالثة: الكلام الملكي يطابق الدين المبين في الكتاب والسنة، وينسجم مع الفطرة، ويدل على انشراح الصدر، والكلام الشيطاني يخالف الدين المبين في الكتاب والسنة، ولا ينسجم مع الفطرة، ويدل على ضيق الصدر.
ومن المؤكد والواضح، بأنه ليس لإبليس ولا لأوليائه وجنوده سلطة على الإنسان تلغي إرادته وحريته في الاختيار، فليس لهم القدرة على إجبار إنسان واحد على السير في طريق الضلال والانحراف، وكذلك ليس للملائكة مثل تلك السلطة في إجبار الإنسان على السير في طريق الهداية والفلاح، وكل ما يملكه إبليس وأولياؤه عليهم اللعنة، هو الوسوسة في نفس الإنسان وتزيين العمل السيئ له كلٌّ بما يناسبه حسب خلفيته الفكرية والروحية والأخلاقية والنفسية المنحرفة عن الفطرة والعقل والدين، فهناك من يغويه بالمال والجاه والمنصب، و هناك من يغويه بالجمال والحب والشهوة، وهناك من يغويه بالعصبية الجاهلية والأنانية وحب الذات والسلطة، وهناك من يلعب في الأوهام والأباطيل تحت عنوان الثقافة والتحرر والاستقلال، وفي النهاية يكون انقياد الإنسان إلى هذه الوساوس الباطلة ولهذا الغرور الفج بإرادته واختياره وحده وليس بإجبار أو قهر من أحد، فالإنسان هو الذي يلبي دعوة الشيطان وأوليائه، ويفتح لهم أبواب قلبه ليدخلوه بإذنه ورضاه، فالذين يتبعون الشيطان هم المنحرفون أصلاً عن الفطرة والعقل والصراط المستقيم، والمستجيبون لرغباتهم وميولهم ونزعاتهم النفسية بغير تهذيب ولا رقابة، ويفتحون بذلك الأبواب للشيطان للدخول إلى قلوبهم وعقولهم بمحض إرادتهم واختيارهم.
والخلاصة في ذلك: إن الوساوس الشيطانية وإن كانت لا تخلو من أثر في تضليل الإنسان وانحرافه؛ إلا أن القرار الفعلي لانصياع الإنسان للوساوس الشيطانية أو رفضها يرجع بالكامل إلى الإنسان نفسه، ولا يستطيع الشيطان وأولياؤه وجنوده مهما بلغوا من قوة الوساوس وسلطتها أن يدخلوا إلى قلب الإنسان بدون إذنه ورضاه، وبالتالي فإن سلطة الشيطان على أتباعه لا تعود إلى ما يملكه من قوة بحيث لا يملكون الفكاك والخلاص منها، وإنما لانسحاقهم وتنازلهم عن قوتهم في الفكر والإرادة التي منحهم الله المبدع المعيد إياها وفطرهم عليها لإعلاء إنسانيتهم، وللحصول على سعادتهم في الدنيا والآخرة، وتسليمهم الأمر إلى الشيطان ليستولي ويحكم سيطرته عليهم بالكامل، كما يستولي العدو على أية قلعة غير محصنة من أول هجوم له عليها، ثم يوظفها لخدمة أهدافه، ويوجههم الوجهة الشيطانية التي يريد، فليس للشيطان سلطة إجبارية على الإنسان، و إن الشيطان لا يمكن أن يتمكن من السيطرة على الإنسان والتحكم فيه؛ إلا إذا مهد الإنسان بنفسه الطريق إلى الشيطان وأعطاه إجازة المرور إلى قلبه الذي هو عرش الرحمن في الأصل.
قول الله تعالى: <وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ>[21]
وهذا تسليط من الإنسان لإبليس وأوليائه على نفسه، وليس تسلطا من إبليس وأوليائه على الإنسان بحيث يسلب الإنسان الإرادة والاختيار، ولهذا يتبرأ إبليس و أولياؤه من أتباعهم يوم القيامة.
قول الله تعالى: <إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ>[22]
وقول الله تعالى: < وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ>[23]
والسلطان: هو التمكن من القهر، وتسمي الحجة سلطاناً لما فيها من قهر العقل على مالها من النتائج.
ونفي الشيطان الرجيم تسلطه على الإنسان، يعني أمرين:
الأمر الأول: ليس له التسلط على أشخاصهم بحيث يسلب إرادتهم واختيارهم ويفرض إرادته عليهم ويجبرهم على معصية الله تعالى وعمل الإثم وأتباع الهوى، وإنما أغراهم فانقادوا إليه، وبالتالي هم الذين سلّطوه على أنفسهم الضعيفة الآثمة.
الأمر الثاني: ليس له السلطة على عقولهم فيقيم لهم الحجة والبرهان التي تجبر عقولهم على القبول بالشرك والتصديق به عن حق وحقيقة، ولكنه زينه لهم فصدقوه ولم يتبينوا ولم يثبتوا.
قول الله تعالى: <وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ>[24]
فقد وعد الله أهل الإيمان حياة طيبة وعيشة هنيئة سعيدة، ووعد أهل الشرك والمعرضين عن ذكر الله العذاب الأليم والمعيشة الضنك وضيق الصدر، ووعد الجميع بعثاً وحساباً وجنة وناراً في الآخرة. أما الشيطان فقد دعا أولياءه عن طريق التزيين وإظهار الباطل والخطأ والانحراف في صورة الحق والصواب والاستقامة، ودعاهم إلى الأوهام الباطلة التي لا ينتج عنها إلا التخلف والفساد والجريمة، ووعدهم بالمواعيد الكاذبة وأحلام المستقبل الذهبية، التي تقوم على أساس المعصية والانحراف عن الصراط المستقيم وعن النهج الإلهي القويم، وتؤدي بهم إلى الاستسلام للأهواء اللذيذة والآمال العريضة الطويلة الباطلة، التي لا حقيقة لها في الفكر ولا في الواقع؛ بل هي مجرد صور براقة في الوهم والخيال، وزين لهم ما بين أيديهم من الأسباب كالقوة والمال والجاه، وأغراهم بالاعتماد على أنفسهم، وأغفلهم عن ذكر الله رب العالمين، وخوفّهم الفقر والذل المادي وملامة الناس وعتابهم، وصرف أذهانهم عن الموت والبعث والحساب، فلا غاية لهم في الحياة إلا الأكل والشرب والتمتع بملذات الحياة المادية والتلهي بالآمال الطويلة العريضة والأماني المريضة، ولا منطق لهم في الحياة إلا منطق الأنعام والمادة، وقد صور لنا القرآن الكريم في الآيات السابقة ظهور كذب الشيطان وصدق وعد الله في يوم القيامة، واعتراف الشيطان بذلك وتنصله من المسؤولية، وإرجاع اللوم على الأتباع، ويعلل ذلك بأنه ليس له سلطان على الأتباع يلغي إرادتهم واختيارهم، وأنهم هم الذين استجابوا له بمحض إرادتهم ومكنوه من أنفسهم، فهم الذين لهم السلطان على أنفسهم وأعمالهم، وعليهم يقع اللوم لا عليه.
وهذا يدل على ضعف حجج الشيطان، وضعف نفوس أولياء الشيطان وعقولهم.
والخلاصة: إن للإنسان سلطانا على نفسه وعمله يوجب ارتباط المسؤولية والجزاء به ويسلبه عن غيره، وأما الرابطة بينه وبين الشيطان، أو بين التابع والمتبوع، فهي رابطة لا تسلب الإنسان أو التابع حرية الإرادة والاختيار، ولا تلغي عنه مسؤولية عمله وتحميلها غيره.
واستنادا إلى ذلك نخلص إلى النتائج المهمة التالية، وهي:
النتيجة الأولى: إن الشيطان لا سبل له ولا سلطة على الإنسان إلا فيما يوسوس له من أفكار ضالة ومناهج منحرفة، ومشاعر سوداء مظلمة حاقدة، وقيم زائفة، وأخلاق ذميمة سيئة، وأهداف ضيقة محدودة، وتحريك الأهواء والشهوات والرذائل وابتكار وسائل الإغواء والإغراء والطيش واتباع الهوى وفعل الحرام والمعصية، وتزيين الأعمال الشريرة والأوضاع المنحرفة الشاذة لتبدو مستقيمة معقولة لديه، وقلب الحقائق وتغيير الصور الحقيقية للأشياء، فيصور الحق باطلاً في نظر الإنسان، والخير شراً، والحسن قبيحاً، ليصرف الإنسان عن الصراط المستقيم وعن النهج القويم، وينظر الإنسان إلى عمله القبيح بانبهار تام، ويعده عملاً عقلانياً ومنطقياً ونُبلاً من جميع الجهات، كذباً وغروراً بدون تدقيق ولا تمحيص، تحت عناوين وهمية خادعة كالشجاعة والتقدمية وغيرها، ولا يستجيب للشيطان إلا أولياؤه ضعاف النفوس والعقول والإرادة، الذين يخضعون له ويستسلمون لحبائله وخدعه، ويفتحون قلوبهم له، ويحركون عقولهم معه، لأنهم ينسون ذكر الله عز وجل، ويهربون من حقيقة الإيمان، ولا يتحركون في الحياة من موقع المسؤولية في الفكر والعمل، ولا يعيشون في الآفاق الروحية والقيم الإنسانية والمعنوية الرفيعة؛ بل يمارسون الحياة ويتصرفون فيها بدون مبالاة، ويستسلمون للشبهات المضلة، كاستسلامهم للشهوات المحرمة، وزخارف الحياة الفانية، ولسَورة الغضب، ويستسيغون ذلك كله، ويعبدون الدينار والدرهم والدولار، ويبيعون الدين والبلاد والعباد لمن يدفع الثمن البخس من الفراعنة والمستعمرين والمستكبرين، ويجمعون الغنائم والثروة وهم راضون بذلك ومقتنعون به كهدف أسمى، وكأن الحياة ساحة للعبث واللهو بعيداً عن الفكر والمسؤولية والحساب، وبهذا تكون حياتهم ساحة للشيطان، يصول ويجول فيها، وعلاقتهم به مستمرة ودائمة، لأنهم اختاروا الشيطان قريناً ورفيقاً لأنفسهم، واختاروا طريقه منهجاً لهم في الحياة، ولن يكف ولن يألوا جهداً في إضلالهم وإغوائهم، لكي لا يكون مصيرهم في الدنيا والآخرة أفضل من مصيره، ولن يكون لأن منطقهم نفس منطقه، وأهدافهم نفس أهدافه، وسلوكهم ومواقفهم نفس سلوكه ومواقفه سواء بسواء، فالشيطان يعتبر نموذجاً للاستكبار والكفر والعصيان، وقد انتهى أمره إلى الطرد من ساحة الطهارة والقدس، وكل من يتبعه سينتهي إلى نفس المصير والعاقبة.
قول الله تعالى: <إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ>[25]
وقول الله تعالى: <إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ>[26]
وقول الله تعالى: <وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ >[27]
وقول الله تعالى: <هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ 221 تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ>[28]
الدروس المستفادة من البحث
الدرس الأول: ينبغي أن ندرك فيما ندرك في هذا البحث، مدى ما للقرين السيئ من الأثر في مصير الإنسان، ذلك الأثر الذي ربما يبلغ في آخر المطاف إلى السقوط الكامل، مما يعني وجوب التدقيق في اختيار الأصدقاء.
قول الله تعالى: <وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا>[29]
الدرس الثاني: ينبغي أن ندرك خطورة التقليد الأعمى، فالذين يضعون زمام أمورهم بدون وعي ولا تمحيص ولا تجربة في يد الآخرين، هم ضعفاء غاوون يتصرفون خلاف المنطق والفطرة والدين، وإن قادتهم وزعماءهم الانتهازيين، يتخلون عنهم في الظروف الحالكة، ولا ينفعونهم بشيء في الدنيا والآخرة، و إن هذا النمط من السلوك يؤدي إلى التخلف والفساد في الأرض، سواء قام على أساس ديني أم علماني، وقد كشف لنا القرآن الكريم عن الطريقة الشيطانية التي يتبعها كل الفراعنة والطواغيت والمفسدين في الأرض، بأنهم يأخذون بأيدي أتباعهم أو ضحاياهم ويذهبون بهم إلى أعماق العذاب والشقاء في الدنيا والآخرة، وحينما تحين لحظة المواجهة، يتخلون عنهم ويتركونهم يواجهون مصيرهم بأنفسهم، ويلومونهم لأنهم اتبعوهم بمحض إرادتهم واختيارهم ولم يجبروهم على شيء، وهذا نوع من العقاب النفسي لأتباع الشيطان وأتباع إخوانه من الفراعنة والطواغيت، وتحذير لهم من المصير الأسود المشؤوم الذي ينتظرهم في الدنيا والآخرة.
قول الله تعالى: <وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ>[30]
وقول الله تعالى: أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ 11 لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ 12 لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ 13 لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ 14 كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ 15 كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ 16 فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ>[31]
وقول الله تعالى: <وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ>[32]
النتيجة الثانية: إن سلطة الشيطان على الفاسقين بإرادتهم وبسبب المعاصي والأعمال السيئة التي تترك آثارها السلبية العميقة في داخل الإنسان، وتحرك عناصر الضعف الإنساني فيها، مما يجعل الذنوب تتابع ويجر بعضها إلى بعض على أساس القاعدة الفكرية والروحية والأخلاقية والنفسية في داخل الذات المنحرفة التي مكنّت الشيطان من إغوائها وإضلالها، كما تتابع الطاعة ويجر بعضها إلى بعض على أساس القاعدة الفكرية والروحية والأخلاقية والنفسية في داخل الذات المستقيمة كما سيوضح بعد قليل.
فالحقائق المهمة التي يهدي إليها القرآن الكريم في هذه النتيجة، هي كالتالي:
الحقيقة الأولى: أن وسوسة الشيطان الرجيم هي نتيجة لخلفية فكرية وروحية ونفسية وأخلاقية كوِّنتها ذنوب سابقة.
قول الله تعالى: <الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ 11 وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ 12 إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ 13 كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ>[33]
الحقيقة الثانية: أنّ الذنوب والانحرافات التي تصدر عن الإنسان بسبب من وساوس الشيطان تمهد بدورها إلى ذنوب وانحرافات أخرى مماثلة، فالذنوب يجر بعضها إلى بعض، وإنّه لا خلاص للإنسان من هذه الدائرة المهلكة إلا بتطهير النفس من الذنوب، والعودة إلى الله وطاعته والاستعاذة به من الشيطان الرجيم.
قول الله تعالى:< إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا>[34]
وقول الله تعالى:< وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ>[35]
الدرس المستفاد من البحث: علينا إذا أردنا أن نصلح أنفسنا أن نتحلى بالشجاعة الأدبية، وأن نواجه أنفسنا بالحقيقة التي لا لبس فيها لمن أراد الحقيقة، و أخلص إليها، وحرص على إنقاذ نفسه من الشقاء والعذاب الأخروي العظيم، فليس هناك سلطة للشيطان في الإضلال، وكل دوره ينحصر في الوسوسة وإثارة الشهوة والغضب، ودعوة الإنسان للاستجابة، ويبقى للإنسان دوره في التفكير والمقارنة والاختيار، علما بأن الاستجابة للشيطان والوقوع في حبائله وخدعه تنطلق من حالات فكرية وروحية وأخلاقية ونفسية وتطلعات في الحياة منحرفة عن الدين والعقل والفطرة، وبدون هذه الأفكار والمفاهيم والتطلعات لا يقوى الشيطان على الإنسان، فعلينا إذا أردنا أن ننقذ أنفسنا من الشقاء والمصير الأسود أن ننفذ إلى داخل أعماق أنفسنا، وندرس طبيعة الأفكار والمفاهيم والتطلعات التي تحرك سلوكنا في الحياة ونكتشف حقيقتها، ونصلحها وفق المنهج الإلهي القويم ومنطق العقل والوجدان الأخلاقي السليم، وأن نقتلع تلك الأفكار والمفاهيم والتطلعات المنحرفة عن الدين والعقل والفطرة، وأن نضاعف الجهد في تربية أنفسنا والعودة إلى الله رب العباد، وتطهير قلوبنا من الذنوب وآثارها بترك الذنوب والتوبة النصوح منها، لننتصر على أنفسنا الأمارة بالسوء، ونواجه المسؤولية تجاه أنفسنا ومصيرنا من موقع حرية الإرادة والاختيار بالانتصار على أنفسنا أولاً، ثم لنواجه الشيطان وأولياءه من الفراعنة المستبدين والطواغيت أئمة الضلال والانحراف ثانياً، وإلا سوف نبقى أسرى بأيدي الشيطان وأوليائه وجنوده، ونلاقي نفس المصير من الطرد والشقاء والعذاب الأليم.
أيها الأحبة الأعزاء: إن نقطة البداية التي ينبغي أن ننطلق منها في إصلاح أنفسنا، والتي ينبغي أن ينطلق منها المربون في إصلاح الأجيال كلها، والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، هي النفاذ إلى عمق الأفكار والمفاهيم والتطلعات التي توجه السلوك، وإصلاحها وفق المنهج الإلهي القويم، ومنطق العقل السليم، والوجدان الأخلاقي النقي الطاهر، بدلا من الاهتمام بالقضايا والمسائل الخارجية المتنافرة التي لا بداية لها ولا نهاية، وبدلاً من الاكتفاء بإلقاء الأحكام والمواعظ وسرد القوانين، فهذه لا تصيب الانحراف بمقتل، وقد جربت استئصال الانحرافات من جذورها الداخلية ونجحت.
النتيجة الثالثة: إنه لا سلطة للشيطان الغوي الرجيم على المؤمنين الطيبين، لأنهم يملكون حياتهم ومواقفهم، ويسيطرون على شهواتهم وميولهم وغضبهم من حيث يملكون إيمانهم ويسيطرون على عقولهم وقلوبهم، وكل من يملك نفسه، ويسيطر على شهواته وغضبه ونوازعه وميوله، فلا سلطة للشيطان ولا لفرعون ولا لطاغوت عليه؛ بل لا يقوون على الدنو منه، لأن الشياطين والفراعنة والطواغيت إنما ينفذون إلى الإنسان ويسيطرون عليه من خلال نقاط الضعف التي توجدها وتنميها الشهوات والغضب والميول النفسية والتطلعات المنحرفة، وكل من يملكها ويسيطر عليها لا يقوى عليه شيطان ولا فرعون ولا طاغوت.
أيها الأحبة الأعزاء: لقد أدرك المؤمنون الطيبون الحقيقة الإيمانية في عمق المعرفة بالكون والإنسان والحياة، فأخلصوا لله رب العالمين في صدق العبودية له وطاعته وحده لا شريك له، والاتصال به والانفتاح عليه وعلى منهجه القويم، وإخلاص النية له في عمق الذات وصلابة الموقف، والثقة به والتوكل عليه بما يمثله التوكل من أمل كبير في المستقبل، وحركة إرادية واقعية في الحياة على كل الأصعدة، وراقَبوه في السر والعلانية، وبه يعوذون في كل ما يأتون وما يذرون، ولم يروا لأنفسهم سعادة إلا بالدين وأحكامه وإن كانوا معلقين على أعواد المشانق، أو مضيقاً عليهم في أقبية السجون، أو مشردين خائفين في الأماكن البعيدة وبلاد الغربة، فهم يتحركون بسلطان الله تبارك وتعالى في الحياة وعلى منهجه القويم، ويستنفرون طاقاتهم الفكرية والروحية والنفسية والأخلاقية، ويعملون على تقوية إرادتهم على السير في طريق الرب الرحمن الرحيم ونهجه القويم وصراطه المستقيم، و مواجهة الشيطان وأساليبه الخبيثة الماكرة، فبدينهم الذي تنورت به قلوبهم ومنهجه القويم يتغلبون على شهواتهم ورغباتهم وميولهم النفسية، وعلى عداواتهم وخصوماتهم وتطلعاتهم في الحياة، فإبليس اللعين الرجيم لا يقوى على إغوائهم وإضلالهم، وهو أذل وأحقر من أن يتسلط عليهم، أو يتمكن من الاقتراب من أحلامهم وأهدافهم وتطلعاتهم في الحياة، أو أن يتمكن من الدخول إلى قلوبهم التي خلت من الذنوب، وإلى عمق مشاعرهم النبيلة والتأثير فيها، فوسوسته لا تؤثر فيهم، ودعوته غير مستجابة عندهم، لأنهم مع الله في كل شيء، وحياتهم ساحة عبادة وطاعة وجهاد، وقلوبهم طاهرة من الذنوب والمعاصي ومن آثارها بتجنب الذنوب والمعاصي وبالتوبة منها، وقد أعطاهم الإيمان قوة فكرية وروحية وأخلاقية ونفسية تحقق لديهم مناعة ضد الشيطان وحبائله وخدعه، فهم متحصنون من الوقوع في شباكه بقوة إيمانهم وصدق إخلاصهم لمحبوبهم رب العالمين، ولم يتركوا للشيطان فراغا للدخول والنفاذ في حياتهم وقلوبهم من أية زاوية من زوايا فكرهم وخلفيات مواقفهم، ولم يتركوا له فرصة لإغوائهم وإضلالهم، وبالتالي فالشيطان لا يسبب ضرراً للمؤمنين والسائرين على طريق الله جل جلاله ونهجه القويم ما داموا قادرين على مواجهته والتغلب عليه، وإنما ضرره على الذين استسلموا إليه، وعاشوا الحياة في أجوائه، و اتّبعوه فيما سّول لهم من المعاصي وزين لهم من أوجه الباطل بمحض إرادتهم واختيارهم؛ بل الحق أن الشيطان سبب لتفجير طاقات المؤمنين وتحريكها وتأهيلها وتفعيلها بفضل مقاومتهم له، وبالتالي تقدمهم وتطورهم وعروجهم في سلّم الكمال والرشد الإنساني ومنازل القرب الربوبي والزلفى لديه، بما يحققونه من انتصارات على الشيطان وأوليائه وجنوده وإخوانه من الفراعنة والطواغيت.
وهذا لا يعني أن وساوس الشيطان لا تطوف بالمؤمنين لتفسد أفكارهم ومشاعرهم وتحرف مواقفهم عن الصراط المستقيم، ولكن التقوى والإيمان يطردان تلك الأفكار والمشاعر والتوجهات الشيطانية، ويمنعانها من الاستقرار في النفس ومن أن تتحول إلى مواقف وسلوك منحرف.
قول الله تعالى: <وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ 200 إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ>[36]
وقول الله تعالى: <إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ>[37]
وقول الله تعالى: <إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا>[38]
وقول الله تعالى: <قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ 39 إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ 40 قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ 41 إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ 42 وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ>[39]
وهنا تجدر الإشارة إلى الملاحظتين التاليتين، وهما:
الملاحظة الأولى: إن عدم تسلط الشيطان ليس على خواص المؤمنين فحسب، وإنما على كافة المؤمنين الأتقياء الذين يتوكلون على الله، وينحصر تسلطه على الغاوین فقط.
مقال حول عبدة الشيطان
ابتُلي عالمنا المعاصر بجماعات عبدة الشيطان، وتعتبر هذه الجماعات فاجعة إنسانية على درجة عالية من القبح والخطورة، وهي تمثل واحدة من التجليات المأساوية المروعة للسقوط إلى قاع الانحراف عن الفطرة الإنسانية الطاهرة في العالم المعاصر، ولهذه الفاجعة نماذج مماثلة ظهرت في تاريخ حضارة الإنسان المادية المنحرفة عن الفطرة والدين، متمثلة في الغنوصية وهي حركة فلسفية ودينية نشأت في العصر الهلينسي في القرنين الأول والثاني للميلاد، وفي تعاليمها شيء من السحر والشعوذة، وفي الثنوية التي تقول بإلهين: إله للخير وإله للشر، وفي الخرمية أتباع بابك الخرمي نسبة إلى بلدة بفارس، الذين يقولون بالتناسخ والحلول والإباحية، وقد دعوا الناس إلى إسقاط الفرائص والانغماس في الملذات والشهوات بلا ضابط، والصابئة الوثنية في منطقة حران بشمال العراق، وكان أول إعلان لهم في عام (170 هــ)، وقد قابلهم الخليفة المأمون العباسي، ووجدهم قد أطالوا لحاهم وشعور رؤوسهم وأظفارهم، ونجد شيئاً منها في فلسفة نيتشة (الفيلسوف الألماني: (1844م – 1900م) الذي كان يدعو إلى استبدال الأخلاق المسيحية القائمة على المحبة، استبدالها بأخلاق جديدة تقوم على إرادة القوة وعبادة الإنسان الأعلى الذي يضرب بأخلاق المحبة عرض الحائط، لأنها أخلاق الضعفاء[40].
وقد برزت هذه الفاجعة الإنسانية المؤلمة (عبادة الشيطان) في عدة منظمات في عالمنا المعاصر منها: منظمة (ONA) في بريطانيا، ومنظمة (OSV) في إيرلندا، و (كنيسة الشيطان) في ولاية سان فرانسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي أكبر وأخطر هذه المنظمات، وقد أسسها الكاهن اليهودي (أنطوان سيلدز ليفي) في عام (1966م)، وقد انتحر مع مئات من أتباعه، ويقدر عدد أعضائها بـ (500 ألف) عضو، ولها فروع في أمريكا وأوروبا وأفريقيا، ويركزون على الشهوات والملذات والفحش والعداوة والانتقام، وقاعدتهم الأساسية في الحياة، هي: التمتع بأقصى قدر من الملذات قبل الممات.
يقول أنطوان ليفي في كتابه (الشيطان يريدك): «الحياة هي الملذات والشهوات، والموت هو الذي سيحرمنا منها، لذا اغتنم هذه الفرصة الآن للاستمتاع بهذه الحياة، فلا حياة بعدها، ولا جنة ولا نار، فالعذاب والنعيم هنا».
ويقولون: بأن الشيطان يكافئ أتباعه بالسرور والسعادة وامتلاك الدنيا بكل مسراتها.
ولعبدة الشيطان شعراء متخصصون في كتابة الكلمات التي تعظم الشيطان وتمجده، وتسب الله الرحمن الرحيم، وتثير الغرائز وتلهبها، وتدعو للشر والانتقام و ممارسة الجنس بجميع صوره حتى مع نفس الجنس والمحارم والحيوانات، في سبيل إشباع الغريزة الجنسية إشباعاً تاماً، وتدعو للقتل والانتحار، وتقلل من أهمية النار وعذابها، ولهم ملحّنون يقومون بدمج تلك الكلمات بموسيقى صاخبة ذات إيقاع سريع، وأكثر ما يسمع عبدة الشيطان موسيقى (الهيفي ميتال) و (الهارد روك) (التي يصفها البعض بأنها ضوضاء شيطانية)، ويقيمون الحفلات العامة وينشرون أغانيهم في الأسواق.
ولعبدة الشيطان طقوس جنسية مفرطة يمارسون فيها الشذوذ الجنسي، ولهم طقوس دموية، منها شرب الدماء البشرية وذبح الأطفال بعد تعذيبهم تقرباً للشيطان، وتمزيق أجساد حيوانات حية، وقد أكد مكتب التحقيقات الفدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية أن هذه الجماعة تقف وراء الكثير من جرائم القتل وخطف الأطفال، ويقيم عبدة الشيطان طقوساً لهم في المقابر، وينبشون جثث الموتى، ويغرس عبدة الشيطان في إذهان أطفالهم أنهم شياطين، وأن الشيطان الأكبر هو إلههم ومعينهم في الشدائد.
وعبدة الشيطان ينكرون جميع الأديان السماوية ويستخفون بها، ويدوسون الكتب السماوية بأقدامهم، ويقدسون إبليس باعتباره رمزاً للقوة العظمى التي تحرك الحياة، ورمزاً للإصرار، ويرون فيه تجسيداً لفكرة إنكار الحدود وإعلان الذات والإرادة والقوة والانغماس في الملذات بدلا من الامتناع عنها، ويمثل الشيطان عندهم الوجود الحي بدلاً من الحلم الروحي والأمل الكاذب الوهمي، ويمثل الحكمة والحيوية غير المشوهة بدلاً من النفاق وخداع النفس، فأفكار الشيطان حسب رأيهم محسوسة ومشاهدة، ولها مذاقها الذي يفعل في الجسم والنفس فعل الترياق، والعمل بها فيه شفاء لكل الأمراض النفسية والوقاية منها، ويمثل الشيطان الانتقامية بدلاً من الضعف وإدارة الخد الآخر، ويمثل كل ما يطلق عليه الخطيئة والآثام وكل ما ينبغي اقتناؤه وحيازته، لأنها تؤدي كلها إلى الإشباع الحسي والعقلي والعاطفي، ويقولون: اتبع الشيطان فهو لن يأمرك إلا بما يؤكد ذاتك، ويجعل وجودك وجوداً حيوياً.
ويرون في الممارسات الجنسية تعبيراً عن الذات وفلسفة القوة والإرادة وتعظيم اللذة، وهم ينهون عن الحب وينصحون بعدم التورط فيه، لأنه ضعف وتخاذل وتهافت وتقييد للحرية، ومانع من الحصول على الكمال الحسي المنشود، وتفريط في الحقوق الخاصة، يقولون: «فأزهق الحب في نفسك لتكون كاملاً، وليظهر أنك لست في حاجة إلى أحد، وإن سعادتك من ذاتك وملك يمينك، لا يعطيها لك أحد وليس لأحد أن يمن بها عليك»، ويرون أن العلاقة بين الناس يجب أن تقوم على أساس اللذة والمنفعة، وأن إبليس هو الذي عرّف آدم وحواء (عليهم السلام) شجرة الخلود أو المعرفة، ويرون أن أخلاقيات التوراة والإنجيل والقرآن لم تكن إلا من أجل تكريس الضعف وحماية الأغبياء والكسالى وقليلي الحيلة، ويرون أن الكون ليس فيه مساواة، وأن المساواة ضد طبيعة الأمور، فهم ضد المساواة، ويهاجمون العطف والمحبة والعدل والخير باعتبارها أخلاق الضعفاء، وتكريساً للعجز، ووسيلة لبقاء المتسولين والأغبياء، ويريدون أن يكون العالم محكوماً بقانون القوة، وأن يكون خلية صراع لا يوجد فيه مكان للعدل والمساواة وغيرها من قيم الضعف والهزيمة، وإنما لمفاهيم القوة والنصر، والبقاء فيه ليس للأفضل حسب المفاهيم الوهمية للخير والعطف والمحبة، وإنما للأصلح من منظور مادي؛ أي الأقوى، فإذا ضربك أحد على خدك، فأضربه بجميع يديك على جسمه كله، وانتزع حقوقك من الآخرين، وخذ كل ما ترغب في الاستحواذ عليه، ومن وجهة نظرهم: فإن الحروب مشروعة من أجل الاستعلاء والاستكبار وسيادة الفرد والجنس القوي، فمن وجهة نظرهم يجب أن يكون هناك مطلق واحد في الحياة، وهو الإنسان البطل القوي المنتصر المتأله، أي الشيطان.
ويرون أن لجوءهم للموسيقى والرقص، هو من اجل خلق الأجواء المناسبة وتهيئة المناخ النفسي الذي يمكن من خلاله اكتشاف الأقوياء من أصحاب الطموح والخيال والحس المتفرد والذكاء النادر، وموسيقى ميتاليك من شأنها إذكاء تلك المزايا والخصال عند أصحاب المزاج النادر، ويرون أنفسهم أنهم أصحاب رسالة، وأنهم ليسوا من الخاملين أو المنحرفين، فهم موهوبون ومبدعون، ويمارسون الحياة بدون قيود الأخلاقيين الذين أفسدوا الحياة بقيودهم، ويرون أنه قد آن الأوان للتخلص من الأخلاق، لأنها تعيق تقدم الحياة بدلاً من دفعها للتطور والتقدم، وأن هدفهم هو تحصيل البديل للدافع الديني المعاصر المتمثل في عبادة الشيطان، وأن تحصل لهم القوة والمقدرات الشيطانية والذكاء الشيطاني وإعلان الذات.
وقد ظهرت جماعة عبدة الشيطان في مصر (بلاد الأزهر) في أواخر سنة 1996م، وأعلن عنها رسيماً للمرة الأولى بتاريخ: 23/ يناير/1997م، عندما صدر بيان عن وزارة الداخلية قال: إنهم يروجون لأفكار منحرفة تركز على تقديس الشيطان وإباحة تعاطي المخدرات وممارسة الجنس الجماعي والشذوذ وشرعية استخدام العنف، وقد ضبطت الجهات الأمنية في حوزتهم شرائط الفيديو وهي تحوي تسجيلات حفلاتهم وطقوسهم وممارساتهم الشاذة وصور فوتوغرافية لبعض العناصر شبه العارية والملطخة بالدماء أثناء ممارسة طقوسهم. وقد قبضت الشرطة على نحو (140) فرداً منهم من الذكور والإناث، ثم أفرج عنهم جميعاً، ولم يعرف ما تم بشأنهم، وكانوا جميعاً من أبناء الطبقة الغنية، من مشاهير الفنانين ورجال الأعمال و المسؤولين، وقد أخذوا معلوماتهم عن طريق الاختلاط بالصهاينة في المنطقة المصرح فيها بدخول الصهاينة إلى الأراضي المصرية بدون جوازات السفر؛ حيث تم استدراجهم بالجنس والخمور والمخدرات، ثم انتشرت عبر الأندية والمطاعم الأمريكية التي يرتادها أبناء الطبقة الراقية، وبلغ عددهم حوالي ألفي شخص، تتراوح أعمارهم بين (15 -24 ) سنة، و هم من خريجي المدارس الأجنبية، ولا يعرفون شيئاً عن الإسلام، ولا يحفظون شيئاً من القرآن .
واعتادت جماعة عبدة الشيطان في مصر تنظيم حفلات ماجنة بعد منتصف الليل من كل يوم خميس، فيمارسون على وقع موسيقى بلاك ميتال أو موسيقى الشيطان الرقص الهستيري، وعندما يحمى الوجد يتعاطون المخدرات، ويتعرون، ويمارسون الجنس الجماعي واللواط والسحاق هو شذوذ جنسي بين امرأتين بتماس أعضاء التناسل طلباً للذة مشتركة، ويلتقطون الصور لأنفسهم وهم عراة.
ومن تقاليدهم: إقامة (القداس الأسود) وفيه يتعرى كاهنهم باعتباره الشيطان، وتتعرى أمامه فتاة وتلمس أعضاءه التناسلية، ويتطور الأمر إلى الموسيقى والغناء والرقص والجنس الجماعي، ويرمز القداس الأسود إلى الظلمة والمادة في مقابل النور وروح المسيح.
ويمارس عبدة الشيطان في مصر نبش القبور والبحث عن جثث الموتى، ويتراقص كبيرهم فوق الجثة التي يعثرون عليها، ويفضلون غالباً الجثث حديثة الوفاة، ويذبحون القطط باعتبار نفوسها من الشيطان كما في الفلكلور المصري، ويشربون من دمائها ويلطخون أجسادهم و وجوههم بها، ثم يذهبون إلى الصحراء ليعيشوا فيها أياماً لا يضيئون الشموع ليلاً، وإنما يبقون في الظلام، لأنهم يفضلون الظلمة على النور، والمادة على الروح.
وقيل في تبرير نبش القبور والمبيت في الصحراء: إنّه لتقسية القلب والتدرب على ممارسة القتل دون خوف، ولمعاينة العدم والشعور به محسوساً.
وقيل عن تلطيخ الجسم والوجه بالدم: ليكون العضو دموياً عنيفاً لا يخشى الموت ولا يرهب القتل، ويزداد إحساسه بالقوة، و يأبى عن الخضوع لأحد.
ويرتدي عبدة الشيطان في مصر الثياب السوداء، ويطلقون شعورهم، ويرسمون وشم الصليب المعقوف أو نجمة داوود على صدورهم وأذرعهم، ومن علامات الإناث: طلاء الأظفار والشفاه باللون الأسود، وارتداء الملابس المطبوع عليها نقوش الشيطان والمقابر والموت، والتزين بالحلي الفضية ذات الأشكال الغريبة التي تعبّر عن أفكارهم مثل الجماجم ورأس الكبش.
وعبدة الشيطان في مصر لهم مراتب ودرجات، فبعضهم منتمٍ، وبعضهم أمير، وبعضهم أمير مجموعة، ويطلقون على بعضهم اسم (الشر)، وعلى آخرين اسم (الشر الأعظم)، ومن أشهر رموزهم: (رأس الكبش) الذي يرمز للشيطان نفسه، و (الصليب المقلوب)، ويدل على اتخاذ طريق عكس طريق الأديان التقليدية، و(الجمجمة) التي ترمز إلى الموت وتعاطي المخدرات.
وتوجد في مصر محلات متخصصة في ملابس عبدة الشيطان وفي موسيقاهم، وأندية خاصة ومطاعم تستقبلهم.
وقد ظهرت جماعة عبدة الشيطان في دول عربية أخرى، منها: فلسطين والأردن ولبنان والمغرب. (مصادر المعلومات: عدد من المواقع الإلكترونية والمعاجم).
وهكذا يظهر إلينا المستوى الذي وصل إليه الإنسان المعاصر في انحرافه عن الدين والعقل والفطرة واتباع خطوات الشيطان، ويظهر إلينا بجلاء ووضوح: خطورة الأزمة التي تعاني منها الإنسانية في الوقت الراهن في ظل الفراغ الفكري والروحي والأخلاقي والفراغ الإنساني، وحجم الخطر الذي يشكله أولياء الشيطان من الطواغيت والفراعنة والمستكبرين، وحجم الخطر الذي تشكله القيم المادية وصدارة قيم الوجاهة والفهلوة والكسب السريع، فإن حجم المسؤولية الملقاة على عواتق الشعوب والحكومات العربية والإسلامية والقيادات والمؤسسات الدينية كبير وخطير، ويتمثل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله رب العباد وسبيله القويم من أجل صيانة المجتمعات الإسلامية وإنقاذ العالم من الأخطار الحضارية القاتلة، و إن النهوض بهذه المسؤولية لا يمكن أن يتحقق في ظل الكبت والاستبداد والتخلف والضعف الذي تعاني منه الشعوب والدول العربية والإسلامية، مما يثب بأن سلبيات تأخرنا ليست محلية وإنما عالمية، وإن علينا أن نبدأ بالإصلاحات الداخلية في سبيل أداء رسالتنا العالمية المقدسة، وهذا ما يجب أن يأخذه الجميع بعين الاعتبار.
أمريكا الشيطان الأكبر
لقد رفع الإمام الخميني (رحمه الله تعالى) شعار: (أمريكا الشيطان الأكبر)، ولهذا الشعار الجبار دلالات عديدة مهمة، منها الدلالات التالية:
الدلالة الأولى: إنَّ خط أمريكا هو خط إبليس الشيطان الغوي الرجيم، وعند التأمل في حقيقة خط إبليس وخط أمريكا، نجد أن أمريكا تتقدم على إبليس درجة، ذلك أن إبليس يعترف لله تعالى بالربوبية، و أنه تعالى هو صاحب الحق الوحيد في التشريع، وأن واجب المكلفين الطاعة لله وحده لا شريك له، واستناداً لذلك فهو يصف خطته بالغواية.
قول الله تعالى على لسانه: <قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ>[41]
أما أمريكا فهي لا تعترف لله تعالى بهذا الحق، فأمريكا ترى بأن الناس أحرار في طاعة الله ومعصيته فيما يتعلق بالعبادة الشخصية كالصلاة والصيام وعدم الزنا وعدم شرب الخمر، ولا تتدخل لفرض أو ترجيح أحد الخيارين من الناحية النظرية، وتتدخل من الناحية العملية لفرض خيار المعصية، لأنه ينسجم مع خيارها الحضاري، و تسمي ذلك تقدماً.
أما ما يتعلق بالتشريع والتنظيم الاجتماعي، ففي رأيها: أن الله جل جلاله ليس له حق التدخل في الشأن العام بالتشريع والتنظيم، وترى بأن هذا متروك للإنسان وهو حقه وحده، وهي تعطي لنفسها حق فرض خيارها الحضاري على الشعوب بالسلم وبقوة النار والحديد، ومن ليس معها فهو ضدها ويستحق العقوبة والسحق، وهي وحدها صاحبة الحق في فرض العقوبات المناسبة: السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية، وبالتالي: فإن أمريكا تضع نفسها فوق الله الواحد القهار، وتجعل من نفسها حاكماً عليه جلّ جلاله وتحدد له واجباته كما تحددها لدول وشعوب العالم، وهذا مالم يفعله إبليس الغوي الرجيم، فأمريكا أسوأ من إبليس وهي الشيطان الأكبر.
الدلالة الثانية: إنَّ أمريكا تمتلك إمكانيات مادية وبشرية في غاية الضخامة والفحش، مما يؤهلها لفرض خيارها الشيطاني على الشعوب المستضعفة بقوة الحديد والنار، مما يرشحها بحق لحمل لقب «الشيطان الأكبر»، فليس هناك من هو أجدر منها بخدمة خط وأهداف وأطروحات الشيطان في الأرض.
الدلالة الثالثة: إنّ حقيقة أمريكا الحضارية ومنهجها في التعامل مع الشعوب المستضعفة كحقيقة الشيطان ومنهجه في التعامل مع الناس؛ لا خير ولا منفعة فيهما ترتجي للناس أبداً.
قول الله تعالى: <وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ 57 وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ>[42]
فالحقيقة الخبيثة للشيطان وأمريكا تفرض حتما بأن لا يخرج منهما إلا النكد وهو: العسر والشدة والشؤم، فلا يمكن أن نتوقع من الشيطان أو أمريكا الخير والمنفعة للناس والشعوب أبداً وإن تظاهرا بخلاف ذلك، وقد صرّح الشيطان بحقيقة وعمق عداوته للإنسان، ودلت التجارب على أن أمريكا كذلك، وعلينا أن نتعلم الدرس وأن نكون في غاية الحذر من أمريكا، فأمريكا بخيارها الحضاري البعيد عن الله تبارك وتعالى، وبمنهجها البرجماتي المحض في التعامل مع الشعوب، لا يمكن أن تفعل الخير للشعوب المستضعفة، فعلى الشعوب المستضعفة أن تنظر بعين الحذر وتتعامل بحذر شديد مع أطروحات ومشاريع ومواقف أمريكا مهما تظاهرت بالرغبة في خدمة الشعوب وقضاياها المصيرية، وفي المنطقة علينا أن لا نفرق بين أمريكا والكيان الصهيوني، فهما طبقتان في سروال واحد، و وجهان لعملة واحدة.
مرابطة العلماء الروحانيين في حراسة الحدود الإلهية والإنسانية
لقد أصبح في غاية الوضوح حجم ونوعية المخاطر التي تهدد المسيرة الإنسانية العظيمة في الأرض، فالظلم في العالم المعاصر كثير كثير، وشبهات الشياطين ووساوسهم كثيرة كثيرة، و إن البشرية مهددة بالانسلاخ من إنسانيتها في ظل الأطروحات الوضعية الشيطانية وفرض مناهج الشيطان في الحياة بالإغراءات وقوة السلاح والاستبداد، وكلنا مطالبون بالوقوف في وجه الأطروحات والمناهج ومقاومتها بكل الأساليب المشروعة المتاحة، ولكن العلماء الروحانيين عليهم مسؤولية مضاعفة في ذلك، فهم القادة الحقيقيون في حماية ثغور الدين والإنسانية.
قال الإمام الصادق (ع): «علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم من الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته والنواصب. ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا، كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم»[43].
فهذا الرباط المقدس على ثغور العقائد والإنسانية، الذي تمثل قلوب ضعفاء المسلمين وعقولهم حدوده، وهي حرم الله الذي لا ينبغي للشيطان وعفاريته المضلين أن يدخلوها، هذا الرباط هو أفضل أنواع الجهاد في سبيل الله تعالى، ومن واجبات المرابطين: رصد حركات العدو، وسد المنافذ التي يمكن للعدو الدخول منها إلى الحدود الشرعية المقدسة لقلوب ضعفاء المسلمين وعقولهم، فعلى العلماء الروحانيين العاملين أن يحرسوا هذه الحدود الشرعية المقدسة، وأن لا يسمحوا لإبليس وعفاريته أن يدخلوها وينتهكوا حرماتها، وأن يستحضر العلماء الروحانيون أنهار الدماء الطاهرة المقدسة من الأنبياء والأوصياء والمؤمنين التي سفكها الأعداء في سبيل اقتحام هذه الحدود ولم يسمحوا لهم بذلك، والمطلوب من المرابطين على هذه الحدود المقدسة أن يعرفوا قيمة هذه الحدود عند الله جل جلاله وفي الحضارة الإنسانية على الأرض وحجم مسؤولياتهم عنها، وأن لا يهنوا ولا يضعفوا في الدفاع عنها وحمايتها من انتهاك ودخول الأعداء إليها، وإلا فهم ليسوا أهلاً للشرف الذي تعنونوا به، وإن فعلوا ما أمرهم الله تعالى به في الدفاع عن الحدود وحمايتها من انتهاك الأعداء لها، كان عملهم أفضل من الدفاع عن الحدود المادية للأرض الإسلامية والمصالح والمكتسبات المادية والدنيوية للمسلمين، فليست الدنيا كالآخرة، وليست المصالح المادية كالمصالح الدينية والمعنوية للإنسان في نفسه ودنياه وآخرته، وأول ما يحصل عليه من الثواب أن الله تعالى يلقنه حجته في قبره.
قال أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (ع): «من قوّى مسكيناً في دينه ضعيفاً في معرفته، على ناصب مخالف فأفحمه، لقنه الله تعالى يوم يدلي في قبره أن يقول: الله ربي، ومحمد نبيي، وعلي وليي، والكعبة قبلتي، والقرآن بهجتي وعدتي، والمؤمنون إخوتي، فيقول الله، أدليت بالحجة، فوجبت لك أعالي درجات الجنة، فعند ذلك يتحول عليه قبره أنزه رياض الجنة»[44].
وأما عن ثواب الآخرة، فقدقالت الصّديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (ع): سمعت أبي رسول الله (ص) يقول: إن علماء شيعتنا يحشرون فيخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدهم في إرشاد عباد الله، حتى يخلع على الواحد منهم ألف خلعة من نور، ثم ينادي منادي ربنا عز وجل: أيها الكافلون لأيتام آل محمد، الناعشون لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم، فاخلعوا عليهم خلع العلوم في الدنيا، فيخلعون على كل واحد من أولئك الأيتام على قدر ما أخذ عنهم من العلوم، حتى إن فيهم لمن يخلع عليه مائة ألف حلة، وكذلك يخلع هؤلاء الأيتام على من تعلم منهم، ثم إن الله تعالى يقول: أعيدوا على هؤلاء العلماء الكافلين للأيتام حتى تتموا لهم خلعهم وتضعفوها، فيتم لهم ما كان لهم قبل أن يخلعوا عليهم ويضاعف لهم، وكذلك من بمرتبتهم ممن يخلع عليه على مرتبتهم.
ثم قالت (عليه السلام): إن سلكاً من تلك الخلع لأفضل مما طلعت عليه الشمس ألف مرة.[45]
وقال علي بن الحسين (ع): «أوحى الله تعالى إلى موسى: حببني إلى خلقي, وحبب خلقي إليّ. قال: يا رب كيف أفعل؟ قال: ذكرهم آلائي و نعمائي ليحبوني، فلئن ترد آبقاً عن بابي أو ضالاً عن فنائي، أفضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها.
قال موسى (ع): ومن هذا العبد الآبق منك؟
قال: العاصي المتمرد.
قال: فمن الضال عن فنائك؟
قال: الجاهل بإمام زمانه تعرفه، والغائب عنه بعد ما عرفه، والجاهل، تعرفه شريعته وما يعبد به ربه ويتوصل به إلى مرضاته.
قال علي بن الحسين (ع): فبشّروا علماء شيعتنا بالثواب الأعظم والجزاء الأوفر»[46].
لنتأمل بدقة كبيرة ما جاء به الحديث الشريف، يقول: بأن الذي يستطيع أن يرجع آبقاً أو يهدي ضالاً إلى ربه فعلمه أفضل من مائة سنة عبادة، ليست من عبادتنا وصلاتنا وصومنا نحن، وإنما من عبادة وصلاة وصوم نبي الله وكليمه وأحد أولي العزم: موسى بن عمران (ع)، فعلينا أن نعلم هذه القيمة العظيمة جداً لهداية الناس إلى الله تبارك وتعالى، وألا نقصر في الدعوة إلى الرب الرحيم وهداية الناس إليه.
المطلوب منا ليس لعن العاصين والمقصرين والشماتة بهم أو التكبر عليهم ونزعم بأننا خير منهم، وإنما المطلوب هو الحرص على هدايتهم إلى الله ربهم الرحمن الرحيم تبارك وتعالى، وإعادتهم إلى حظيرة قدسه وطاعته وولايته، هذا هو المطلوب من المؤمنين و لاسيما العلماء الروحانيين منهم، ولنقتدي في ذلك بالأئمة (عليهم السلام)، ومن ذلك موقف الإمام موسى بن جعفر الكاظم (باب الحوائج) (ع) مع أبي نصر بشر بن الحارث، الذي كان من أصحاب المعازف والملاهي، فلما سمع عن انحرافه وغواية الشيطان الرجيم له، لم يلعنه، ولم يشتمه، وإنما قصده وتوجه لإعادته، نعم إعادة هذا العبد الآبق إلى ربه الرحمن الرحيم، الذي يحب عودة عباده الآبقين إليه، والإمام موسى بن جعفر (ع) هو رسول الرب الرحيم إلى عباده، يعرفهم به، ويهديهم إليه، وإنه يقف بكل قوته وبكل ما يملك على الجبهة المضادة للشيطان، ووظيفته إنقاذ عباد الله الرحمن من مخالب الشيطان الرجيم، وليس لعنهم وشتمهم أو التفرج عليهم وعدم الاكتراث بهم، وقد ضحى الإمام الحسين (ع) بنفسه وبأهل بيته و خاصة أصحابه من أجل هداية الناس وإنقاذهم من الشيطان ومن مخالب أئمة الضلال مثل يزيد بن معاوية ومن على شاكلته، وكل مؤمن لاسيما العلماء الروحانيين هم رسل الرب الرحمن الرحيم إلى عباده جميعاً.
لقد خرج الإمام الحنون الحريص على الناس جميعاً موسى بن جعفر (ع) من بيته، وتوجه إلى باب دار العبد الآبق (بشر بن الحارث) في الوقت الذي كان يجتمع فيه هذا العبد الآبق مع أصحابه الآبقين في بيته لسماع الغناء والمعازف وشرب الخمر، فلما وصل على باب الدار، وإذا بجارية تفتح الباب، وتخرج من البيت لترمي بآثار الجريمة في الطريق، فسألها صاحب القلب الرحيم الحريص على الناس: بيت من هذا؟
فأجابت: بيت سيدي فلان.
فسألها العبد الصالح الإمام موسى بن جعفر (ع): سيدك هذا حر أم عبد؟!
فقالت متعجبة: أقول لك سيدي فتسألني حر هو أم عبد؟!!
فقال (ع): نعم؛ حر أم عبد؟!
فأجابت: هو حر.
فقال (ع) ليبلغ الرسالة للعبد الآبق: صدقت لو كان عبداً لخاف مولاه!!
ولما دخلت البيت سألها مولاها الآبق: ما أبطأك؟
فأبلغته الرسالة المختصرة جداً، والبليغة جداً.
قالت: رجل مارّ في الطريق تبدو عليه آثار الصلاح والتقوى، فسألني بكذا وأجبته بكذا!! فلما أنهت حديثها فكر ملياً فيما نقلته إليه، وعرف على الفور صاحب الرسالة البليغة الصادقة ومعدنها الإنساني الأصيل، ووقع أثر الرسالة في قلبه، ففتحته على مصراعيه لتلقي النور والرحمة، وخرج حافياً يجد في طلب صاحب الرسالة، الأب الحنون الحريص على الناس جميعاً.
فلما بلغه وقع على قدميه يقبلهما!!
قال: سيدي هل لي من توبة؟
قال (ع): نعم؛ تب يتب الله عليك!!
فتاب العبد الآبق: (بشر بن الحارث)، على يدي العبد الصالح: (الإمام موسى بن جعفر (ع)) توبة نصوحا، ولم ينتعل (بشر) من يومه ذاك نعالاً حتى مات، ليبقى يتذكر خروجه حافياً ليتوب إلى ربه عز و جل على يد سيده ومولاه الإمام موسى بن جعفر (ع)، وليخلّد لنا درساً في أخلاق المؤمنين ومنهجهم في الدعوة إلى الله المحمود، وما يحملونه في قلوبهم من الرحمة على الناس جميعاً، وما يحملونه من الحكمة في الدعوة والحياة.
وقد أصبح (بشر بن الحارث) بعد يومه ذاك عارفاً عابداً زاهداً، وصار يعرف بـ(بشر الحافي) عليه الرحمة والرضوان.
وهكذا ينبغي أن يكون كل مؤمن بفطرته السليمة، حريصاً على هداية الناس جميعاً، وعودة العاصين: الآبقين والضالين إلى ربهم الرحمن الرحيم الذي يشفق عليهم ويشتاق إلى عودتهم.
قول الله تعالى: <وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ>[47]
فليس المطلوب من المؤمن لعن العاصين والضالين والتشفي منهم والتكبر عليهم، فليس هذا بمنهج المؤمنين، وليس بخلقهم وتربيتهم، وليس بأدبهم الرباني الذي تأدبوا عليه، وليس بلون فطرتهم المصبوغة بالرحمة والمحبة والطيبة، والطاهرة من التلوث والتكبر والشماتة واحتقار الآخرين والتشفي منهم، وليس بالذي يرضي ضمائرهم الحية، وليس بالذي يعبر عن وجدانهم الديني والأخلاقي النبيل، وليس بالذي يحقق أهدافهم وغاياتهم العالية والسامية في الحياة.
قال الله تعالى في وصف النبي الأعظم الأكرم (ص): <لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ>[48]
- [1] الأنعام: 112
- [2] طه: 120-121
- [3] الحجر: 29-44
- [4] الكهف: 50
- [5] الكافي، ج 6، كتاب الأشربة، باب: الأواني، ح 5، ص 385
- [6] الأنعام: 112
- [7] الكافي، ج 2، باب: إن للقلب أذنين ينفث فيهما الملك والشيطان، ح 1، ص 266
- [8] البقرة: 269
- [9] النساء: 119
- [10] إبراهيم: 22
- [11] الحشر: 16
- [12] الناس: 5-6
- [13] فصلت: 30-32
- [14] الأنفال: 12
- [15] الفتح: 4
- [16] البقرة: 268-269
- [17] الأنعام: 125
- [18] نفس المصدر
- [19] البقرة: 269
- [20] النساء: 37-38
- [21] الأنفال: 48
- [22] البقرة: 166
- [23] إبراهيم: 22
- [24] نفس المصدر
- [25] الحجر: 42
- [26] النحل: 100
- [27] الأنعام: 113
- [28] الشعراء: 221-222
- [29] النساء: 38
- [30] الأنفال: 48
- [31] الحشر: 11-16
- [32] إبراهيم: 22
- [33] المطفيين: 11-14
- [34] آل عمران: 155
- [35] الأعراف: 202
- [36] الأعراف: 200-201
- [37] النحل: 99
- [38] الإسراء: 65
- [39] الحجر: 39-43
- [40] المعجم الفلسفي، د. صليبا، جزء 1، مادة الأخلاق، صفحة 52
- [41] الأعراف: 16
- [42] الأعراف: 57-58
- [43] الاحتجاج، ج 1، ص 8
- [44] نفس المصدر، ج 1، ص 10
- [45] بحار الأنوار، ج 2، ص 3
- [46] نفس المصدر، صفحة 4
- [47] الأنعام: 54
- [48] التوبة: 128