من فوائد الاستعاذة
للاستعاذة فوائد لا حصر لها سوف نتبينها من خلال فصول البحث، ولكن أرغب هنا في الإشارة إلى نموذجين من الفوائد التي أشارت إلهيا بعض الروايات بصورة مباشرة، وهما:
الفائدة الأولى – السيطرة على الغضب: عن سليمان بن صرد رضي الله تعالى عنه قال: استبّ رجلان عند النبي (ص) ونحن عنده جلوس، فأحدهما يسب صاحبه مغضباً قد احمرّ وجهه، فقال النبي (ص): (إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجده، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فقالوا للرجل: ألا تسمع ما يقول رسول الله (ص)؟ قال: إني لست بمجنون!![1]
مقال قصير حول الغضب
قال الإمام الباقر (ع): «إن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم»[2].
والغضب من المهلكات العظيمة ومفتاح كل شر، فحين يغلب الغضب على الإنسان يخرج عن سياسة العقل والدين وطاعة الله الواحد الماجد؛ حيث يضعف فكره واختياره، و تعمى بصيرته، و تصم أذنُه عن سماع كل موعظة، وقد تزيده الموعظة عنفاً، فقد انطفأ نور العقل وأصبح الإنسان تحت تأثير الغضب أداة في يد الشيطان، وقد يصل الغضب بالإنسان إلى حد الارتداد عن الدين، وقد يقتل النفس المحترمة الزكية، ويضرب ويجرح بغير حساب، وينطلق لسانه بالشتم وإظهار الشماتة وإفشاء الأسرار وقذف المرأة المحصنة والافتراء على العوائل المحترمة بما يصمها بالعار والذل ويقضي على النظام العائلي، ويشتم الأنبياء ويخرق النواميس المقدسة، ويمتلئ قلبه بالحقد والحسد والعداوة والبغضاء، وغير ذلك من الصفات والموبقات والمعاصي المهلكة التي يستحي منها العقلاء والمؤمنون ويحذرونها لأنها تتنافى مع العقل، وتنسف الإيمان والاستقرار من الأساس، وهذا هو عين الخروج عن ولاية الله وسلطانه، والدخول في ولاية الشيطان وسلطانه، فيحكم الشيطان قبضته على الإنسان في حالة الغضب ليوجهه في طريقه المظلم المهلك، ليلقى نفس مصيره التعيش في الدنيا والآخرة، وهو الطرد من ساحة قدس الله العظيم والعذاب الأليم في الآخرة، ولهذا قال الرسول الأعظم الأكرم (ص): «الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل»[3].
وقد يصوّر الشيطان لأوليائه ويوهمهم بأن شدة الغضب من فرط الرجولة والشجاعة والفتوة، فيتبجحون بتشفي الغيط وطاعة الغضب، ويقولون ببلاهة شامخين بأنوفهم ممتطين خيل الشيطان: نحن لا نصبر على كذا وكذا، ولا نحتمل من أحد أن يفعل كذا ويقول كذا، مع أن ما يصدر عن الغضبان من الأفعال القبيحة إنما هي أفعال الصبيان والمجانين والحيوانات المفترسة المتوحشة، وليس هي أفعال الآدميين العقلاء الشرفاء أصحاب النبل والشجاعة والإيمان، وكما قال الإمام الباقر (ع): «إن الرجل ليغضب، فما يرضى أبداً حتى يدخل النار»[4].
وهذا دليل على أن الغضب مرض ونقصان في العقل و الدين، ويصدر عن ضعف النفس ونقصانها لا عن شجاعة النفس، فهؤلاء المرضى المساكين يغضبون لأتفه الأمور، ويغضبون لشدة جهلهم وضعف أنفسهم حتى على الحيوانات والجمادات، ويلعنون الأرض والمطر وسائر الظواهر الطبيعية إذا كانت خلاف رغباتهم، أما الشجاع فلا تكون أعماله إلا عن روية وتفكر وطمأنينة، وهو يزن أعماله بميزان العقل والشرع والعدل والإنصاف، ولا تهزه التوافه ولا تغضبه، ولا يفقده غضبه زمام نفسه، ولا يبادر بالكلام البذيء ولا بالأعمال القبيحة، فعلى الناس أن لا يخلطوا بين الكمالات النفسية التي يتصف بها الأنبياء والأوصياء الصالحون من الناس، وبين النقائص والصفات الشيطانية التي يوسوس بها إبليس في صدور أوليائه من ضعفاء النفوس.
هذا وقد أثبتت التجارب أن أصحاب الأخلاق السيئة والرذائل القبيحة أسرع غضباً من أصحاب الفضائل والنفوس الكبيرة، فالبخيل مثلا: يغضب على أعزة أهله وولده لفقد أشياء تافهة وحقيرة، ويقول الباطل ويفعل الشر بحقهم فضلاً عن غيرهم.
وفي الحقيقة: فإن قمع أصل الغضب غير ممكن وغير مطلوب، لأن الغضب جزء من التجهيزات المهمة في الإنسان التي جهزه الله الخالق المبدع بها لبلوغ كماله وتحقيق غاية وجوده، وهو مطلوب للدفاع عن الدين والمقدسات والحقوق، وصيانة النفس عن الذل والهوان والصغار، وصيانتها عن الضعف وفقدان الحمية والغيرة على الدين والمقدسات والحقوق.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «كان النبي الأعظم الأكرم (ص) لا يغضب للدنيا، وإذا أغضبه الحق لم يصرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له»[5].
التكليف الشرعي والأخلاقي للإنسان بشأن الغضب
هو السيطرة على الغضب ووضعه تحت سيطرة العقل والدين، فيغضب في محل الغضب، ويحلم في محل الحلم، و ليس اقتلاع الغضب من أصله.
قول الله تعالى: <وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ 133 الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ>[6]
انظر قول الله تعالى: <وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ>، فكظم الغيظ يختلف عن القضاء عليه واقتلاعه من أصله.
وفي الحقيقة أيضاً: إن من لا يغضب من أجل الدين والمقدسات والحقوق، ومن يقبل بالذل والجور من السافلين والظالمين و يداهن في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو مخالف لحكم الدين والعقل والفطرة، وهو حمار لا غيرة عنده، ولا حمية، ولا وطنية، ولا شرف، ولا دين، ولا قيم، ولا مبادئ، ولا مقدسات، كما أثر عن الشافعي (رضي الله تعالى عنه) قوله: «من استغضب فلم يغضب فهو حمار»[7]، وإنْ عنْوَن ذلك الحمار سلوكه في مواقفه تلك بعناوين براقة مثل الدبلوماسية والاعتدال والوسطية وغيرها من العناوين، من أجل الخداع والتضليل والتستر على الأسباب الحقيقية لمواقفه الهزيلة البعيدة عن الكرامة الإنسانية والشرف والعقل والدين، وهي ممارسات ومواقف شيطانية غير رحمانية وغير إنسانية، وتدخل الإنسان تحت عباءة الشيطان وساحته، وتخرجه من ساحة الرحمن وحكومته، وتخدم أهداف الشيطان الخبيثة في الحياة، على حساب الحق والعدل والخير والسعادة والكرامة للإنسان في الدنيا والآخرة، وهي خارجة عن حقيقة العناوين المطروحة لها والمعنونة تحتها: من حيث المضمون والغاية والأهداف. والأمر فيها يختلف كلياً عن التوجهات و الأطروحات والمواقف لمناضلين ومجاهدين شرفاء: رساليين ووطنيين، يتبعون تكتيكاً مسالماً للعدو في ظروف معينة على أسس موضوعية من أجل تقوية الموقع وتحصين الحالة للتقدم بها على أرض الواقع بصورة أقوى و أضمن لخدمة الأهداف الرسالية والوطنية وتحقيقها على أرض الواقع على المدى القريب أو البعيد، وهي إلى حين وليست للأبد، وهي لا تعطي الفرصة للانحراف والظلم والفساد بالرسوخ والقوة ولا تسالمه ولا تستسلم له، وإنما تمهله إلى حين تتهيأ الظروف لمواجهته واجتثاثه من فوق الأرض، وهي تقوم على أسس علمية موضوعية روعي فيها خدمة المصالح العامة: الرسالية والوطنية وضمانات تحقيقها، ولا تقوم على أسس ضعيفة، وأمزجة متبلدة، ورغبات حيوانية، ومجاملات رخيصة. ولخدمة المصالح الشخصية والحزبية والفئوية والطائفية، على حساب المصالح الرسالية والوطنية، فالتكتيك: تعبير عن القوة وليس الضعف، وهو من أجل الانطلاقة إلى الأمام لخدمة الأهداف وضمان تحقيقها، ولا يؤدي إلى المراوحة والتراجع إلى الوراء في المسيرة الإسلامية أو الوطنية، أو يؤدي إلى التنازل عن الحقوق والمكتسبات العامة العادلة والمشروعة.
والمطلوب من الإنسان ألاّ يخرجه غضبه عن الاختيار والوقار والحشمة، وذلك ممكن من خلال التربية الإيمانية الروحية العالية، التي تقوم على أساس مخالفة هوى النفس والشيطان، واتباع أحكام العقل والشريعة، واقتلاع أسباب الغضب المهيجة له بأضدادها، حتى تطهر النفس من تلك الرذائل السيئة المهيجة للغضب وتتخلص من الغضب المذموم، وفي مقدمة الأسباب المهيجة للغضب المذموم: التجبر والتكبر، وحب الذات والزهو بالنفس، وحب التسلط والنفوذ والعصبية الجاهلية واحتقار الناس، والحرص على فضول المال والجاه وغيرها من الرذائل، فإذا واجه من استحكمت فيه تلك الرذائل بعض الصعوبات، أو أحس بمن ينافسه على فتات الدنيا وحطامها التافه وزخارفها الفانية، استولى عليه الغضب وملكه الشيطان وتحكم فيه، وانطفأ نور العقل والفطرة والشريعة في وجوده، وحاد عن جادة الطريق والصراط المستقيم والنهج القويم، ولم يراع حرمة ولا ذمة لأحد، وأصبح غنيمة دسمة للشيطان وأوليائه، يخدم أهدافهم، ويحقق ما تشتهي أنفسهم الخبيثة، وما تهوى من الرذائل والمفاسد والخراب.
أما الإنسان المعافى وغير المبتلى بتلك الرذائل القبيحة، فإن نفسه مهما كانت ضعيفة، فإنها تتحمل المنغصات بعض الشيء، ولا تنجر إلى الهاوية والمهلكات التي يجر إليها الغضب المذموم.
أما إذا اقتلع الإنسان جذور حب الدنيا من قلبه اقتلاعاً، وهي حالة الأولياء وعباد الله الصالحين، فإن جميع المفاسد والأخلاق السيئة تهجر قلبه، وتحل محلها الفضائل والأخلاق الرحمانية الرفيعة السامية.
فعلى الإنسان وهو في حالة هدوئه النفسي وتعقله، أن يكون على حذر تام من الغضب المذموم، وأن يفكر بهدوء وروية في المفاسد العملية والأخلاقية والمهلكات التي تتولد عنه، وتفسد الدين والدنيا وتضيعهما على العبد بدون ثمن أو مقابل سعيد، غير الخسران والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، بدلاً من أن ترفعه تلك الغريزة الفطرية التي يفطر الله العدل الحكيم الناس عليها إلى أعلى الدرجات في معارج الكمال والرشد الإنساني ومنازل القرب الربوبي، وتحقق له السعادة والكرامة في الدنيا والآخرة، وذلك في حالة توظيفها التوظيف الصحيح في الدفاع عن النفس والحرمات والمقدسات والحقوق العدالة والمكتسبات المشروعة وغيرها من الوظائف الإنسانية التي وجدت من أجلها في وجود الإنسان وتكوينه.
فعلى الإنسان العاقل الرشيد، والحريص على سعادته وسعادة الآخرين من إخوانه البشر، أن يسعى بكل صدق وجد وإخلاص، لكي يملك زمام نفسه ويحسن قيادتها، ويصونها من الوقوع في الغضب المذموم، ويحفظها من التورط في المهلكات وسوء العاقبة الناتجة عنه في الدنيا والآخرة، وأن يتعود على أن يقدم الفكر والروية على كل قول أو فعل يصدر عنه، ويواظب على ذلك ولو بالتكلف والتظاهر بالحلم والروية، وإن كان في داخله على خلاف ذلك، حتى تتغير نفسه فعلاً، ويحصل بالفعل على ملكة الحلم، وعليه أن لا يسمح لنفسه بأن يصدر عنه شيء من قول أو فعل بغير إرادته، وهذا من العلاج الجذري للغضب والنجاة من شره المستطير في الدنيا والآخرة.
يقول الإمام الخميني (رح): «فليفكر في هذه الغريزة التي يهبها الله تعالى إياه لحفظ نظام الظاهر والباطن وعالم الغيب والشهادة، إذا استخدمها لغير تلك الأهداف وبخلاف ما يريد الله سبحانه وضد المقاصد الإلهية، فما مدى خيانته؟ وما هي العقوبات التي يستحقها؟ وكم هو ظلوم جهول؟ لأنه لم يصن أمانة الحق تعالى، بل استعملها في العداوات والمخاصمات. إن امرءًا هذا شأنه لا يمكن أن يأمن الغضب الإلهي»[8].
علاج الغضب
أما إذا وقع الإنسان في الغضب المذموم فعلاً، فعليه أن يبادر سريعاً ويعمل على أن يصرف النفس عنه عند أول ظهوره، ولا يسمح له بالاستفحال والسيطرة الكاملة على النفس، فيخرج عن حدود السيطرة والتحكم، ويصبح الإنسان أسيره ويقوده إلى حيث يريد الشيطان وجنوده وأولياؤه.
يقول الإمام الخميني (رح): «أما العلاج العملي فأهمه صرف النفس عن الغضب عند أول ظهوره، وذلك لأن الغضب أشبه بالنار، فهو يزداد شيئاً فشيئاً ويشتد، حتى يتعالى لهيبه، وترتفع حرارته ويفلت العنان من يد الإنسان، ويخمد نور العقل والإيمان، ويطفئ سراج الهداية، فيصبح الإنسان ذليلاً مسكيناً. فعلى الإنسان أن يأخذ حذره قبل أن يزداد اشتعاله ويرتفع سعيره، فيشغل نفسه بأمور أخرى»[9].
ومن علاج الغضب الاستعاذة: وهي تعني في حال القصد والتوجه، سعي الإنسان للخروج من حظيرة الشيطان وسلطته، وعودته إلى حظيرة الرحمن وسلطته، فالغضب المذموم في استحكامه، يدخل الإنسان في حظيرة الشيطان، ويجعل الإنسان الغاضب ملك يمينه، والاستعاذة الجادة في حال الغضب تعني: سعي الإنسان المؤمن الغاضب للخروج من حظيرة الشيطان وولايته التي دخلها بغضبه المذموم، وعودته بالاستعاذة إلى حظيرة الرحمن المقدسة وولايته الطاهرة من الظلم والمعاصي، وهذا هو أساس الاهتمام بموضوع الغضب في هذا البحث.
ومن علاجه أيضاً بعد اشتعال ناره: الوضوء أو الغسل بالماء البارد، ليطفئ نار الغضب المشتعلة بماء الرحمة الواسعة التي وسعت كل شيء من خلال التوجه بالوضوء أو الغسل إلى الرب الرحمن الرحيم، وليخفف من نار الغضب وحرقتها ببرودة الماء فتتغير حالة النفس.
ومن العلاج: الصمت أو الكف عن الكلام أثناء الغضب إلا بذكر الله الغفور الودود، والصلاة على محمد وآل محمد وهو من أفضل الذكر.
ومن العلاج: تغيير الوضع الذي يكون عليه الإنسان حال الغضب، كأن يجلس إذا كان قائماً، ويضجع أو يقوم إذا كان جالساً، أو يخرج من المكان الذي هو فيه، ويحاول أن يستحضر ذكر الله والتفكر في قدرته عليه، ويتذكر فضائل كظم الغيظ والحلم والاحتمال، ويتذكر قبح الغضب وسوء عاقبته ومخاطره على الفرد والمجتمع، ويتظاهر بالحلم والهدوء وضبط النفس، وإن كان غاضباً ومضطرباً في داخل نفسه، حتى تتغير نفسه تدريجياً، ويحصل له الهدوء والحلم والاستقرار التام فعلاً، ويحسن التصرف وإدارة الأمر بحكمة وروية.
قال الإمام الباقر (ع): «من كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة»[10].
ولا يتسع المقام لتوضيح فلسفة تلك الأعمال والممارسات وفوائدها وتأثيرها في معالجة الغضب، لاسيما وأن البحث في الغضب لم يكن من صلب الموضوع وإنما من توابعه.
تجلٍّ وحشي من واقع الحياة
وأنا أتحدث عن الغضب برزت في ذهني صور مروعة لتجليات وحشية من واقع حياة الإنسان، فقد برزت في ذهني صور بعض الوحوش الآدميين وهم يتعاملون مع الحيوانات العجماء التي لا تستطيع التعبير عن شعورها وما يجول في نفسها، ولا تستطيع الدفاع عنها، فيؤلمونها بغير حدود، ويحمّلونها ما لا طاقة لها به، ويضعونها في أوضاع وحشية وظروف قاسية غير ملائمة، يفعلون ذلك لأن الحيوانات العجماء لا تستطيع الدفاع عن نفسها، ولأن الوحوش البشرية لا يملكون شعوراً ولا عواطف إنسانية نبيلة ورقيقة، و أنهم لا يبصرون ولا يشعرون بما هو خارج الحدود المباشرة لحواسهم المغلقة قصيرة المدى، ولا يتعاملون بتعقل وبصيرة وروية مع الأشياء، ولا يقفون عند حد من الحدود إلا ما يجبرون عليه، فقد أطلقوا لأنفسهم العنان بغير حدود لضعف عقولهم ونفوسهم المريضة.
ثم برزت في ذهني صور أكثر مأساوية لهذه الوحوش الآدمية في تعاملهم مع الآدميين المستضعفين الذين يقعون تحت أيديهم ولا حول لهم ولا قوة، وقد ملأت هذه الصور قلبي بالألم والحزن، كما تفعل بقلب كل آدمي يشعر بآدميته، فقد تصورت التعامل المروع لهذه لهؤلاء الوحوش مع العبيد من بني البشر الذين يملكونهم، والخدم الذين يعملون عندهم وما يفعلونه بهم؛ حيث يتغافلون عن إنسانية أولئك المملوكين أو الخدم، ويتعاملون معهم كتعاملهم مع الحيوان الأعجم!!
وتصورت تعامل السجانين والمعذِّبين مع الضحايا في السجون، والمدى المروع الذي يذهبون إليه في التعامل الوحشي معهم بصنوف التعذيب وسوء المعاملة.
وتصورت التعامل الوحشي للحكام المستبدين مع الشعوب المستضعفة، وما يخلقونه لهم من أوضاع مأساوية وظروف قاسية في المعيشة والحياة تتنافى مع كرامة الإنسان وحقوقه في الحياة، حتى يخيل إلى المراقب بأنهم لو كانوا يسوسون قطعاناً من الأبقار أو الحمير لما كانت سياستهم أسوأ من سياستهم لبني البشر؛ بل سياستهم لبني البشر الأسوأ بسبب ما يعانيه بعض أولئك الحكام المستبدين من الشعور بعُقد الحقارة والنقص والدناءة، فيوغلون في سوء المعاملة مع بني البشر لاسيما مع المتفوقين والمبدعين، تعويضاً عن شعورهم بالنقص والحقارة والدناءة، وحقداً عليهم لما يملكونه من ملكات وقدرات، ولو كانوا يسوسون قطعاناً من الأبقار والحمير لما كانت لهم نفس الدرجة من الشعور بالدناءة والحقارة والنقص، ولهذا قد تكون معاملتهم مع قطعان الأبقار والحمير والكلاب – كما كشفته التجارب – أفضل وأرحم من معاملتهم مع بني البشر و إن كان هناك منهم ومن غيرهم من يحاول أن يفرغ عقده النفسية حتى مع الحيوانات العجماء، وذلك بسبب عمق الشعور بالنقص والحقارة والدناءة.
وتصورت التعامل الوحشي لأرباب العمل الذين تتضخم ثرواتهم على حساب العاملين عندهم، ويضعون العاملين عندهم في أوضاع وحشية وظروف قاسية لا تتناسب مع إنسانية الإنسان، ولكنهم لا يملكون شعوراً إنسانياً ولا إحساساً بشرياً؛ حيث يستغلون ضعف العاملين وحاجتهم إلى العمل من أجل الإنفاق على أنفسهم ومن يعولون، وبسبب غياب الحماية القانونية لهم يستغلون ذلك، لسلب حقوق العاملين عندهم وعدم إنصافهم بإعطائهم ما يستحقون من الأجر العادل، ويفرضون عليهم العمل في أوضاع مأساوية والعيش في ظروف قاسية، وكل ما يفعلونه مخالف للشرائع السماوية والبروتوكولات الدولية، فالأجر العادل والظروف المناسبة في العمل حق كفلته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، وظاهرة إنسانية حضارية، يجب أن نلتزم بها ونبرزها في مجتمعاتنا من منطلق الشعور بإنسانيتنا، وبكرامة الإنسان وحقه في الحياة حتى لو لم يطلب منا ذلك في القوانين الوضعية، ولم يوجد من يحاسبنا عليه، فشعور المرء بإنسانيته، والشعور بالمسؤولية أمام الله تبارك وتعالى، فوق كل رغبة في الربح، وفوق كل محاسبة في الدنيا أمام القانون الوضعي وأمام الناس والتاريخ.
أيها الأحبة الأعزاء: إن الصور المروعة التي ذكرت وغيرها من تعامل تلك الوحوش الآدمية من الحكام المستبدين والجلادين والمفسدين وإخوان قارون مع البشر، هي بالطبع في غاية السوء والقبح، ولا يمكن أن تقاس بالتعامل الوحشي مع البهائم العجماء، فهي مع دلالتها على فقدان المشاعر والعواطف الإنسانية لدى تلك الوحوش البشرية في الحالتين، فإنها تدل في التعامل الوحشي مع الآدميين على التنكر لكرامة الإنسان وإلغائها عملياً من قاموس التعامل، والمساواة قسرا بين بني آدم وبين البهائم العجماء!! فأي جريمة أشنع من هذه الجريمة في حياة البشر؟! والله تعالى يقول في محكم كتابه المجيد وقوله السديد: <مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ>[11]، فعلى هؤلاء المجرمين أن يتذكروا قدرة الله جبار السماوات والأرض عليهم، وأن يتذكروا مصير فرعون وهامان وقارون ونمرود وشاه إيران وصدام وغيرهم، ممن سودوا صفحات وجه التاريخ وسود التاريخ وجوههم، وأن يتذكروا عذاب الآخرة المقيم الذي لا يزول ولا يحول.
سؤال مهم جداً
والسؤال الذي يفرض نفسه في البين: من هو المسؤول عن ترسيخ تلك الأوضاع الظالمة واستمرارها؟
الجواب: الشعوب أنفسهم هم المسؤولون عن ذلك، ولا سيما تلك القيادات الشعبية ورموز المعارضة الذين يبررون الواقع المنحرف الظالم، ويعملون على ترويض الشعوب على القبول به، والإذعان للجلادين والمستكبرين وسارقي ثروات الشعوب وخيراتهم، وتوظيفها في إشباع مجونهم وشهواتهم وأغراضهم الخاصة ومصالحهم الشهوانية المريضة؛ بدلاً من أن تتوجه تلك القيادات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمطالبة الجدية القوية الفاعلة وليس بالوهم والكلام الفارغ، لتصحيح الأوضاع وتطويرها بما يخدم مصالح الشعوب ويصون مكتسباتهم المشروعة التي ضحوا من أجلها بالنفس والنفيس، وتتوجه لنشر لواء الحق والعدل في البلاد، والقضاء على الانحراف والفساد فيها واجتثاثه منها.
وبالتالي: فإن القيادات التي تقوم بهذا الدور، هم شركاء بصمتهم ومهادنتهم وتثبيطهم للشعوب عن الرفض والمقاومة المشروعة، هم شركاء للمفسدين في الأرض المنغمسين في شهواتهم وملذاتهم الحيوانية المحرمة، وهم شركاء للوحوش البشرية من الحكام المستبدين ومن الجلادين والمعذبين الذين يأكلون من لحوم البشر، وهم شركاء لإخوان قارون أصحاب الأموال الضخمة التي يجمعونها من تحت أقدام الشعوب ومن فوق جماجمهم، وهم شركاء بصمتهم ومهادنتهم وتثبيطهم في كل انتهاك لكرامة الإنسان، وسلب لحقوقه العادلة ومكتسباته المشروعة، وهم شركاء في فرض الأوضاع المأساوية في المجتمعات الإنسانية والشعوب المستضعفة، هم شركاء في جميع ذلك وإن لم يفعلوا شيئاً منها، لأنهم رضوا بها ولم يقاوموها، وذلك خلاف الفطرة والعقل والدين.
قول الله تعالى:< وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ>[12]
وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): «العامل بالظلم، والمعين عليه، والراضي به شركاء ثلاثة»[13].
وقال الرسول الأعظم الأكرم (ص): «من أخذ للمظلوم من الظالم كان معي في الجنة مصاحباً»[14].
وقال الإمام الصادق (ع): «ما من مؤمن يعين مؤمناً مظلوماً إلا كان أفضل من صيام شهر واعتكاف في المسجد الحرام، وما من مؤمن ينصر أخاه وهو يقدر على نصرته إلا نصره الله في الدنيا والآخرة، وما مؤمن يخذل أخاه وهو يقدر على نصرته إلا خذله في الدنيا والآخرة»[15].
الفائدة الثانية – معالجة السهو في الصلاة: عن الإمام الصادق قال: «من كثر عليه السهو في الصلاة، فليقل إذا دخل الخلاء: بسم الله وبالله، أعوذ بالله من الرجس النجس الخبث المخبث الشيطان الرجيم»، وقد وردت قبل قليل أحاديث عن الرسول العظم الأكرم (ص)، وعن أهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام) تثبت هذا الموضوع، ونستغني بذكرها هناك عن تكرار ذكرها هنا، وسوف يأتي البحث في الصلاة بالتفصيل المناسب في تفكيك الاستعاذة وتحليلها إن شاء الله تعالى.
- [1] تفسير ابن كثير، ج 1، ص 14
- [2] الكافي، ج 2، باب: الغضب، ح 12، ص 304-305
- [3] الكافي، ج 2، كتاب الإيمان والكفر، باب: الغضب، ح 1، ص 302
- [4] نفس المصدر
- [5] المحجة البيضاء، الفيض الكاشاني، ج 5، ص 303
- [6] آل عمران: 133-134
- [7] إحياء العلوم، ج 3، ص 160
- [8] الأربعون حديثاً، الإمام الخميني، ص 135
- [9] نفس المصدر، ص 136
- [10] بحار الأنوار، ج 7ـ باب الخصال التي توجب التخلص من شدائد القيامة وأهوالها، ح 62، ص 302
- [11] المائدة: 32
- [12] هود: 113
- [13] بحار الأنوار، ج 78، ص 55
- [14] نفس المصدر، ج 75، باب: أحوال الملوك والأمراء، ح 74، ص 359
- [15] نفس المصدر، ج 75، باب: نصرة الضعفاء والمظلومين وإغاثتهم، ح 17، ص 20