الأمر الإلهي بالاستعاذة
المدخل
الإنسان كائن حر الإرادة، ويمتلك حرية الاختيار فيما يفعله وفيما يتركه، فهو بعد أن يدرس النواحي المختلفة لموضوع ما، يختار فعله أو تركه بكامل إرادته واختياره، فهو بحسب التكوين غير مجبور على الفعل والترك، ولهذا تصبح محاسبته ومجازاته بالثواب والعقاب في الدنيا من قبل الناس، وفي الآخرة من قبل الله رب العباد، الذي خلق الإنسان بقدرته وحكمته وواسع رحمته، ليحاسبه ويجازيه على عمله بعدله وإحسانه.
قول الله تعالى: <مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ>[1]
وقول الله تعالى: <لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ 26 وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ>[2]
وللإنسان مع حرية الإرادة وموهبة الاختيار، قابلية التربية والتأديب، فهو إما أن يسلك طريق الرشد والاستقامة والتكامل، فيصعد في إنسانيته ويتكامل، ويقطع منازل القرب من ربه ذي الجلال والإكرام، حتى يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وإما أن يسلك طريق الغي والانحراف والهبوط حتى ينسلخ من إنسانيته ويكون في حقيقة وجوده حيواناً في صورة إنسان، وفي الآخرة يكون في مكان سحيق بعيد عن الله مالك الملك، وله في جهنم عذاب أليم.
قول الله تعالى: <إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ 54 فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ>[3]
وقول الله تعالى: <وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ>[4]
وقول الله تعالى: <أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا 43 أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا>[5]
الإنسان بين تصرفين
ونحن إذ نقف على الحقيقتين السابقتين عن الإنسان وهما: الاختيار والقابلية للتربية والتأديب،، ندرك بوضوح تام: أن الإنسان في حقيقة أمر وجوده وواقع تكوينه – وكما نطقت بذلك النصوص المعصومة – واقع في كل كلمة ينطق بها، وفي كل حركة إرادية تصدر عنه، وفي كل سكون. كذلك؛ واقع بين تصرفين: تصرف الشيطان، وتصرف الرحمن، الرحمن يرفعه، والشيطان يهوي به إلى مكان سحيق.
عن أبي عبد الله (ع)،، قال: «إن للقلب أذنين، فإذا هّم العبد بذنب قال له روح الإيمان: لا تفعل، وقال له الشيطان: افعل»[6]
فالإنسان في كل خلجة قلب، وفي كل طرفة عين، وفي كل كلمة نطق بها، وفي كل حركة تصدر عنه، وفي كل سكون،، أي كل حالة من حالات حياته: إما أن يكون رحمانياً، فيصعد نحو الملكوت الأعلى، ويقطع منازل الكمال الإنساني والقرب الربوبي، ويكون يوم القيامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر،، في الجنة. وإما أن يكون شيطانياً فيهبط إلى الدرك الأسفل، فينسلخ من إنسانيته، و يبتعد عن ربه الرحمن الرحيم، ويهوي يوم القيامة إلى الحُطمة: < وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ 5 نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ 6 الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ 7 إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ 8 فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ>[7]
ولهذا أمر اللّه الرب الرحمن الرحيم، أمر الإنسان بالاستعاذة باللّه من الشيطان الغوي الرجيم، من أجل أن يخرج الإنسان من تحت تصرف الشيطان وحكومته، ويدخل تحت تصرف الرحمن وحكومته، ليصبح إنساناً حقيقياً ويصعد في منازل الكمال الإنساني والقرب والزلفى من الله العلي الأعلى ذي الجلال والإكرام سبحانه وتعالى عما يصف الظالمون علواً كبيراً.
من خلال ما سبق، ندرك أن الاستعاذة تتألف من عمليتين رئيسيتين، وهما:
العملية الأولى: الهروب من الشيطان.
العملية الثانية: اللّجوء إلى اللّه القوي العزيز.
الجدّية في الاستعاذة
وسوف نتحدث عن هذا الموضوع أكثر بعد قليل، إلا أن المهم أن يحرص الإنسان كثيراً على أن تكون استعاذته حقيقية وجدية في طلب النتيجة، وبدون الاستعاذة الحقيقية والجدية، فإن الإنسان سوف يبقى لعبة بيد الشيطان، ولقمة سائغة في فمه المسموم.
لو قال الإنسان: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» ولم يخرج عملياً وفعلياً بعقله وقلبه وأقواله وأفعاله من تحت تصرف الشيطان وحكومته، ولم يدخل عملياً وفعلياً بعقله وقلبه وأقواله وأفعاله تحت تصرف الرحمن وحكومته، كان كاذباً في استعاذته.
وفي هذه الحالة تكون الاستعاذة نفسها ملقاة من الشيطان وجارية منه على لسان الإنسان لتعزيز سلطة الشيطان الغوي الرجيم على روح الإنسان، وعقله وقلبه وجوارحه،، في حياته وكامل وجوده، ويكون الإنسان في هذه الحالة لاعناً لنفسه، ومطروداً من قبل الرب العزيز الجبار ومن ساحة قدسه، ويكون موضع سخرية الشيطان الغوي الرجيم و واستهزائه، ومن جنود الشيطان وأوليائه وفي حزبه، ومحققاً لأمانيه وأهدافه الخبيثة العدائية للإنسان في الحياة.
فائدة مهمة
ونستفيد مما سبق، أن الإنسان يجب أن يبقى متشبثاً بمكوثه داخل دائرة الشرع، وفي ساحة ولاية الله العزيز الحميد، وساحة طاعته وهو السميع البصير، وأن يسلم حكومة وجوده كلها إلى الحق، فيصدق في التوجه وبذل العبودية إلى سيده ومولاه، ويفنى في عز الربوبية، وأن يرابط بكل يقظة وانتباه، وبكل عزيمة وقوة على حدود مملكة العقل والقلب والنفس،، أي أن يرابط على حدود مملكة وجوده الإنساني، و أن لا يسمح للشيطان الغوي الرجيم، بالدخول إلى ساحتها المقدسة المحرم عليه دخولها، وأن لا يسمح له بانتهاك حرماتها، وسرقة خزائنها النفيسة التي لا يمكن تعويضها بأي ثمن كان من أثمان الدنيا، فليس لنفس الإنسان ثمن أقل من الجنة.
إن إبليس اللعين الرجيم يرتكب إثماً عظيماً وجرماً كبيراً بدخوله إلى ذلك الحرم المقدس والبيت الحرام الذي هو بيت الرحمن، فعلينا أن نرابط بقوة وعزيمة ويقظة وانتباه على حدود هذا الحرم المقدس والبيت الحرام، ولا نسمح للشيطان بدخوله واحتلاله والعبث بمحتوياته وكنوزه النفيسة التي لا يمكن أن تقدر بأي ثمن مادي مهما كبر وتضخم في أعيننا.
فعلى الإنسان أن يصون عقله، ويمنع الشيطان بكل إرادة وتصميم من السيطرة على عقله والتلاعب به عن طريق الغضب، أو السكر أو بأي نحو من الأنحاء، ليبقى العقل رسول الرحمن الأول للإنسان، والقائد الحقيقي والدليل المأمون له في الأمور كلها وفي ساحة الحياة بأجمعها،، بالإضافة إلى الدين والفطرة، وأن يصون قلبه من ظلمات التصورات والوساوس والتخيلات والأوهام الشيطانية وإضلالها، فيفسح المجال لإشراق نور الحق، ورؤية الحقائق، ورؤية سر الملكوت الأعلى و الأمور الإلهية،، ورؤية هديها، وأن يصون نفسه من الاستهواء والطيش والغرور والانغماس في الشهوات والملذات، و أن يتجنب ما يرضي الشيطان ويسمح له بالدخول إلى نفسه واحتلالها والسيطرة عليها والعبث بمحتوياتها وكنوزها الثمينة،، وتخريبها لتبقى الروح طاهرة نقية صافية، ويبقى القلب كذلك، وليكون القلب سكناً صالحاً للروح القدس، ويكون الروح القدس مُصلحا لوجود الإنسان وكيانه بالكامل، هدانا الله جميعاً برحمته الواسعة إلى الرشد والصواب وأخذ بأيدينا في الأمور كلها.
عن أبي الحسن الرضا (ع) أنه قال: «إن الله تبارك وتعالى، أيد المؤمن بروح منه تحضره في كل وقت يُحسن فيه ويتقي، وتغيب عنه كل وقت يذنب فيه ويعتدي، فهي معه تهتز سروراً عند إحسانه، وتسيخ في الثرى عند إساءته، فتعاهدوا عباد الله نعمه بإصلاحكم أنفسكم تزدادوا يقينا وتربحوا نفيساً ثميناً، رحم الله امرأً همّ بخير فعمله، أو همّ بشر فارتدع عنه، ثم قال: نحن نؤيد الروح بالطاعة لله والعمل له»[8].
إن على الإنسان أن يجتهد ويحرص كل الحرص على تحقيق المراد الحقيقي من الاستعاذة، بالهروب الجدي الصادق من الشيطان الغوي الرجيم، والخروج من حكومته، واللجوء الجدي الصادق إلى اللّه الرب المحمود الرحمن الرحيم والدخول المطلق في حكومته، من خلال التوجه الصادق والجدية التامة في أن يفني العبد نفسه في تلك العبودية وعز الربوبية، بحيث لا يرى لنفسه وجوداً في مقابل وجوده تعالى، والانقطاع المطلق له جلّ جلاله عما سواه، وعبادته وحده لا شريك له، وطاعته المطلقة في كل أمره ونهيه، وأن يحذر الإنسان كل الحذر من قول الاستعاذة على سبيل العادة دون الانتباه إلى حقيقتها وغايتها الفعلية المطلوب من الإنسان تحقيقها منها.
إن الإنسان بمقدار ما يمكث في ساحة ولاية اللّه وطاعته، التي هي ساحة العقل والشرع وطاعتهما، بمقدار ما يكون أكمل في إنسانيته وأقرب إلى ربه، ويكون أكثر قيمة في وجوده، لأن شرف كل شيء وقيمته، يتحدد بنوع علاقته مع اللّه جلّ جلاله.
وقربه منه، حتى بالجمادات كالمساجد والتربة الحسينية، والحيوانات كالهدي في الحج فضلاً عن الإنسان كالأنبياء والأوصياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وبمقدار ما يخرج الإنسان عن ساحة ولاية اللّه عز وجل وطاعته، فإنه يدخل تلقائياً إلى ساحة الشيطان وولايته، التي هي ساحة الهوى والشهوات والطيش والأمل الطويل والركون إلى الدنيا وقلة العمل والكسل والخمول و… الخ، ويخسر الإنسان بمقدار ذلك نصيباً من إنسانيته وسعادته وكماله وقيمته، فيكون بمقدار ذلك فقيراً في إنسانيته، صغيراً حقيراً في وجوده، ويقترب من غضب الله العزيز الجبار وسخطه الذي لا تقوم له السماوات والأرض، ويقترب من النار الحطمة التي سجرها اللًه الجبار لغضبه يوم القيامة.
أيها الأحبة الأعزاء: إن أكمل البشر، و أفضلهم منزلة، وأكبرهم قيمة، وأغناهم وجوداً، وأقربهم مكاناً عند اللّه جل جلاله، وأوفرهم نصيباً من السعادة المعنوية في الدنيا والآخرة، هم: الرسول الأعظم الأكرم (ص)، و أهل بيته الطيبين الطاهرين (عليهم السلام)، حيث بلغوا جميعاً ذروة الكمال العقلي ومنتهاه، والسيطرة التامة الكاملة على النفس والقلب، و لا يخرجون قيد شعرة في شيء عن طاعة اللّه عز وجل ولا يفارقونه؛ بل تتحد إرادتهم مع إرادته تبارك وتعالى في كل الأمور الخاصة والعامة، ولا يخالفونها في شيء مهما دق وصغر، وللمؤمنين فيهم الأسوة الحسنة.
قال الله تعالى: <لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا>[9]
وجاء في الزيارة الجامعة عن الإمام الرضا (ع): «السلام على أولياء الله وأصفيائه، السلام على أمناء الله وأحبائه، السلام على أنصار الله وخلفائه، السلام على محال معرفة الله، السلام على مساكن ذكر الله، السلام على مظهري أمر الله ونهيه، السالم على الدعاة إلى الله، السلام على المستقرين في مرضاة الله، السلام على المخلصين في طاعة الله، السلام على الأدلاء على الله، السلام على الذين من والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم فقد عادى الله، ومن عرفهم فقد عرف الله، ومن جهلهم فقد جهل الله، ومن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله، ومن تخلى منهم فقد تخلى من الله عز وجل، وأشهد الله أني سلم لمن سالمتم، وحرب لمن حاربتم، مؤمن بسركم وعلانيتكم، مفوض في ذلك كله إليكم، لعن الله عدو آل محمد من الجن والإنس، وأبرأ إلى الله منهم، وصلى الله على محمد وآله».