مهندس الانتفاضة ومنظّرها في السجن
تبيّن للنظام قبل أي أحد بأن شخصية الأستاذ عبدالوهاب حسين كان لها التأثير الكبير في مجريات الانتفاضة؛ من خلال تنظيراته قبل وأثناء الحراك وهو راسم سياستها، وخصوصاً خلال لقاءاته بهندرسون وفليفل. وبعد اعتقاله الثاني، عملت السلطة على إبعاد شخصيته عن بقية السجناء وحصره في السجن الانفرادي لعامين تقريباً، في انفرادي العيادة بسجن جو تحت حراسة مشددة وبعيداً عن أجواء السجناء الآخرين؛ لمنع تواصله معهم وبث أفكاره وتوجيهاته لهم، مع التضييق عليه وحرمانه من الكتب والكتابة ووسائل الراحة، من أجل كسر عزيمته، إلا أن تلك المرحلة من السجن يعتبرها الأستاذ هي الأنضج له على المستوى الروحي، وله مقولة معروفة لطالما يكررها: «إذا كنت في السجن فعليك أن تنسى ذكر الأهل والولد، وإذا تذكرتهم فادعُ لهم».
مكث الأستاذ 5 سنوات في السجن، قضى جزءا منها في الانفرادي وبعدها تم نقله إلى زنزانة مشتركة مع فضيلة الشيخ علي عاشور البلادي، وفي هذه الفترة كان الوضع الخارجي مستتب أمنياً للنظام، وأخذ الحراك الخارجي في الخفوت، واقتصر على بعض الكتابات الجدارية وحرق الإطارات هنا وهناك بين فترة وأخرى؛ خصوصاً في أواخر عام 1997م وما بعده.
لكن الأستاذ عبدالوهاب كان يعيش الطمأنينة والسكينة والأمل والثقة بالله وحده، وكان يوصي دوماً بالصبر والدعاء وحُسن الثقة بالله، فإن الله مع الصابرين العاملين، وتكليف السجن الأول هو تربية النفس والبناء الروحي، ولفضيلة الشيخ علي عاشور، زميل الأستاذ في الزنزانة، كلام لطيف يشير لبعض جوانب شخصية الأستاذ أثناء السجن في كتابه[1]، فيقول الأستاذ فرّج الله عنه: «في السجن أستحضر سيرة أهل البيت (عليهم السلام) وبشكل خاص سيرة الإمام الكاظم (ع)».
وهنا يشير الأستاذ إلى ضرورة الاقتداء بالمعصومين (عليهم السلام) في حياتنا والتمثل بسلوكهم وأقوالهم وتجسيدها في واقعنا العملي، وأنه لا يصح أن نفصل أنفسنا وقضيتنا وكل عملنا عن أهل البيت (عليهم السلام)؛ بل يجب الربط والارتباط بكل وجودنا مع تعاليمهم وتوجيهاتهم، ويقول الأستاذ بخصوص العلاقة مع الله والارتباط به في السجن والوسيلة الأولى كتاب الله: «يكفيك في السجن القرآن والتدبر بإمعان في آيات القرآن، يفتح لك أبواباً لا حصر لها من التفكر».
إنّ التعلق القلبي بالله هو خير أنيس في كل الأحوال ولا سيّما في ظروف السجن؛ بل هي فرصة للتقرب، فالمتعلقات الدنيوية محدودة، وهناك حجاب بين السجين وبينها بالفرض والقوة؛ لذا فرصة الابتعاد عنها أوفر ليكون القلب خالصاً ومتوجهاً لله وحده، فاستغلال ظرف السجن وعدّه نعمة لا بلاء، لهو من الألطاف والتوفيقات الإلهية لتزكية النفس وتطهيرها، والشقي من حُرم هذه النعمة وفي ذات الوقت يعيش شقاء السجن.
لقد فرض الأستاذ في السجن احترام العدو قبل الصديق له، وقد تأثر به العديد من السجانين لحسن خلقه وإيمانه حتى أن أحدهم يقول: «على مدى عدة سنوات لم أره يطلب شيئاً صغيراً أو كبيراً من الشرطة أو الضباط حتى لو كان محتاجاً له».
ورغم أن الأستاذ عبدالوهاب في السجن يحرص على توثيق العلاقة مع الله، ويبتعد عن أجواء الدنيا حيث يقول: «لا تتعلقوا بالظروف، فإن الظروف متغيّرة، ولكن قوّوا علاقتكم مع الله، فإن الله ثابت لا يتغير، وهو بيده كل شيء وقادر على كل شيء».
ولكن هذا لا يعني أنه لا يرصد مجريات الوضع العام السياسي؛ بل هو حريص على وضوح الرؤية بكل ما تيسّر له من تحصيل.
خاتمة الجزء الأول
لم تكن رحلة السجن في التسعينات نهاية المطاف لعبدالوهاب، فتلك الأعوام الستة لم تكن كافية لتركيع عبدالوهاب الذي لا يركع إلا لله حتى لو تضاعفت، كما هو اليوم وبعد عشرين عاماً من سجنه الأول، ها هو الأسد في سجنه الثاني، حتى كتابة هذه السطور، يقضي تسع سنوات وربما يتممها بعشر – ولله الأمر من قبل ومن بعد – إلا أن تلك الروح الثورية الممنهجة لا زالت مشتعلة في قلبه ومتوقدة في ضميره الحي.
نستطلع في الجزء الثاني مرحلة أخرى من حياة تراتيل صاحب البصيرة عندما يخرج من سجن التسعينات ويدخل مرحلة العمل السياسي في ظل سلوك سياسي جديد للنظام تطلّب مزيداً من الوعي والفهم لمجريات الأمور، وتنضج معها تلك الشخصية التي باتت رقماً صعبا في الحياة السياسية في البحرين، وكان لمواقفه وكلامه الأثر البالغ في مجرى الأحداث.
14 فبراير 2020م
- [1] اسم كتاب الشيخ علي عاشور هو «مذكرات سجين».