خصائص ومميزات الأستاذ عبدالوهاب
لقد برزت في شخصيته العديد من السمات الأخلاقية والإيمانية والطباع الشخصية التي اجتمعت لتشكيل هويته العقائدية والفكرية، ومن أهمها:
الالتزام العقائدي
إن إيمانه العميق بالإسلام منذ صغره، جعله يبلور شخصيته المتدينة بناء على قناعة راسخة وليس إرثاً أخذه عن محيطه الاجتماعي. بالتأكيد؛ نشأ الأستاذ في بيئة متدينة ومحافظة، لكن في تلك الفترة هبّت رياح التيارات المادية بشدة، فجرفت معها أبناء جيله، وفي تلك المرحلة كانت هذه التيارات؛ كالشيوعية والبعثية والقومية، تستهدف الطبقة المتعلمة، وكانت الأجواء الإسلامية تعيش حالة من الركود والغفلة.
انحاز أكثر الشباب آنذاك إلى الطرح الذي يخاطب الغرائز والأهواء، ويرفض الارتباط بالغيب والدين، مما جعل المتدينين غرباء في محيط فَرضت عليه المادة جوّها، وكان يعتبر كل شأن مرتبط بالدين تخلفاً ورجعيا، وهكذا كانت الحالة في قريته التي نشأ فيها. والذي فاقم أزمة التدين حينها أن النموذج المطروح للإسلام تغلب عليه المفاهيم المغلوطة والمنحرفة، لكن هذا الشاب الاستثنائي كان يرى روح الإسلام النقية متمثلة أمامه، ونور الله منبعثا في وجدانه، فلم يكترث بتلك الغربة، وظلّ يعيش الأنس مع الله، ويبحث عن جوهر الدين وتحصيل معارفه عبر حضور دروس ومواعظ العلماء أو القراءة والبحث، أو حالات التأمل والتفكر التي عاشها بعيداً عن صخب المادة، وقد انفعلت عقيدة التوحيد والإيمان بوجود الخالق المدبر الذي له الأمر والمشيئة في كل الوجود، في نفسه، فكانت المحرك لقوله وعمله طوال مراحل حياته، مما جعله يعيش حالة السكينة والاطمئنان في كل الظروف.
العلاقة مع أهل البيت (عليهم السلام)
ارتبط الأستاذ عبدالوهاب منذ صغره بمدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، وعشق الانتماء لهم والولاء لمنهجهم والتبري من أعدائهم، ولم يكن حبّاً جامداً ولا تعلقاً واهماً؛ بل مودةٌ متحركة في تجسيد ما أرادوه وترْك ما نهوا عنه؛ باعتبارهم الأسوة والقدوة التي يتمثل بها، وأن التشبه بهم هو عين المودة ودلالة على صدق الاتّباع، وهذا يحتاج إلى تتبع سيرتهم والوقوف عند محطات حياتهم (عليهم السلام)؛ لأخذ العبر والمواقف وإسقاطها على واقعنا، وهذا ما فعله الأستاذ واعتبره حقيقة الاتّباع ومصداقه، فانعكس ذلك على سلوكه العملي في حياته الاجتماعية والسياسية؛ مضافاً إليه ممارسته لمظاهر المحبة لأهل البيت، وحرصه على الحضور والمشاركة في الشعائر المعبرة عن الولاء لهم، وإعطائها أولوية على التزاماته اليومية، وكان يؤكد دوماً على المشاركة في الشعائر الحسينية وإعلاء شأنها وإخراجها بأفضل صورها المعبرة، وكان يحرص، على رغم انشغالاته حتى في التسعينات، على الاستماع لقصائد العزاء وإبداء رأيه في مضامينها، وطالما دعا إلى توظيف الموكب والمنبر ليكون مركز توعية وإرشاد ومدرسة تقدم المعارف الدينية وتسجّل موقفاً أمام التغيرات السياسية والاجتماعية.
الحالة العبادية
أحد أبعاد شخصية الأستاذ عبدالوهاب تتمثل في البُعد العبادي، وفي صور التقرب إلى الله، والوسائل التي حثنا الشارع المقدس على الامتثال إليها لتعبر عن حالة الرضوخ والتضرع إلى المولى من العبد الفقير لنيل رضا سيده، وقد اجتهد فضيلته في ذلك بالتزام الواجبات والحرص على أداء المستحبات المعتبرة والمداومة عليها، واعتبر السجن فرصة لتعميق العلاقة مع الله سبحانه وتعالى؛ بل دوماً ما يكرر القول بشأن استغلال ظرف السجن في التفرغ لبناء الجانب الروحي عبر برنامج عبادي ثابت متمثلاً بقول الإمام الكاظم (ع): «الحمدلله الذي فرغني لعبادته»، وأهم التزاماته في البرنامج العبادي مواظبته على صلاة الليل والأذكار والأدعية، ويوصي الأستاذ دوماً بقراءة دعاء مكارم الأخلاق وتطبيق مضامينه، كما ظلّ يؤكد على الاهتمام بالقرآن وتعهده وتدبر آياته والتفكر فيها، فهو يقول: «يكفيك في السجن القرآن، فالتدبر في معاني آياته يفتح أبواباً لا حصر لها من التفكر»، كما أنه يهتم كثيراً بالنوافل اليومية كلها ولا يتركها إلا في حال تزاحمها مع واجب، هذا حاله في داخل السجن وخارجه.
حسن الخُلق
في الرواية عن المعصوم (ع): «ما عُبد الله بشيء أفضل من حسن الخُلق». لقد أصبحت السّمات الأخلاقية ملكات راسخة في وجدان الأستاذ الفاضل، ميّزت سلوكه العملي، وقد استلهم أخلاقه وتشخيصه للمواقف الأخلاقية العملية من أقوال وسيرة الأئمة المعصومين (عليهم السلام)، لذا من يعايش الأستاذ، يجده مثالاً مجسّداً للملكات الأخلاقية الفاضلة حتى أن أعداءه يشهدون له بذلك؛ حيث فرض عليهم احترامه، وكان سلوكه الإنساني يعم الجميع مع الاحتفاظ بالوقار مجللاً بالعزة والكرامة.
لا يحترمك العدو إلا إذا كنت عزيزا
ينقل أحد عناصر الشرطة القدامى الذين عاصروا الأستاذ في السجن خلال التسعينات أنه عندما كان عبدالوهاب في الانفرادي عند العيادة لمدة سنة وثمانية أشهر، لم يكن معه سوى القرآن، لكنه مع الضيق والتضييق والحرمان حتى من وحود الأنيس، كان أنسه بالله فقط، والقرآن والصلاة وسيلته، ولما رآه الشرطي في هذه الحالة لان قلبه، ويذكر الشرطي أنه طوال مدة حراسته على الانفرادي لم يطلب الأستاذ منه شيئاً بتاتاً، فأراد أن يخدم الأستاذ ولو بشيء بسيط، فجاءه وسأله: هل لك حاجة؟ فردّ الأستاذ بهدوئه المعتاد بالنفي، عندها بادر يوما الشرطي بنفسه وقام بجلب كتاب «مفاتيح الجنان»، وأعطاه للأستاذ، وقبل أن يأخذه الأستاذ، قال للشرطي: إذا كان سيقع ضرر عليه فأرجعه!
عندها علقّ الشرطي عبدالمجيد على الموقف قائلا: رغم أنه لم يطلب مني شيئاً وأنا السجان عليه، إلا أنه كان حريصاً على عدم وقوع ضرر عليّ.
المؤمن بشره في وجهه
كان دائم البسمة التي تحمل الرقة والعفوية مع الوقار الذي لا ينفك عنه، يلقى الناس دائماً بالأحضان وقبلات الأخوّة الإيمانية. كنا نذهب لمجلسه أواخر الثمانينات ونحن في سن صغير، فنستغرب كيف هذا الرجل الكبير يلقى الجميع بالترحيب والاحترام، ويخاطبهم بكلام يقع في القلب! على خلاف الأجواء الاجتماعية التي تحجر التلاقي بين الأجيال، ولا يُسمح للصغير من إبداء قناعاته أمام الكبار، بينما في ذلك المجلس، تجد المربّي الذي يصغي لك بكل مسامعه، مما عزز الثقة في الشباب الذين احتضنهم ذلك الرجل.
تلك المحبة التي تلقاها الجميع منه شملت حتى المتخلفين عقلياً (المجانين)، فكان يسبغ عليهم عطفه ومحبته، حتى أنه كان يلاطفهم كثيراً في الشارع وعند دخوله المسجد؛ حيث كانوا ينتظرونه ويستأنسون برؤيته، وكان بعضهم يرافقه إلى منزله.
معارفه وسعة اطّلاعه
اهتم كثيراً بتحصيل المعارف الدينية إلى جانب الثقافة العامة في العلوم المختلفة، مما وسّع من مدراكه إضافة إلى ذكائه وقدراته الذاتية، وأهم مصادر تحصيل تلك المعارف هو الكتاب، فحبه الكبير للقراءة والاطّلاع جعله ينهل من المعارف الإسلامية؛ خصوصاً من كبار العلماء والمفكرين، كما أنه ارتبط بالعلماء في البحرين ممن حملوا على عاتقهم الهمّ الإسلامي، ورفعوا رابة الفكر والتنوير للرؤية الإسلامية؛ كالشهيد السيد أحمد الغريفي وسماحة الشيخ عيسى قاسم، وبعد طيّه للمراحل الدراسية في البحرين، واصل دراسته الأكاديمية في جامعة الكويت (1973-1977م) متخصصاً في الفلسفة وعلم النفس، وقد انفتح هناك على التيارات الفكرية المختلفة، فشمّر ساعد الدفاع عن رؤيته الإسلامية عبر النقاشات والبحث والمناظرات والندوات الفكرية.
كان من أبرز المفكرين الإسلاميين آنذاك الشهيد السيد محمد باقر الصدر، فارتبط الأستاذ بنهجه وفكره وخطه السياسي، فانفتح الأستاذ حينها على الإسلام السياسي، وبدأ ينشط ضمن الحركة الإسلامية الشيعية التي مثلها حزب الدعوة، وفي ذات الوقت كانت الثورة مشتعلة في إيران بقيادة الإمام الخميني (ق) الذي أشعل الحماس الثوري في نفوس الشباب، وبدأت الصحوة الإسلامية تنهض وبكل قوة.
وقد ساهم بدء انتصار الثورة الإسلامية في إيران في صقل شخصية الأستاذ، وهذه النهضة الإسلامية أبرزت أهمية الحراك الفكري إلى جانب الحراك الثوري، فأصبحت هذه النهضة مصدر إلهام لكل محب للإسلام ولكل ثائر على الظلم والطغيان، فتحرك الأستاذ في الدرس والتدريس في عدة مناطق من البحرين؛ خصوصاً في مسجد مؤمن بالمنامة وجامع الحياك بالمحرق وفي منزله بالنويدرات.
وكان لاستشهاد أستاذه الشهيد السيد أحمد الغريفي في منتصف الثمانينات، أثره الكبير في وجدان الأستاذ عبدالوهاب، مما ضاعف المسؤولية على تلامذته ومحبيه ليسيروا على نهجه، وفي تلك الأجواء ارتبط الأستاذ أكثر بسماحة الشيخ عيسى قاسم، في أجواء سياسية مشحونة، وفي ظل قانون أمن الدولة الخطير، وإغلاق حمعية التوعية واتهام أعضائها ومطاردة قيادات الحركة الدعوية آنذاك، والزج بهم في السجن أو التصفية الجسدية كما حصل للشهيد أحمد الإسكافي الذي اغتيل في الهند، فانعكس ذلك على النشاط التبليغي ليأخذ طابعاً أكثر ثورية مع حالة السرية والتكتم في أجواء أمنية حساسة.
الروح الثورية
كانت النواة الثورية التي حركت الأستاذ عبدالوهاب نحو نهج المقاومة والعمل لمصلحة الإسلام والدفاع عنه، هو ذلك الإمام الثائر في كربلاء، الحسين (ع) ملهم الحس الثوري، وعاش الأستاذ مع حقيقة الحسين (ع) منذ صغره، وعندما تفتحت مداركه، انجذب لشخصية السيد الشهيد الصدر الأول، ومع انتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران، انشد الأستاذ عبدالوهاب مع الأحرار الثوريين المحبين للإسلام إلى قائد الثورة السيد الإمام الخميني (ق)، وأصبح أمامهم نموذج القائد الفذ الذي كسر شوكة الطاغوت، وأسس الدولة التي عبّر عنها الشهيد الصدر (ق): «الإمام الخميني حقق حلم الأنبياء»، ومثّل قدوته الشهيد محمد باقر الصدر بدفع الشباب المؤمن للانتماء إلى جبهة الإمام الخميني (ق) وهو يقول: «ذوبوا في الإمام كما ذاب هو في الإسلام».
هذه الروح المشتعلة والتي كانت في أوجها إبان انتصار الثورة الإسلامية، أثّرت في مزاج الإسلاميين في البحرين، وأعطت دفعا للنهوض ضد الظلم ومقاومته، وعند الحديث عن انتفاضة التسعينات، سيتبين لنا تلك الروح الثورية وبُعدها في نفس الأستاذ، وقد ارتكزت هذه النزعة لديه ليس من خلال الحماسة الثورية والاندفاعة نحو المقاومة فقط، وإنما ارتكزت على أسس ثابتة؛ منها الإيمان بالمبدأ والاستقامة عليه، والصبر في الشدائد والتوكل على الله في كل شؤونه، والعمل بإخلاص في كل الظروف متمثلاً بقول الإمام علي (ع) دائماً: «الإِخْلَاصُ فِي العَمَلِ أشَدُّ مِن العَمَلِ»[1].
التفاني في العمل
كثرة الانشغالات التي رافقته عقب الإفراج عنه، بعد انتفاضة التسعينات وبداية حقبة ما بعد الميثاق، جعلته ينقطع إلى العمل السياسي طوال يومه، فحتى بعض التفاصيل الدقيقة كان يركّز عليها ويدقق فيها، وأذكر أنه قبل أن يُلقي خطابه يوم الجمعة في مسجد الشيخ خلف بالنويدرات، كان يكتبه مسودة ويطلب منا كتابته إلكترونياً، ويقوم بمراجعة الخطاب والمطابقة بينه وبين النسخة المكتوبة قبل إنزالها في الموقع الإلكتروني، وتستمر التعديلات حتى وقت متأخر من ليلة الجمعة. وهكذا؛ عندما يقوم بفعالية أو نشاط سياسي، تجده حريصاً على الاطّلاع على تفاصيل الأمور، ويجهد نفسه كي يظهر العمل بأفضل صورة. ومما يثير التعجب هو قدرته على التوفيق بين أمور كثيرة يصعب تحققها لمن هو في ظروفه؛ فإلى جانب عمله الدؤوب في المجال السياسي ومشاركاته الخارجية، يحرص على فتح مجلسه كل ليلة ثلاثاء، كما يخصص وقتاً للجلوس مع العائلة وللتواصل الاجتماعي بزيارة الأقارب وعيادة المرضى وحضور الأفراح ومواساة الآخرين في الأحزان؛ فضلاً عن الحفاظ على ممارساته العبادية، وتعلقه بقراءة الكتب، والمواظبة على قراءة القرآن،؛ فضلاً أيضا عن حالات التفكر وطرح الرؤى والكتابة في المجال الفكري والسياسي.
صبره وتحمله الأذى في جنب الله
عاش الأستاذ حياة مليئة بالشدائد والصعاب، والتي تراكمت عليها التجارب، فصقلت شخصيته، وزادت من صلابته، وعززت إيمانه العميق بما يعتقده، والاستقامة والثبات في الموقف، وتحمله المسؤولية الأخلاقية والأدبية أمام القرارات التي يتخذها؛ إضافة لذلك حسن ظنه بالله وتوكله عليه وإيمانه إيمانا عمليا بأن الله هو مدبر الوجود وأن كل شيء بيده لا ييد غيره. تجده في مواقف القضاء والقدر عند المصائب؛ من وفاة أحد الأحبة أو نزول ضراء في نفسه أو بأساء في محيطه، كالجبل الراسخ لا تزلزله العواصف، ويعيش حالة السكينة والطمأنينة، فقد وجدناه في وفاة عضيده وشقيقه إبراهيم بأنه هو من يواسي الآخرين، وكذا يوم ضُرب الدوار في 16 مارس 2011م، حين كان الكل يعيش هول المصيبة، كعادته كان صامداً كالجبل الشامخ.
وقد تمثل صبره أثناء الاعتقال والسجن والتعذيب في الثبات والاستقامة، وحتى الآن قضى الأستاذ 15 سنة من عمره في السجون، منذ التسعينات وإلى الآن، وفي هذه الفترات تعرض فيها لصنوف التعذيب والانتهاكات الجسدية والنفسية، ومن ضمنها بقاؤه في الانفرادي لمدة سنة وثمانية أشهر في انتفاضة الكرامة، وما تعرض له من إساءات وتعذيب مهين في سجن قرين في فترة اعتقاله في السلامة الوطنية، وسنأتي على ذكر بعض هذه المشاهد في موضع آخر. ومن أشد ما تعرض له من أذى – حسب تعبيره – وكان الأكثر ألماً في نفسه، هو ما وُصف بأنه «ضد العلماء» في إحدى حملات التشويه ضده، علماً بأنه عاش حياته خادماً للعلماء ومحباً لهم، وعارفا حتى النخاع بأنهم ورثة الأنبياء، وأن المتصدي منهم له الحاكمية، ووحبت له الطاعة، إذا كان عالماً، تقياً، ورعاً، عادلاً، شجاعاً، مدبراً، وعارفاً بزمانه حسب المواصفات التي أشار لها الإمام الخميني (ق).
أستاذ البصيرة
يقول أمير المؤمنين (ع): «فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ ونَظَرَ فَأَبْصَرَ وانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي»[2]، وقد عرّف السيد الإمام (ق) أصحاب البصيرة بأنهم «أولئك الذين يختارون طريقهم وموقفهم عن فكرٍ وتحليل، ويفهمون ما يريدون، ثم يقررون على ضوء ذلك الفهم، الموقف المناسب عن وعيِ تام»، وعلى هذا النهج سار الأستاذ الفاضل طوال حياته يبني الرؤية ويشخص الموضوع ويعطي الموقف عن وعيٍ تام، خصوصاً في المنعطفات الخطيرة والظروف الصعبة التي تحتاج إلى وضوح رؤية دون أن تلتبس عليه الأمور، فيعيش الحيرة والضياع، كما قال الإمام الصادق (ع): «الْعَالِمُ بِزَمَانِهِ لَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ اللَّوَابِسُ»[3]. كما أن الأستاذ جعل نصب عينيه سيرة المعصومين (عليهم السلام)، يهتدي بها في ظلمات الزمان وتعينه في تثبيت رؤيته وحسن اتخاذه للموقف؛ لأن الوهن والضعف والجبن من مشوشات ومشتتات الرأي، وتجعل صاحبها فاقدا للبصيرة، بينما الأستاذ لديه جرأة استثنائية في الحق ولا تأخذه في الله لومة لائم.
تأييد الثورة قولاً وفعلاً قبل وبعد انطلاقها
قبل انطلاق ثورة 14 فبراير، أعلن الأستاذ موقفه مبكراً، منذ أن برزت الدعوات ليوم الغضب. قبل عدة أسابيع، وعند انطلاقة الثورة، خرج بعد صلاة الفجر حاملاً معه فجر الثورة، وبكل ثبات وشجاعة يعتصم عند دوار النويدرات «دوار الشهيد فخراوي» معلناً بزوغ نور الصباح الجديد على هذا الوطن، وما إن حلّ مساء ذلك اليوم الذي صادف ليلة الثلاثاء، حتى فتح مجلسه، وقبل وصول خبر الشهيد علي مشيمع، وحينما كنا في حيرةٍ من أمرنا؛ هل هناك برنامج ليوم غد أو لا؟ وإذا به يقول: «إن سقوط أي شهيد سيغيّر المعادلة، وستستمر الحركة المباركة». كان ذلك بعد صلاة المغرب، وما هي إلا لحظات وجيزة حتى يأتي خبر سقوط باكورة الشهداء؛ المشيمع البطل، ومن على قبر الشهيد يؤكد الأستاذ على مطلب إسقاط النظام، ثم من على منصة ميدان الشهداء يطرح وصيته الأساس التي وضع فيها عصارة فهمه للحدث حين قال: «إذا تخليتم عن مطلب إسقاط النظام، فلن يتحقق أي مطلب آخر، إن هذا المطلب يحتاج إلى بذل الكثير من التضحيات، فهل الشعب مستعدٌ لذلك؟».
ومن أجل استمرارية الثورة وديناميكية حركتها، وجّه الأستاذ إلى «اللامركزية» كأسلوب مرحلي يحفظ بقاء الثورة، وعدم إخماد وهجها، ويفتح آفاقاً لابتداع أساليب جديدة تخدم الثورة. هذه القناعة نابعة عن تجربة سابقة عاشها في التسعينات، وصولاً لمرحلة النهج السياسي للثورة الذي يحتاج لاحقاً إلى توحيد الخطاب السياسي أو إفراز قيادة تستطيع تلبية متطلبات المرحلة، وفي عمق الثورة وارتفاع وتيرتها، يطرح الأستاذ رؤيته للمرحلة اللاحقة تحت عنوان: «إما العدل في الدولة أو المقاومة المشروعة»، وهذا الاصطلاح تلقفته المقاومة وعملت على ترجمته وفق الرؤية القائمة على السلمية القرآنية وليس على السلمية الغربية المتأمركة.