جهاد الإمام السجاد (ع)
- تمهيد
- المعلول البكّاء!!
- حضور الإمام (ع) بين الأمة
- الحضور السياسي للإمام (ع)
- الإمام السجاد (ع) والجهاد الفكري!
- الإمام السجاد (ع) والجهاد الروحي!!
- فلسفة الدعاء والمناجاة!
- إنسان اليوم والحضارة الماديّة!!
- الإمام السّجاد (ع) الثوريّ العارف!
- البُعد الثوريّ للإمام السّجاد (ع)
- الإمام السّجاد (ع) وعلماء البلاط!
- الصحيفة السّجادية
تمهيد
من أشد الفترات والأزمان التي مرّت على أئمة أهل البيت (عليهم السلام) هي الفترة التي عاشها الإمام زين العابدين (ع) بعد شهادة أبيه الإمام الحسين (ع) في كربلاء، وما حصل بعد ذلك من سبي النساء والطواف بهنَّ في البلدان.
مضافاً لما قام به يزيد (لعنه الله) من فاجعة بأهل المدينة المعروفة ب«واقعة الحرَّة»، وكذا رميه الكعبة وحرقه لها!! فقد كانت لغة القتل هي الحاكمة، ولهجة البطش والفتك قائمة سائدة!!
فقد كانت «الأمة الإسلامية» ترزح تحت سياطٍ لا تعرف الرحمة: بين شابٍ قتيل وأمٍّ ثكلى، وزوجة تندب زوجها، وطفلٍ ينتظر والده..!!
ف«الأمة» تإنُّ، و«الدين» يشكو، و«الطّاغوت» يتمادى في غيِّه، ويزداد في عُتوِّه!! وكان ثقل المسؤولية كلها ملقاة على عاتق هذا الإمام الشاب الإمام السّجاد (ع):
كي يصلح ما أفسده الأمويّون، ويقود سفينة الأمة ويستنقذ دين جدّه، متحدياً كل الصعاب متجرعاً ألم الجراح!
وهكذا نهض الإمام السّجاد (ع) بـ«جهادٍ» زاوج فيه بين «العمل العلني» و«العمل السرّي»: فهو المؤسِّس للصرح العلمي الذي أشاد بناءه من بعده ابنه ومن ثم حفيداه الإمامان الباقر والصادق (عليهم السلام)، وهو الواعظ والمربيّ والدّاعي بالصحيفة السّجادية..!
وهو أيضاً من ربَّى أمثال «زيد» ابنه الثائر ومن بعده أتى «يحيى» حفيده، وهو الذي أذن لـ«المختار» بثورته..!!
وهذه محطات «جهادية» من سيرة الإمام السّجاد (ع) نذكرها تباعاً بإذن الله تعالى.
المعلول البكّاء!!
من الأمور التي تُذكر دائماً في سيرة الإمام السّجاد (ع): أنه كان دائم البكاء! فلا يُقدَّم له طعام ولا شراب إلا ومزجها بدموع عينيه: حزناً على أبيه وأهل بيته، وما حلّ عليهم في كربلاء وما بعدها! وأن هذا البكاء استمر حدود 35 عاماً حتى رحل عن الدنيا!! وهكذا يصوّرون: بأنه لا شغل للإمام (ع) إلا البكاء والنحيب وذرف الدموع!!
وهنا لابد من قراءة الأمر بشكل دقيق وعملي:
فلا ينبغي نفي ما نقله التاريخ من أمرٍ يطمئن له؛ فبكاء الإمام (ع) ونحيبه هذه المدّة الطويلة لا يمكن أن ينفى أبداً! ولكن الذي ينبغي قوله: أن «البكاء» ما كان ينمّ عن انهزام وضعف وخواء في الإرادة وانهزام، أو عدم تحديث النفس بالثورة وأخذ الثأر من الطغمة الفاسدة!
بل كان «البكاء» وقوداً يبث الحماس في وجدان الأمة، و«نحيبه» يلهب المشاعر حتى تكون ناراً على البغاة الآثمة!
فالإمام السّجاد (ع) يُمثِّل إرادة الله تعالى، فهو لا ينطلق من مشاعر عاطفية فردية، بل لها منطلقات سماوية ربّانية؛ وما هذه «المجالس الحسينية» التي نراها تُلهِب الشيعةَ إلا من تأسيس الإمام السّجاد (ع) الذي أراد لثورة الإمام الحسين (ع) أن تستمر ويبقى «الجمل تحت الرماد» حتى ظهور القائم الآخذ بدم المقتول بكربلاء..!
وهكذا يعلِّمنا الإمامُ «البكاء الثوري»: الذي يجعل المثكول قوياً، والموتور ثورياً، والمظلوم صلباً أبيّاً! لا تركعه المصائب بل يتعالى على كل الفجائع! ولا تزيده كثرة الجراح إلا تحدياً وعناداً: لا يقبل الضيم، ولا يستسلم للأثيم، ويصبر حتى يقيم حكم الله على العالمين ولو كره الكافرون! وأين مثل هذا «البكاء السّجادي» من «البكاء الاستسلامي» الذي يُروَّج له، بل ويُلصَق بابن إمام الثائرين (ع)؟!!
وقالوا: بأن الإمام «معلول»! وهو حقٌّ، حيث كان معلولاً!
ولكن ليس من الحق أن يوصف الإمام بنحوٍ يُتصوَّر بأنه كان معلولاً طيلة حياته!! فلقد كان معلولاً في أيام معدودة في كربلاء، لمصلحة ربّانيّة اقتضت حفظه من أيدي الأعداء، ومن بعد ذلك تماثل للشفاء وكان معافاً طيلة عمره!
والحاصل: أن هناك من يحلو له ويحبّ أن يصوِّر الإمام السّجاد (ع) بالضعف والمسكنة: فهو بكّاء عليل لا حول له ولا قوة!
وهذا أمر مجاف للواقع ومخالف لما ينقله التاريخ.
حضور الإمام (ع) بين الأمة
لقد كان الإمام السّجاد (ع) حاضراً بين الأمة، متابعاً لشؤونها، مَرجعاً لحلِّ معضلاتها، يعرفه القاصي والداني، ويدينون له العلم والورع والتقوى والحنكة! فما كان مغموراً، ولا أنه كان يعيش الانزواء والبعد عن الناس ومجريات الحياة!
وهناك شواهد عديدة على ذلك، نذكر شيئاً بسيطاً منها!
فالتاريخ ينقل: أنه ما كان يخرج «الحُجَّاج» إلا بعد خروجه (ع)، فإذا خرج خرجت معه المئات من أبناء المدينة: من الصحابة والتابعين وأهل الفضل وعامة الناس! فلقد كان حاضراً في وجدان الناس، تدين له وتخضع لسلطته الروحيّة، على اختلاف مشاربهم!
ولك أن تتصور هذا المشهد الذي ينقله لنا التاريخ، الذي يدلّ على حضور الإمام (ع) لا على صعيد المدينة فقط، بل على صعيد العالم الإسلامي؛ حيث إن «هشام بن عبد الملك»، ولي العهد آنذاك، أراد أن يصل إلى «الحجر الأسود»، ولكن زحام «الحُجَّاج» منعه، فانتحى جانباً وجلس يرمق «الحُجَّاج»..!
وإذا يرى «الحُجَّاج» قد انشقوا سماطين، وقد سار بينهما «رجلٌ» عليه هيبة الأنبياء وسكينة المرسلين ووقار الصدِّيقين..، تقدم حتى وصل إلى «الحجر الأسود» فقبّله ثم انصرف!!
فسأل «هشام» عن الشخص، وهو يعلمه ولكن أحب أن يبدوي لأتباعه أنه يجهله!!
فما كان إلا أن يأتيه الرد من الشاعر المفلّق «الفرزدق» ليقول له:
«هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم»
والحاصل: أن تعامل «الحُجَّاج» مع الإمام (ع) يكشف عن حضوره وعمق تواجده في وجدانهم وسكونه في قلوبهم، ويدلّ بالتبع على مدى حضوره بين الأمة ومدى موقعيّته بينهم ليتعاملوا معه بكل احترام ووقار!
الحضور السياسي للإمام (ع)
بل كان للإمام (ع) الحضور السياسي في حلِّ المعضلات التي تلمّ بالأمة؛ ومن الحوادث الحساسة التي حصلت في زمانه: ما حصل من خلافٍ بين «الدولة الرومانية» وبين «الدولة الإسلامية» حيث كانت «العُملة» تُصنَع وتأتي من قبل الرومانيين، فلما حصل الخلاف بينهما، هددّ الحاكم الروماني بقطع «العملة» وعدم تصديرها للمسلمين، وهذا ما سوف يسبب مشكلة اقتصادية كبيرة على «المجتمع الإسلامي»!!
فاستدعى «الحاكم الأمويّ» أصحاب الرأي والفكر كي يوجدوا حلّاً لهذه المعضلة، لكنهم تحيّروا ولم يجدوا حلّاً لذلك! فأشار بعضهم ل«الحاكم الأمويّ» بأن يبعث لـ«الإمام السّجاد (ع)» فهو يملك العلم لحل مثل هكذا معضلة!!
ولكون «المشكلة كبيرة جداً» لذلك اضطر «الحاكم الأمويّ» أن يخضع لذلك ويرسل للإمام السّجاد (ع) ويطلب منه حل هذه المشكلة المعضلة! وقد أوجد الإمام (ع) الحل فعلاً وأرسل ابنه
الإمام الباقر (ع) كي يبيّن طريقة الحل، حيث اقترح عليهم: أن يوجدوا «عملة» مستقلة لا تكون تابعة للدولة الرومانية!
واستقل «الاقتصاد الإسلامي» وخرج على تبعيته للآخرين!
وهذا درس كبير ينبغي عدم الغفلة عنه؛ فمن جهة، فإنّ «الإمام» هو صاحب الحق الذي يجب أن يتقدم المسيرة ويكون على رأس السلطة، ولكن الطغاة، وعلى طول الخط، يسلبون هذا الحق من أهله «وهو يعلم أن محلي منها محل القطب من الرّحى»[1].
ومن جهة أخرى: فإن «الدين» قادر على أن يوجد الحلول ويحل مشاكل المجتمع الإنساني؛ فما من واقعة إلا والدين له رأي فيها، وما من مشكلة إلا وعنده حل لها!
والدرس الآخر الذي تعلمنا إياه سيرة السّجاد (ع) –في حله لمشكلة العملة-: أنه لابد أن تستقلّ «الأمة الإسلامية» ولا تكون تابعة ل«عالم الاستكبار» والكافرين؛ فالتبعية وعدم الاستقلال يجعل المسلمين أسارى لقرارات الكافرين ولأهواء المتغطرسين!
وما تخلّف «المسلمون» اليوم إلا بسبب هذه التبعية لعالم الاستكبار، اولايتهم على المسلمين ومقدراته، وهذا مخالف لقوله تعالى < وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا>[2].
وأحد أسرار عِداء عالم الاستكبار –وفي مقدمتهم أمريكا «الشيطان الأكبر»– للجمهورية الإسلامية: هو استقلاليتها ورفضها للتبعية! وبسبب هذه السياسة ترى تقدمها يوماً بعد يوم حتى صارت في مصاف الدول الكبرى ويُحسب لها ألف حساب.. «استقلال، آزادي، جمهوري اسلامي».
الإمام السجاد (ع) والجهاد الفكري!
وإنَّ من الأعباء الثقيلة التي تصدّى لها إمامنا السّجاد (ع): هي مواجهة «الغزو الفكري» والأفكار الخاطئة؛ حيث إن «العالم الإسلامي» توسّع بسبب الفتوحات، ودخلت أقوام وشعوب وحضارات في الإسلام، وقد حملت معها الكثير من تبعات الأفكار اللّادينية السابقة، مما سبب مشكلة في داخل المحيط الإسلامي!
فكان لابد من رد الشبهات ومواجهة الانحرافات الفكرية ودحر أصحابها من أصحاب التوجهات الشيطانية.
فقام الإمام (ع) ببناء الصرح العلمي، وكان هو المنبع الصافي لرفد العلماء بمناهل العالم الصافي، وتبيينه لحقائق الإسلام في مختلف الجوانب: العقائدية والروحية والسلوكية، وما يرتبط بالحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ ف«مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)» التي قامت وارتفع بناؤها في زمن الإمامين الصّادقين (عليهم السلام)، والتي تنتمي لها كل المذاهب الإسلامية، الشيعية والسنية، كان الإمام السّجاد (ع) هو واضع حجر الأساس لها، وهو المربيّ لكوادرها والمخرّج لعلمائها!
وهكذا نجد أن «الإسلام المحمّدي الأصيل» مازال محافظاً على قوّته وصلابته، وعلى نقائه وطهارته، وعلى قدرته على مواكبة متطلبات الزمان المتغيرة، ومستجيباً لحاجاتهم ومُحققاً لرغباتهم –على مختلف الأزمان والأماكن– وما ذلك إلا لأن «الدين الخالد» قد حفظه الإمام (ع) ومن بعده الأئمة (عليهم السلام) وقد وصل لنا ببركة «جهاد العلماء» إلى يومنا هذا: محافظاً على نفسه كما كان!
ولذلك، نحن أتباع «أهل البيت (عليهم السلام)» لا نخشى من الانفتاح ولا نرهب من أفكار الحضارات المختلفة: مهما تنوعت واختلفت مشاربها؛ فنحن أتباع مذهب الدليل أين ما مال نميل، ولُغتنا < قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ >[3] فلا نخشى من شيء ما دمنا على الحق ونملك البرهان والحجة.
فلم ولن نذهب إلى خيار «القوة» إلى من يخاطبنا ب«العلم» والحجة؛ لأن هذا خيار من يعيش الضعف الفكري والخواء الاستدلالي، أما من يملك أقوى الحجج والبراهين فَلِمَ يلجأ إلى «قوة الجسد» والحال أنه يملك «قوة العقل»؟!
وهكذا عُرِفَ «التشيع» من ذلك الزمان وإلى هذا اليوم: بأنه صاحب الحجة الداحضة والبراهين الواضحة، وما قارعه أحدٌ إلّا هزمه وأدحض حجته!
وهكذا ينبغي أن يكون أتباع هذا المذهب الأصيل:
أصحاب علم وبصيرة، بين عالمٍ ومتعلم، رافضين أن يكونوا مع الهمج الرعاع «أتباع كل ناعق».
الإمام السجاد (ع) والجهاد الروحي!!
وهناك مشكلة أخرى كانت مسبِّبه عن الانفتاح وتوسّع بقعة الإسلام بسبب الفتوحات: حيث توسّعت معيشة الناس وعاشوا الرفاه ووفرة النعمة والحياة الرغيدة..!
وهذا أدّى إلى انكباب الناس على الدنيا والانغماس فيها والتّولّع بجمعها والتنافس والاقتتال حرصاً على إدراك لذّاتها!!
ولا نعني بذلك الدعوة ل«الفقر» وأن يعيش الناس جياعاً عراة!! بل «الدين» يسعى لرفع الفقر ومحاربته، ويدعو للتوسعة على النفس وعلى العيال..! بل ما نريد أن نحذّر منه: أنَّ عيشة «الترف» والانغماس الزائد وجعل الدنيا كعبة تطوف عليها كل أفكار وآمال وغايات الناس..، هذا هو الخطأ أو الخطر؛ ف«حياة الترف» تجعل الفرد وتُصیِّر الشعوب ضعيفة خاوية الإرادة مستسلمة للرغبات الهابطة والشهوات الحيوانية، ولا همَّ لها إلا تحقيق هذا البُعد الحيواني: من جمعٍ للمال ورفعة على الناس أو استقواء على العباد..!
نعم، واجه الإمام السّجاد (ع) هذه المشكلة التي سادت غالب قطاعات الأمة، فكان لابد من إنقاذ «الروح» من مثل هكذا ماءٍ آسن، وتحريرها من هذه الأغلال، وفكّ وثاقها من هذه الشهوات!
فلسفة الدعاء والمناجاة!
وبذلك يتضح لنا أحد أسرار تركيز الإمام (ع) على الدعاء والمناجاة والبكاء خشية من الله تعالى؛ حيث إن الإنسان مزيجٌ مركّب من «فكر» و«وجدان»، «عقل»، و«قلب»، ولا يستقيم الإنسان ولا يصل إلى كماله اللائق به ويصير خليفة الله تعالى، إلا إذا تكامل في الجانبين: جانب الفكر وجانب الروح والقلب.
والدعاء والمناجاة وكثرة العبادات.. كلّها تقوّي «الجانب المعنوي» وتجعل الإنسان مُنشَدّاً إلى «السماء»، متعالياً على سفاسف «الأرض» مسافراً لتلك الديار، معرضاً عن هذه الخرابات، قد أنس بالله والحديث معه، فلم يجد ما يشغله عنه.. «إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً، ومن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً»[4]؛ فالذي يذوق حلاوة محبة الله، ويرتشف من معين عشقه والهيام به، يستحيل أن يفتّش عن محبةٍ هنا أو لذّة هناك! فإذا ذهب أحدُ لغيره تعالى، والتذّ بشيء من المحرمات، فما ذلك إلا لأنه لم يذق شيئاً من الحب الإلهيّ!!.
إنسان اليوم والحضارة الماديّة!!
وها نحن اليوم نعيش بلية وامتحان «الحياة المادية» وخطر الانغماس في آسانها والأُنس بلذائذها والانخداع بغرورها وحُطامها..، على الصعيد «الفردي» وعلى الصعيد «الاجتماعي»!!
فمن اللازم التوسّل بالدعاء والمناجاة والعبادات التي هي وسائل لتقوية «الجانب الرّوحي» وتنمية المشاعر الفطرية وتفجير الطاقات الوجدانية؛ حيث العروج إلى الله تعالى بالدمعة، والسفر إليه بالأنّة، والخروج من ظلمات الدنيا بالسجدات الطويلة في الليالي المظلمة.
ومادام الإنسان له بُعدان: مادي ومعنوي، بُعد البدن وبُعد الرّوح، ولكلٍّ منهما مقتضیات، فلابد من إعطاء كُلٍّ منهما ما يلزم كي يصل إلى كماله. وأي نقص يطرأ على أحدهما فسوف يجد تبعاته على الآخر، وفي آخر المطاف على كل كيان الإنسان!.
و«المجتمعات» اليوم تنزح لـ«البُعد الماديّ» وتسعى لاهثة لتحقيق طلبات البدن، غافلة عن بُعدها المعنوي ومتطلّبات الرّوح، وهذا هو سبب تعاسة حضارة الإنسان المعاصر وشقائه؛ فمع أنه يزداد «رفاهاً» في كلّ يوم، إلا أنه يخسر «سعادته» كذلك!! فإنسان اليوم «مُرفّه» ولكنه ليس ب«سعيد»! وما ذلك إلا لأن «الرّفاه» من نصيب البدن والبُعد الحيواني، وأما السعادة فهي من نصيب الرّوح والبُعد المعنويّ!.
الإمام السّجاد (ع) الثوريّ العارف!
والإمام السّجاد (ع) كان «الثوريّ» في الزمن الذي يلزم فيه الثّورة والقيام: حيث شارك مع أبيه الإمام الحسين (ع) في كربلاء، وتحمّل كفالة النّساء والأطفال في رحلة السّبي الأليمة، وكانت له خُطَبِه الرَّنَّانة في قصور الظَلَمة؛ حيث هزّ عروشهم وفضح أكذوبتهم وحطّم كبرياءهم! وهو «العارف» المتبتّل بالدعاء والمناجاة، الزّاهد عن هذا الحطام والهائم بوصل الله تعالى!
وهكذا يلزم أن يكون المقتدي بإمامه؛ فلا يستقيم حال «المجاهدين» الذين يدوسون على شوك المصائب، وبنزفون من الجراح، ويكابدون ظُلمة الزّنازين وشدّة سياط الجلّادين..، إذا لم يكونوا يعيشون «المعنويات» ويكونوا من أهل العبادة والدعاء والمناجاة؛ فكلّ هذه المشاق لا يمكن تحمّلها، والثّبات عليها إلى آخر المسيرة، إلا بأن يملك المجاهد روحاً طاهرة، قد أوجدتها دمعات العيون في الأسحار، وصنعتها الشّفاه الذابلات المتبتِّلات، وهيأتها الأجساد المنتحلة بالعبادات!
ومَن لا يراقب نفسه ولا يكون بصدد تهذيبها: فقد يخسر كل ما قدّمه من تضحيات؛ فكم نقل لنا التاريخ –القديم والحديث– عن أشخاص كانوا يعيشون الجهاد، وبذلوا كل ما يملكون وتحمّلوا ظُلمة الطّوامير وقسوة الجلّادين، بل كانوا قاب قوسين من أن يكونوا شهداء وقرابی..!!
ولكن، وبسبب عدم الاعتناء ب«الجانب الرّوحي» وعدم مراقبة النّفس طول الطريق، تجد أنهم ينحرفون في آخر المسير وينقلبون على الأعقاب ويكونون مع الظّالمين!
البُعد الثوريّ للإمام السّجاد (ع)
هناك مواقف «عَلَنِيَّة» نقل لنا التاريخ شيئاً منها فيما يرتبط بالإمام السّجاد (ع): كذهابه للحجّ ومساعدته للفقراء، وصوته الملكوتيّ عند قراءة الدعاء..، فمثل هذه «الأعمال» نقلها التاريخ لأنها أمور عادية لا مشكلة في ظهورها، كما أنه لا مشكلة في نقلها ووصولها لنا عبر الأجيال.
ولكن هناك أمور «سرّية» لا يمكن أن يطّلع عليها إلا الخواص بل وخواص الخواص، ولا يمكن أن يطّلع عليها عامة النّاس، فضلاً أن يقدر التاريخ على نقلها وإيصالها لنا! ومن ضمن هذه الأمور: ما يرتبط بـ«البُعد الثوريّ» و«التّشكيلات السّرية» هذه أمور خطيرة لو نقلت لنا ووصلتنا اليوم، لكان ذلك دليل على ضعف ما تمّ القيام به، لأن «العمل السّري» يستعصي على أبناء الزمان معرفته، فكيف بالأزمان اللاحقة وتعرف الناس عليها بعد قرون؟!!
ولكن، مع ذلك، يمكن للإنسان الباحث أن يتتبّع مجموعة من الأحداث والمواقف ليكشف شيئاً من الدور الذي قام به الإمام السّجاد (ع) في «البُعد الثوري» و«العمل السّري»؛ فـ«زيد» ابنه الذي قام بأعظم الثّورات، كان قد تربّى في حضن الإمام (ع) ونهل من علمه ومن روحه ونهجه! وكذلك حال ابنه «يحيى بن زيد»! وثورة المختار كانت في زمان الإمام (ع) ولا يتصوّر أن يقوم المختار من غير إذن إمام زمانه، مع كونه من أهل التديّن الذي لا يمكنه أن يقدم على مثل هكذا ثورة من غير غطاءٍ شرعيّ!.
ويكفي لإثبات «البعد الثوري» في حياة الإمام السّجاد (ع):
أنه كان حاله كغيره من التّابعين: يُدرِّس في المسجد، ويعظ، ويصلي ويقرأ القرآن..، لما تعرض له الطغاة ولما قاموا بقتله!
فالسرّ في تصفيته: أنه (ع) كان يمثل تهديداً لوجودهم وزلزالاً لعروشهم، فقضوا عليه قبل أن يقضي عليهم!!
وكان أحد أساليب الإمام (ع) في تهييج المشاعر وزيادة أوار لهيب نارها: هو تحريك قضية الإمام الحسين (ع) وعدم السماح بأن تنسى هذه الفجيعة؛ فالدم لم يجف، والثأر لم يحصل، والقتلة مازالوا على كرسي السلطة؛ فليست القضية محصورة بأشخاص بل هناك «نهج طاغوتي» وهو الذي قتل ولابد من الاقتصاص منه.
«اللهم العن العصابة التي جاهدت الحسين، وشايعت وبايعت وتابعت على قتله، اللهم العنهم جميعاً».
الإمام السّجاد (ع) وعلماء البلاط!
ومن الأبعاد الثورية والسياسية لحياة الإمام السّجاد (ع):
هو موقفه من «علماء البلاط» الذين يقوّون الظَلَمة ويكونون أعواناً لهم على ظلم الناس، بل وزوال الدين وتحريفه! ف«العلماء المنحرفون» وبالأخص «علماء السلطة» لا يقلّون خطراً عن نفس الطواغيت والجبابرة الظالمين؛ فكثيرُ من عامة الناس یقعون في الانحراف بسبب هؤلاء «العلماء» الذين باعوا الدين وانخدعوا بالدنيا، فضلّوا وأضلّوا فكان الضياع المبين!!.
حيث ينقل التاريخ أن هناك شخصية معروفة في الوسط الإسلامي تُعرَف بـ«شهاب الدين الزُّهري»، حيث كان صاحب شأنٍ علمي ووجاهة اجتماعية، وقد حضر عند الإمام السّجاد (ع) وتتلمذ عنده، ولكن بعد فترة، فإنه قد مال للدنيا وانخدع بحطامها، فمال مع الطغاة وصار من علماء البلاط!! فأرسل له الإمام السّجاد (ع) رسالة شديدة اللهجة، يعظه ويخوفه من عاقبة أمره وسوء خاتمته..! ومن ضمن ما ذكره له –مضموناً-: «إنك الآن باصطفافك مع الظالمين، صرت لهم عموداً وسنداً يعتذرون من خلاله على شنيع أفعالهم وظلمهم وفسادهم..، وأعظم مافي اصطفافك معهم: أنك أدخلت السرور على قلوبهم بوقوفك معهم!!»
الصحيفة السّجادية
يقول الشهيد الصدر (ق): «وهكذا نعرف أن «الصحيفة السّجادية» تعبِّر عن عملٍ اجتماعي عظيم، كانت ضرورة المرحلة تفرضه على الإمام (ع)، إضافة إلى كونها تُراثاً ربانيّاً فريداّ، يظل على مر الدهور مصدر عطاء ومشعل هداية ومدرسة أخلاق وتهذيب، وتظل الإنسانية بحاجة لهذا التراث المحمّدي العلوي، وتزداد حاجة كلما ازداد الشيطان إغراء والدنيا فتنة».
فالصحيفة السّجادية وإن كانت قد نقشت بصيغة الدعاء، وصُبَّت عليها هالة الابتهال، وتدعو قارئها للنحيب والبكاء..، ولكن من يغوص في أدعية الصحيفة يجد أن الإمام السّجاد (ع) قد تطرّق إلى كثير من أبعاد الحياة: الاعتقادية، الأخلاقية، الأسريّة، الاجتماعية، السياسيّة، الحربية، والأخروية ..، كل ذلك بلغة «الدعاء»، وهذا من أسرار وعجائب هذه الصحيفة، زبور آل محمد (ص)!!
حيث تسطِّر الأدعية الأولى للصحيفة السّجادية كلمات «التحميد لله» و«الصلاة على محمّد وآله (عليهم السلام)» و«الصلاة على حملة العرش»..، وهذه أبعاد عقائدية.
وهناك أدعية تسطِّر الأبعاد الأسرية والاجتماعية: كدعائه ل«والديه» و«لولده» و«لجيرانه وأوليائه». وهناك أدعية تسطِّر البعد الثوري ك«دعائه لأهل الثغور». وهناك أدعية تأخذ بمجامع القلوب ولباب الرّوح إلى عالم المعنويات والسّير في الملكوت، وهذا هو القسم الأكبر في أدعية الصحيفة: من دعاءه بعد صلاة الليل، ومن دعاء مكارم الأخلاق وذكره للتوبة وطلبها، و.. غيرها مما تعتبر من أعظم الكلمات والتعبيرات التي لم ترد في التراث الإسلامي إلا في هذه الصحيفة!!
ولذلك لا غنى عن هذه الصحيفة والتزوّد بها والانتهال من معينها والتقوّي بها: على النفس، وعلى الأعداء وعلى أمور الدنيا والآخرة؛ ف«الصحيفة السّجادية» نتاج روحٍ ملكوتية للإمام زين العابدين (ع)، الذي مزج الكلمات بآهات فراق أبيه الحسين (ع) وأهل بيته، وضمّنها بدموع العشق الإلهي، يقول الشهيد الصدر (ق): «قد استطاع الإمام علي بن الحسين (ع) أن ينشر -من خلال الدعاء- جواً روحياً في المجتمع الإسلامي يساهم في تثبيت الإنسان المسلم عندما تعصف به المغريات، وشدّه إلى ربه حينما تجرّه الأرض إليها، وتأكيد ما نشأ عليه من قيمٍ روحيةٍ، لكي يظل أميناً عليها في عصر الغنى والثروة، كما كان أميناً عليها وهو يشدّ حجر المجاعة على بطنه».