أفحكم الجاهليّة تبغون؟!
تمهيد
إنَّ أسى وحُزن «فاطمة» هو أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها وفُجَّارُها ومُنافقوها وعبّاد الدنيا المعرضون عن الآخرة! الذين يتخذون مال الله دُوَلاً، وعباده خَوَلاْ، والصّالحين حَرباً، والفاسقين حزباً!!
فتعود الأمة إلى جاهليتها الأولى وترفض حكم ربِّها وإسلام نبيها.. «أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكماً؟!»
فكانت «فاطمة» أول من رفع لواء المعارضة:
تُحامي عن إمامها وتدافع عن دينها، ثائرةً على طُغاة زمانها، متحملةً كُلَّ أذى من أجل رضى ربّها، حتى رحلت شهيدةّ تشكو إلى الله لواعجها وهمومها، وأحزانها!.
فلم تُقّر بكِظَّةِ ظالم ولا بسغب مظلوم، ولم تُلقِ الحبل على الغارب، بل قالت «كلمة عدلٍ عند إمام جائر»[1]، وقد كلفتها الكثير، إلا أنها أَغضَت على القذى والألم فلم تبال بأي سوء مصير.. فما على عليٍّ صبراً!!
ومَن غير «فاطمة» يقدر على فضح المؤامرة؟
زمَن غير «فاطمة» يقدر على اقتحام معركة النفاق والمحاربة على التأويل وسلّ السيف وإسقاط الأقنعة التي مازالت تخدع الناس إلى يومنا هذا؟!
نعم، إنها «فاطمة» التي حملت علَم هذه المعركة، وبدأت المسيرةُ منها لتُسلّمها بعد ذلك لأبنائها وأحفادها وشيعتها..
«ولا يحمل هذا العَلَم إلا أهلُ البصر والصبر، والعلم بمواضع الحقّ»[2].
وانحرفت المسيرة!
الانحراف عن الحق يبدأ بخطوات قليلة، ثم تزداد الخطوات، فلا يبقى بعد ذلك «حق» حيث يرحل ويحلَّ محله «الباطل» ويكون هو الحاكم!
وأصحاب «البصائر» يرون بدايات «مسيرة الانحراف» ويُدركون ما تؤول إليه الأمور وتتكشف لهم «الخاتمة»، ولذلك فهم ينهضون قبل غيرهم، ويقفون قبل اعوجاج المسيرة وتفاقم الأمور ووصولها إلى نقطةٍ لا رجعة بعدها!!
وهذا ما حصل بعد رحيل الرسول الأعظم (ص): حيث بدأ الانحراف ب«سقيفة الضلال» وما أعقب ذلك من آثار تدميرية مازالت باقية إلى يومنا هذا! فلقد كانت سهام النضليل، وخطط المُغيِّيرين قد انصبَّت على أهم أمرين:
على «الدين» وعلى «الإمامة»، وبذلك كان ضياع الأمة!!
فثارت «فاطمة»: تدافع عن «الدين» وتجاهد عن «إمامها»!
ومَن أَوْلى من «فاطمة» كي يدافع عن «الثّقلين»؟
ومَنْ أكثر بصيرة من «فاطمة» كي يدرك عواقب السكوت على مثل هكذا ظلم واعتداء وتجاوز على المقدسات؟ّ!.
وثارت فاطمة
و«الأمة» لم تُفِقْ بَعدُ من صدمة رحيل الرسول الأعظم (ص)، وإذا بها تقف حائرة مصدومة من صدمة سلب الخلافة وغصب الإمام عليّ (ع) حقَه!
ولقد كانت الأمور تتطور متسارعة لفرض واقع جديد، على الأمة –كل الأمة– بأن تقبل به وتسلِّم له، وتُهدّد من يعترض عليه فضلاً أن يرفضه!
فلقد كانت هناك «غمامة» قد غَشَتْ عقولَ الكثير: فلم يكونوا يملكون البصيرة والرؤية هم كبار الصحابة وأصحاب الألقاب والوجاهة ورؤوس الأمة!!.
وها هم يقدّمون «فلاناً» خليفة الأمة! والاعتراض –لمن يعلم الحق ويبصر الحقائق– يحتاج إلى «شجاعة» نادرة، وجرأةٍ لا نظير لها، وتحمّلٍ و«صبر» لعواقب الاعتراض ورفض سياسة الأمر الواقع..،
ومَنْ يقدر على مثل هكذا جهاد؟!.
إنها «فاطمة».. وما أدراك ما فاطمة! فلقد كانت ترقب الأمور وتدرك الأحداث قبل حدوثها، وهي تدرك عواقب السّكوت والقبول بمثل هكذا أمور مفروضة: بالقوة والمكر والخديعة! فكان منها «الثورة بالكلمة».. و«ورُبَّ قولٍ أنفذ من صَوْل»[3].
نعم، لقد قالت «كلمة عدل عند إمام جائر»[4].. تُصحِّح المسيرة وترجع الحق لأهله، ولتقول للظالم «كلا» أن تعمل كما يحلو لك الأمر.. ويطمح لذلك حزبُك!
وأعظم ما يرعب الطُّغاة والظَلَمة: أن يقف في وجههم مَنْ يقول «كلا» ويصدح بكلمة «الحق» ولا يرعب من وعيدهم وشدّة بطشهم!
وبعد «كلا».. سوف تأتي ألف «كلا»! ولكن مَنْ يتقدم مسيرة الاعتراض ويقولها في وجه من يملك العدّة والعتاد ويتحمل ما يقع عليه من بطش وعذاب؟!
إنها «فاطمة».. التي كانت قائدة هذه المسيرة في زمن غابت فيه البصيرة وفُقِدَتْ فيه الشجاعة، فتقدّمت «ثائرة».. وقائلة «كلا» لسلب فدك! «كلا» لسلب عليّ حقه! «كلا» لتغيير أحكام الله! «كلا»..
فاطمة (ع) من المسجد خاطبة ثائرة!!
وها هي «فاطمة» لمَّا بلغها تعدِّي رجال السلطة عليها واعتدائهم على حقها وسلبها «فدك» نحلة أبيها..، فإنها لاثت خمارها وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ في ذيولها، حتى دخلت على «أبي بكر» ومعه جُلُّ المهاجرين والأنصار، فضربت بينها وبينهم قطيفة [ساتر]. ثم أنَّت أنَّة أجهش لها القوم بالبكاء!
ثم أمهلت طويلاً حتى سكتوا من فورهم، ثم قالت:
«.. ثم أنتم تزعمون ألا أرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون، ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون؟ أيها معاشر الناس، أفي كتاب الله أن ترث يا ابن أبي قحافة أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئاً فرياً فَدُونَكَهَا مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك! فنعم الحكم الله والزعيم محمّد والموعد يوم القيامة وعند الساعة يخسر المبطلون، ولكل نبأ مستقر، وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه..»[5]
فكانت أوَّل من زلزل عرشهم وفضح مكائدهم وعرّى حقيقتهم من ذلك اليوم وإلى هذا اليوم!
فهذه المتكلمة هي: «فاطمة بنت محمّد» وهي أول ثائرة على نظام الحكم وغير قابلة بما رسمه المخطّطون من هذا الحزب!
ولذلك كانت «فاطمة» أول ضحايا هذا الحزب: هجموا على دارها وأحرقوا بابها، بل عصروها ولطموها وكسروا ضلعها واسقطوا جنينها؛ حتى لاقت ربها شاهدة وشهيدة على ما فعلوه بها وببعلها!
وتطوف على بيوت الأنصار مستنصرة!
بل وينقل التاريخ، أنه بعد حادثة «السّقيفة» فإنّ «فاطمة» لم تستسلم للأمر الواقع، بل قامت مع «بعلها وابنيها» تطوف بيوت أهل المدينة، تطلب منهم رفض بيعة السّقيفة ويلتزموا ببيعة «الغدير» ويقفوا مع عليّ (ع) كما نصّ على ذلك الرسول (ص) في أكثر من موقف في حياته!
فلم تكتفِ «فاطمة» بالموعظة والخطابة والكلام، بل نزلت الميدان وحرّكت النفوس واستنهضت إرادة الأمة وتحدّث رجال السلطة وأجندة حزبه!
وها هي «فاطمة» تتوجه إلى «مسجد الأنصار» داعيةً للثورة والقيام وكسر الأصنام وزلزلت الأقدام، ومِمّا قالت:
«يا معشر الأنصار.. ما هذه الفترة عن نصرتي، والونية عن معونتي، والغميزة في حقي، والسّنة على ظلامتي، أما قال رسول الله (ص): المرء يحفظ في ولده؟!..))
وتُحرِّك النفوسَ وتشحذ الهمم ببيان مظلوميتها، وهم يرون ويسمعون ولا يثورون؟!..
«أأُهضم تُراث أبي وأنتم بمرأى مني ومسمع ..! أفتأخّرتم بعد الإقدام، وجبنتم بعد الشّجاعة، عن قومٍ نكثوا أيمانهم من بعد إيمانهم وطعنوا في دينكم».
بل وترفع من نبرة الاعتراض وتصدع صراحةً بالثورة والقيام، حيث تقول (ع): <فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ>[6].
وللأسف فإن الأمة كانت مستسلمة خانعة، خاوية في إرادتها غير مُدركة لعواقب تخاذلها وعدم نصرتها لإمامها واستجابة دعوة بنت نبيها!!
واستمرّت المعارضة السّلمية!
وبعد أن جاهدت «فاطمة» بالكلمة، وبعد أن يئست من تحرك الأمة، عندها واصلت ثورتها ضد أئمة الظَلَمة وأعلنت مقاطعتها للسلطة؛ فأقسمت ألا تُكلِّم «أبا بكر» ولتدعوَنَّ الله عليه!
واستمرت على هذا الحال حتى جاءتها المنيّة، ورحلت عن الدنيا غاضبة ساخطة عليه وعلى حزبه وما فعله ببعلها وبها!
بل كانت ثورتها السلميّة مخلّدة إلى ظهور حفيدها المُنتقم لها ولبعلها أول مظلوم في الإسلام؛ حيث أوصَتْ بأن لا يصلّي عليها من ظلمها، ولا يحضر جنازتها من تعدّى عليها، بل ويُغيَّب قبرها: لتعلن لكلّ الأمّة أنها كانت ثائرة في حياتها، بل بعد مماتها، وما (قبرها المُغيَّب) إلا صرخة إلى كل الأجيال عن رفضها للأساس الذي أُسّس من سقيفة الضلال!
وما «أطول نفس المعارضة» من قِبَلِ «فاطمة» (ع) فهي رافضة لأي مسالمة أو مهادنة أو قبول بسياسة الظَلَمة، ولم يكن ذلك الرفض لوقتٍ محدد، بل هو مستمر حتى يُنْتَصر للحق وتعود حكومة الصّالحين ويعمَّ العدل على المظلومين!
وكُسَّر ضلعها ثانية!!
لقد قالت «فاطمة» كلمتها، وثارت ضد طواغيت زمانها وأقامت الحجّة على الخلق، وطلبت منهم النصرة فخذلوها؛ وبذلك خسروا شرف أن يكونوا «أنصار الله» الذين ينتصرون لدينه وفاتتهم المراتب العالية في الجنان العليّة، وخسروا كذلك أن يكونوا سادة على البشريّة!
بل خذلانهم هذا كان السبب لأن تقع واقعة «الحُرَّة» وتُهتك أعراضهم وتُسفك دماؤهم ويصيروا عبيداً لـ«يزيد» شرُّ البريّة!
فـ«كُرَةُ التّخاذل» تبدأ صغيرة، ثم تكبر وتكبَر، حتى تأتي بمثل هكذا مصائب وفجائع!
ومن لا يصغي لنداء الدين ولا يلبي دعوة «قادة الدين» فإن المصير الذُّل والخزي في الدنيا قبل عذاب رب العالمين!!.
ولقد أدّت «فاطمة» الواجب الشرعيّ، وهي البصيرة بخفايا هذه الأمة وما تكنّه سرائرهم وعدم قيامهم لنصرة دينهم وإمام زمانهم..، حيث قالت لهم صراحة: «ألا وقد أرى أن أخلدتم إلى الخفض، وركنتم إلى الدّعة، وجحدتم الدين..»[7]؛ ومن يرضى بالذّلة، ويركن للحياة الهانئة، ويسكر في حب الدنيا ويغتر بحطامها السَّام..، فهو غير قادر على الثورة ولا تحديث نفسه بالقيام على لِئام الزمان!!!
فيا ساعد الله قلبك يا «فاطمة»:
فبالأمس يُكسَّر أضلاع من الأعداء، واليوم يضيق صدرك فيفتت من الأحباب، حيث تقول لهم مخاطبة الأنصار متألمة:
«ألا قد قلت ما قلت، على معرفة في بالخذلة التي خامرتكم، وفوز القنا وضعف اليقين..!!
فبعين الله ما تعملون، <وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَب يَنْقَلِبُونَ>[8]».
وتبقى البشرية كما هي!!
ولو لم يسطّر لنا التاريخ مثل هكذا أحداث، لما كُنَّا مصدقين!
فإذا كان في الأمة «لئام»، وهم قلّة في كل زمان فأين باقي الناس:
الذين يقفون مع الحق وينصرونه، يجعلون الباطل ويدحرونه؟!
أين أولئك الذين سطّروا بالأمس القريب أروع الملاحم في
«بدر» و«أُحُد» و«الخندق» و..،
وتحمِّلوا الأذى في ذات الله تعالى ورفعوا الإسلام وجعلوا رايته خفّاقة!
أين الذين استوثق نظام الدين بهم، وخَبَت نيران الحرب بسيوفهم، وسكنت فورة الشرك بجهادهم، ودارت رحى الإسلام بتضحياتهم!
نعم، فالوصول إلى «القمّة» صعب ولكن المحافظة على «القمّة» أصعب!
فأن تكون مؤمناً صالحاً صعب، ولكن أن «تستقيم»، على ذلك هو التكليف الأصعب!
فمن لا يفقه لغة «فاستقم»..
<فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ>[9] فإنه سوف ينحدر من أعلى القمة ويقع أسفل الوادي وقد يكون من الذين انقلبوا على الأعقاب واستبدلوا الإيمان بالفكر والصالحات بالسيئات والجنة بالنيران!!
وهذه سُنّة الله في خلقه، لا تتبدل ولا تتغير، وهي حاكمة على الحياة «الفردية» و«الاجتماعية» و«السياسية»..، حيث أن الوصول للقمّة والمعالي له أسبابه، والحفاظ على الصّدارة له أسبابه أيضاً، ومن يعمل بالأسباب الأولى يصل إلى القمّة، ومن يتخلّى عن الأسباب الثانية لا يحافظ عليها!!.
الاستقامة ثم الاستقامة يا سجناء!!
فيا أحبتي السّجناء.. خذو كمال الحذر والحيطة، وراقبوا أنفسكم وخطرات قلوبكم، ولا يدخل في قلوبكم العُجب: بأنكم من الذين تسيرون على طريق ذات الشّوكة في زمان كثر فيه الذين أخلدوا للدنيا وأحبّوا العافية!!.
فما زلنا في بدايات المسير والأمور بعواقبها، وقد سبقكم الكثير: ممن هم لا يقلون عنكم شجاعة ولا تضحية، كانوا بالأمس في الطوامير.. واليوم هم بعيدون!
ولعلّ قادم الأيام يُصيّركم مصيرهم فلا تستقيموا على ما أنتم عليه؟!!.
فـ«الاستقامة على ذات الشّوكة» ومقارعة الطغاة وتطهير الأرض من الأرجاس، وإقامة العدل ونشره على كل العباد..، يحتاج إلى «مقوّمات» تكون هي الأسباب لمواصلة «المسيرة الثورية» وأهمها:
أن يقوّي «الثائر» من فكره فيحمل فكراً إسلامياً أصيلاً، ويقوّي «الثائر» من روحه مجاهداً لنزوات نفسه منتصراً في الجهاد «الأكبر»، ويقوّي «الثائر» من علاقته بقائده والإنصياع لأوامره..!
أسأل الله لي ولكم الثبات والإستقامة على طريق ذات الشّوكة وأن يكتبنا من الشّهداء في سبيله..
والعاقبة للمتّقين.
[1] أُلقيت في ليلة شهادة السيدة فاطمة الزهراء (ع).
[1] نهج البلاغة، الحكمة (355).
[2] نهج البلاغة، الخطبة (173).
[3] نهج البلاغة، الحكمة (374).
[4] نهج البلاغة، الحكمة (355).
[5] شرح نهج البلاغة (البحراني) (5: 874-875)
[6] شرح نهج البلاغة (5: 875).
[7] نهج البلاغة، ومن كتاب له (ع) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري
[8] الشعراء: 227
[9] هود: 112