أسبقية الإسلام
واكن بقى علينا أن نجيب على سؤال آخر وهو:
إننا سلمنا وقبلنا بأنَّ الحاكم لابد أن يكون عالما بالدستور لكي يكون قادرا على مراقبة عمل الحكومة من جهة، وليطبق الدستور هو أيضاً ولا يخالفه ولكنكم لا تشترطون أن يكون الحاكم حاصلاً على الدكتوراه في علم القانون مثلاً، بل تشترطون أن يكون معه فقيها، فما دخل هذا في هذا؟؟
الجواب:
في الحقيقة إنَّ الإسلام قد سبق تلك النهضة الأوروبية بقرون، فقد أنزل الله سبحانه وتعالى دستوراً شاملاً وكاملاً، ويوضح المسار الذي ينبغي المضي عليه، ورسم السياسة التي وجد على الحكومة أن تسير عليها، وعيّن الحاكم الذي
ينبغي أن يقوم بهذا الدور، وجعل الدستور حاكما عليه أيضاً يقول الشيخ الجوادي الآملي: «قد تقدم أن الولاية إنما هي للفقيه العادل، ومصطلحها عند التحليل إلى ولاية الفقه والعدالة».
فالشريعة الإسلامية هي الدستور الذي يجب على الحاكم أن يسير عليه ويعمل به.
وقد أقرَّ هذا الدستور عنصرا مهما في جانب السياسة والذي أهملته وتهمله إلى اليوم السياسة المادية الغربية، وهو الاهتمام بالعنصر المعنوي والأخروي إذ إِنَّ السياسة والحكومة ليست هي سوى إدارة شؤون الفرد الإنساني يماله من شؤون فردية واجتماعية وتوفير الحاجات الأساسية له.
فالسياسة حكمة عملية متفرعة من الحكمة – النظرية: «ومن كان رأيه إنَّ الإنسان موجود مادي صرف، وإن الإنسان الموجود سيصير معدوماً بحثاً، وأنه لا حياة وراء الحياة الطبيعية، وأنه لا حساب ولا ميزان لأعماله الحسنة أو السيئة بعد الموت».
فمن كانت هذه وجهة نظره حول الإنسان فستكون فمن السياسة عنده عبارة عن: «كيفية تدبير الإنسان وإدارة شؤونه بحيث يأكل ويتمتع ويترف، يتزياً بالأزياء، ويتكاثر ويقول: «إلى أكثر مالاً وأعزّ نفراء، ويبتهج بأنه «أحسن أثاثا ورئيا» ولا يبالي من أين كسب المال وأين أنفقه، حلالاً كان أو حراماً».
وعلى هذا تكون العناصر الرئيسية السياسية مادية بحته، ويكون اهتمامه بتوفير: الأمان، والغذاء، والسكن فقط.
وأما من كان رأيه إن الإنسان مؤلف من نفس ناطقة لا تبيد ولا تموت ومن بدن مادي، وإن الإنسان له حقيقة واحدة تنتقل من دار إلى دارة وهي لا تنعدم رأسا بل تتحول من حالة إلى حالة إن من وراء حياة الإنسان الدنيوية برزخاً إلى يوم يبعثون.
فعلى هذا الاساس تكون السياسة عبارة عن صناعة تهذيب الإنسان، وتصحيح روابطه الفردية والاجتماعية بحيث يقوم بالقسط، ويأمر بالعزل، ويؤثر غيره على نفسه، وإن كان به خصاصة ويقول: «فلا تفوتكم الحياة الدنيا ورتكم بالله الغرور، ويترنم بأنه <قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى>، كما كان الأول يترنم بأنه <وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى>.
فتلاحظ بأن العناصر الرئيسية بناءً على هذه النظرة تكون مؤلفة من الأمور: المادية والمعنوية..
فالسياسة الإسلامية لا تهتم بتوفير الحاجات المادية الأساسية، وفقط بل تهتم بتوفير الحاجات المعنوية والروحية أيضاً.
إذ الإنسان بدن وروح، وكما إنَّ له حاجات مادية أساسية، فله حاجات روحية أساسية أيضا.
وبناءً على هذا فإن من عرف حقيقة الإنسان وواقعية الإسلام، وعرف خالفه وبارئه، ومعاده الذي ينتهي إليه أمر، فقد عرف السياسة الإسلامية، وأعرف الناس بالسياسة الإسلامية، هو أعرفهم بتلك الحقائق المتقدمة ومن جهل هذه الحقائق الباعة، فقد جهل السياسة الإسلامية جهلاً تاماً.