إفادة الدكتور عبد الجليل السنكيس
المحتويات
بسم الله الرحمن الرحيم
إفادة عبد الجليل عبدالله يوسف السنكيس، أمام محكمة الاستئناف العليا
عدل .. حريّة .. كرامة .. إنسانية ..
حضرات رئيس هيئة قضاة المحكمة الاستئنافية وأعضاءها المحترمين،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أتقدم بإفادتي أدناه طالباً توثيقها وضمّها إلى محضر جلسة اليوم.
التعريف الشخصي
فأنا الماثل أمامكم عبد الجليل عبدالله يوسف السنكيس، بحريني في نهاية العقد الخامس، ومن مواليد قرية السنابس -البحرين – من والدين بحرينيين. أنا متزوّج وأب لأربعة، وجد لابن في الخامسة من العمر. أنا خرّيج جامعة مانشستر البريطانيّة بدرجتي الماجستير والدكتوراه في أحد التخصصات الفرعية في الهندسة الميكانيكيّة. أعمل بدرجة أستاذ (Associate professor) مشارك وتسلمت رئاسة قسم الهندسة الميكانيكيّة في جامعة البحرين التي خدمت فيها لأكثر من 21 سنة، كنت فيها مثال الإخلاص والعطاء لمهنة التدريس وخدمة المهنة الأكاديميّة وتخريج أجيال من المهندسين – بحرينيين وغيرهم – من الجنسين، ويشغل العديد منهم الآن مواقع متعددة في إدارة شركات ومؤسسات خاصة وعامة وفي وزارات الدولة.
لي مساهماتي العلميّة في دورات عالميّة، وكنت محكّماً لإصدارات العديد منها، كما أتمتّع بعضويّة فاعلة في العديد من مؤسسات المجتمع المهنيّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
النشاط
من جانب آخر، أنا مدوّن وكاتب مقالات، وناشط في مجال حقوق الإنسان ومناهض لكل أنواع التمايز والتمييز والتهميش، ومطالب بالمشاركة الشعبيّة الحقيقيّة في صناعة القرار والانتفاع العادل بالثروة الوطنيّة، ومناهض لكل صنوف الفساد الإداريّ والماليّ وكل مشاريع تغييب الإرادة الشعبيّة: والتي تشمل فرض وثيقة أحاديّة لا تعبّر عن إرادة الشعب ومطالبه، والسعي لتغيير التركيبة السكانيّة والمهنيّة لشعب البحرين الأصيل من السنّة والشيعة.
الاعتقالات والمحاكمات السابقة
وبسبب نشاطي المعلن وتعبيري عن الرأي – بصوت مرتفع – في قضايا الشأن العام، ومشاركتي الفاعلة في الأنشطة الشعبيّة السلميّة، لم تکن هذه المحاكمة هی الأولى التي تهدف لإسكاتي – وإسكات غيري من النشطاء – وتغييبي عن المشاركة في بناء البلد ونقله لمصاف الدول الديمقراطيّة التي تتمتّع بشرعيّة شعبيّة في إدارة البلاد، واحترام حقيقي وكامل للحريات وحقوق الإنسان.
وكما قال لي رئيس المحققين فيما يعرف بجهاز الأمن الوطنيّ أثناء الاعتقال السابق في العام 2010م: «إنّنا كنّا نريدك ونستهدفك منذ العام 2005م». ففي يناير من العام 2009م تمّ اعتقالي ومحاكمتي ضمن ما يعرف بمخطط الحجّيرة، وفي أغسطس من العام 2010م اعتقلت من مطار البحرين الدولي أثناء عودتي من الإجازة الصيفيّة، وتمت محاكمتي فيما عرف «بخلية 20»، وبعد ثلاثة أسابيع فقط من إطلاق سراحي من تلك القضية في فبراير 2011م، تم اعتقالي ومحاكمتي فيما عرف بقضية «التحالف من أجل الجمهوريّة » حيث حُكم عليّ بالسجن المؤبّد، وهو كان أول حكم صادر بحقّي في حياتي.
التهم الكيديّة
كانت التهم الأساسيّة في جميع هذه المحاكمات هي نفسها، وتضاف لها تهم أخرى في كل محاكمة جديدة. من التهم الأساسية المتكررة:
- محاولة قلب نظام الحكم.
- التحريض على قلب نظام الحكم.
- تعطيل القوانين والتحريض على عدم الانصياع لها.
- الدعوة لتعطيل الدستور وقلب نظام الدولة.
- تعطيل مؤسسات الدولة.
- الإضرار بالوحدة الوطنيّة.
- الاعتداء على حريات الآخرين.
- نشر أخبار وإشاعات كاذبة.
- حيازة محررات تروّج لقلب نظام الحكم.
- التخابر مع الخارج.
- الدعوة\التنظيم \الاشتراك في اعتصامات ومسيرات غير مرخصة.
- الانضمام لجماعة محظورة\ تنظيمات غير مرخصة وعلى خلاف القانون.
وقد صاحب هذه المحاكمات حملات إعلاميّة وأنشطة عدائيّة موجهة إلي وللنشطاء؛ وذلك من قبل الصحف والمواقع الإلكترونيّة المحسوبة على السلطة إضافة للإذاعة المرئيّة والمسموعة، وكذلك عبر الرسائل القصيرة التي تنشر عبر الهواتف النقالة. وتشمل هذه الحملة السبّ والشتم والوصم بالخيانة والولاء للخارج، والتهديد بالاعتداء عليّ وعلى أفراد عائلتي. وقد كانت رسالة جهاز الأمن الوطنيّ واضحة عندما اختطف الناشط موسى عبدعلي من قبل ملثّمين في وقت متأخر في نهاية أكتوبر 2005م بالقرب من منزله في قرية العكر.
أخذ موسى -وهو عضو مؤسس وناشط في لجنة العاطلين ومتدني الدخل- إلى جهة نائية، وضربوه ضرباً مبرحاً، وتحرّشوا به جنسياًّ بهدف الاعتداء عليه، وقد أودع الملثّمون موسى رسالة – وهو في تلك الحالة التي يرثى لها – مفادها: «تقول للدكتور السنكيس يشيل إيده من لجنة العاطلين، وإلا بيصير له مثل اللي صار إليك».
في العام 2005م، أُقلت من موقعي كرئيس لقسم الهندسة الميكانيكيّة بجامعة البحرين بعد سنة من تجديد عقد الرئاسة لدورة ثانية (الدورة مدتها سنتان) وذلك بسبب مشاركتي في أنشطة حقوقيّة وإعلاميّة في واشنطن ولندن وجنيف. وقد قالتها لي رئيسة الجامعة السابقة وبشكل صريح أنّها لا تستطيع تحمل وضعي أكثر، وأنه لا يمكن القبول بما أقوم به من أنشطة. هذه الأنشطة لم تكن مرتبطة أو مؤثّرة في نشاطي الأكاديميّ أو في مهنتي بصفتي أستاذ مشارك ورئيس قسم أكاديمي، ومن ضمن ما قالت لي الرئيسة حينها: «لو رايح موزنبيق مافي مشكلة.. رايح واشنطن، هذا مو مقبول». وكما أوضح رئيس المحققين في جهاز الأمن الوطنيّ أثناء التحقيق في القضيّة السابقة بأنه كان من المفترض أن يتم عزلي من الجامعة في حينها (يقصد عام 2005م)، ولكن أوامر الديوان كانت بتنحيتي من رئاسة القسم فقط.
وإضافة لمضايقتي في العمل بحرماني من حقّي في التفرّغ العلمي، شملت الأنشطة العدائيّة لي مضايقة أفراد عائلتي، وتحديدًا أبنائي الحاملين لشهادات البكالوريوس في تخصصات مطلوبة وحرمانهم من العمل، بل اعتقالهم والتحقيق معهم كما حدث لابني وابنتي التي أقيلت من عملها بالرغم من تمسك رب العمل بها، ولكن الأوامر كانت بعدم مواصلتها العمل في المدرسة الخاصة. أما ابني الأكبر، فإضافة لحرمانه من العمل لفترة زادت عن ثلاث سنوات، حيث الأبواب كانت موصدة أمامه بسبب اسمه الأخير (السنكيس)، تم فبركة تهم ضده وتعذيبه تعذيبا شديداً، وإرغامه على الاعتراف على نفسه – رغم براءته – ومعاقبته لأنّه ابني، نكاية بي ومحاولة لإحداث أكبر قدر من الألم لي. كان الابن العزيز يصر على أن يدفع الكرسي المتحرك الذي استعمله، هذا كل ما قام به. لقد تم سجنه بحكم عسكريّ جائر لسبع سنوات. ولم تسلم زوجته -وقد كان حديث الزواج- من العقاب والأذى هي الأخرى؛ فلقد تم التحقيق معها وضربها، وطلب منها أثناء التحقيق أن تنفصل عن ابن عبد الجليل السنكيس، وحين رفضت، أُقيلت من عملها الذي كانت تتقنه بجدارة. الابن محبوس في مبنى مجاور لي في سجن جو، في محاولة لإحداث أكبر قدر من الألم بسبب مواقفي التي عبّرت عنها تعبيراً متحضّراً كأيّ مواطن من هذا الوطن.
التعذيب – المعاملة السيّئة
ولم يقتصر النظام على المضايقة الظاهرة السابقة الذكر، بل تعدّى ذلك من خلال التعذيب والمعاملة اللاإنسانيّة التي بدأت منذ الاعتقال السابق في قضيّة 2010م. وبالرغم من علمهم بوضعي الصحي كوني معوق في الرجل اليسرى منذ الطفولة، إلا أن ذلك لم يجنّبني سوء المعاملة والضرب والحرمان من أبسط الحقوق التي يتمتّع بها أيّ معتقل وسجين رأي. وأنا هنا لن أتحدّث عن تلك المعاملة والتعذيب في قبو القلعة وزنازين الحوض الجاف لفترة (أغسطس 2010م- فبراير 2011م)؛ حيث لم تزل أثارها ماثلة من خلال الأذن اليسرى التي عمل معذبو جهاز الزمن الوطنيّ على خرقها. ولكني سوف أتحدث عمّا تعرّضت له من معاملة لا إنسانيّة وتعذيب في هذه القضيّة.
الاعتقال
في فجر 17 مارس 2011م، استيقظت أنا وزوجتي على وقع أصوات بالقرب من غرفة نومنا في الطابق الثاني من منزلنا الواقع في منطقة كرباباد. توجّهنا معاً -أنا وزوجتي- نحو باب الغرفة المغلق، وقامت زوجتي بفتح الباب دافعة إيّاي للخلف بعدما رأت مجموعة من الملثّمين وهم على درج الطابق الثاني، يحمل بعضهم المصابيح وآخرون يحملون البنادق. أغلقت زوجتي الباب بسرعة قائلة: «لقد أتوا»، وما هي إلا ثوان قليلة قبل أن تفتحه مرة أخرى، وإذا برئيس المجموعة ومعه أحد أفراد القوات الخاصة داخل الغرفة موجّهاً السلاح إلى رأسي وهو يقول: «وجدناه، وجدناه، تنخش ها! وين تعتقد تقدر تروح»، وثوان أخرى وإذا ببندقية أخرى على رأسي وأنا على الأرض. كانت زوجتي تصيح: «يا الله .. يا الله»، وهو يقول لها (رئيس المجموعة): «لا تخافي.. لا تخافي». وهي كانت تقول: «بناتي بناتي» وهو يقول لها: «لا تخافي.. أقولك لا تخافي».
كنت بملابس النوم الداخليةّ، لم يسمح لي بارتداء أيّ شي، وكان الطقس بارداً تلك الليلة، كما لم يسمح لي وضع نظارتي الطبية. لم يظهر أيّ من الملثّمين أيّ أمر قضائيّ بحقّي أو لتفتيش منزلي، والذي حدث بعد أن قادوني لجهة غير معلومة.
ما هي إلّأ ثوان وإذ بي واقع على الأرض، والبندقيتان على جانبي رأسي، وإذ بابنتي الصغيرة تدخل الغرفة وهي مرعوبة وهي تنادي أمها: “البابا وين البابا؟” فهي لم تلحظني على الأرض من كثرة الملثّمين الموجودين داخل غرفة النوم وخارجها. فلقد تم إيقاظها من غرفتها، وجاءت إلينا لتحضنها أمها وتحاول تهدئتها.
صرخ رئيسهم علي: «قم .. قم»، فقلت: «آخذ عكاكيزي»، أخذتها، فكانت هذه كلماتي الوحيدة، ثمّ سحبوني من ثيابي من الخلف أمام ناظري زوجتي وابنتي، وجروني بشكل سريع للطابق الأسفل. رأيت ابنتي الأخرى وهي تنزل من غرفتها وهي محاصرة من قبل الملثّمين المسلحين وهي تنادي: «بابا .. بابا» .. لم يسمح لي بالحديث، أخذت بشكل سريع على الدرج، كدت أسقط على وجهي، ودون أن يسمح لي بارتداء النعال، أُخذت لخارج المنزل، ولاحظت الأبواب المكسورة، الباب الرئيس الخارجيّ والداخليّ.
تم دفعي لخلف إحدى السيارات ذات الدفع الرباعي، بعد أن تم عصبوا عيناي بضمادة وربطوا يداي بسير بلاستيكي بعد مصادرة عكاكيزي. وضعت مكبوباً على وجهي. ووضع أحد أفراد القوّات الخاصة -باللباس الأسود- ركبته على رجلي حت٦ى لا أتحرك. بدأت الشتائم والسباب، شغل قائد المجموعة الذي كان بجانب السائق الأغاني بصوت مرتفع، وصار يغني، وانطلقت السيارة بسرعة كبيرة لجهة غير معلومة، ولا أعلم عن وضع زوجتي وبناتي وهنّ بين أولئك الملثّمين المسلحين، ولا حول ولا قوّة إلا بالله. لا أعلم من هي الجهة التي اعتقلتني؛ فلم يعرّف أحد عن نفسه، ولا أعلم السبب وراء ذلك، ولم توجّه إليّ أيّ تهمة، ولم أرَ أيّ أمر قضائيّ بكل ذلك.
لا أعلم ما حدث في منزلي حينها، وعرفت لاحقاً بما قام به أفراد جهاز الأمن الوطنيّ؛ حيث تعرّف الأهل على الشخص الذي قام بالتفتيش، وهو الشخص نفسه الذي هجم على المنزل في غيابي وقام بالتفتيش دون أمر قضائيّ في القضيّة السابقة في أغسطس 2010م. لقد تم كسر أغلب الأبواب، وقلبوا الأثاث وعاثوا التخريب في كل ما وجده الملثمون أفراد جهاز الأمن والجيش، كان المسؤول عن التفتيش يسأل عن حاسوبي (اللابتوب وكذلك الدسك توب) والفلاش دسكات، وهي نفسها التي استحصلها من القضية السابقة، وقد استعدتها يوم الإفراج عني. فهو يعلم عما يبحث عنه، وعرفت لاحقاً في النيابة العسكريّة بعد أسبوعين من الاعتقال أنه تم تفتيش منزلي بعد اعتقالي ومغادرتي للمعتقل، دون إبراز أي أمر قضائي بالتفتيش، ولم يتم تسجيل ما تم أخذه. فقد اختفت: محفظتي وفيها أموال لا أذكر كم كانت، وفيها بطاقات اعتماد ورخصة القيادة، إضافة لبعض الأجهزة: كاميرا فيديو ديجيتال JVC – كاميرا سوني – جهاز خرائط الطريق (توم توم) – حافظة جلدية بها حوالي 500 جنيه إسترليني – هواتف نقالة العدد خمسة، جواز السفر – بروجكتر – جهاز دي في دي صغير الحجم وغيرها ممّا لا أذكره الآن.
ظللت ملقًى على وجهي مقيد اليدين ومعصب العينين، بينما يضع أحد أفراد القوات الخاصة ركبته علي طوال الرحلة من منزلي وحتّى وصولنا لمنطقة عرفت لاحقاً أنّها سافرة. تم إنزالي وقطع السلك البلاستيكي، وأعطيت العكاكيز مع السباب والشتم الذي كان يلازم كل أمر بالحركة، وفي كل شاردة وواردة يتم سبي وشتمي دون أن أردّ على ذلك.
كانت الرياح شديدة تلك الليلة. تم إيقافي لمدة طويلة من الزمن بعد إنزالي من السيارة في مهبّ الرياح، وكنت حافي القدمين ومعصوب العينين وبملابسي الداخليّة.
أثناء ذلك حدث ما يلي:
- كان أحدهم يتحرّش بي جنسيّاً بوضع أصبعه من الخلف بين الفينة والأخرى وبشكل متكرر، كان يضحك أثناء ردة فعلي إزاء ما يقوم به.
- أحدهم كان يهمس في أذني بالسباب: “يا بن القحبة، وقعت يالخائن، معوق وما هو فايد فيك”… إلى غيرها من الإهانات والشتائم.
- أتى أحدهم وهمس في أذني: “تم الآن الانتهاء من اغتصاب ابنتك الكبيرة من الخلف، والآن سوف يتناوبون في الاعتداء عليها من الأمام، ثم بعدها يعملون الأمر نفسه مع البنت الأخرى وأمها”.
- علمت وميزت وجود آخرين معي، فقد سمعت أصوات كلّ من الشيخ عبد الهادي المخوضر، والأستاذ إبراهيم شريف والأستاذ حسن مشيمع.
- بعد فترة جاء أحدهم، وكانوا ينادونه «بالشيخ»، تقدم باتجاه الأستاذ مشيمع وقام بالبصق، وسبّ الأستاذ وسبّ المذهب الجعفري: «طز فيك وفي مذهبك وأئمتك الإثني عشر».
- تم أخذنا بشكل منفرد إلى دتخل مبنى حيث صورونا فوتوغرافياً، وأخذوا قياس ضغط الدم والسكر، ثم أعادونا إلى المكان الذي كنّا فيه. فقط أثناء الفحص والتصوير الفوتوغرافي تم إزالة الضمادة من على العينين، واتضح بأننا في أحد المكاتب.
- جاء أحدهم وقال: «أنتم الآن في الطريق لخار البحرين. تعرف وين بتروحون؟ بنسلمكم لجماعة أبو متعب، هناك يعرفون لكم، هناك قطع الرؤوس، إحنا مالنا سيطرة على الأمر. طلع الأمر من إيدنا.. أنتم جبتون الأمر لكم». كان يريد أن نفهم أننا في الطريق للسعوديّة.
- انتظرنا لفترة من الزمن ونحن واقفون في مهب الرياح الباردة وفي ذلك الوضع المرعب.
- تم أخذي باتجاه ما يشبه الباص أو المني باص. وأثناء ذلك قام أحدهم بإنزال سروالي وكشف عورتي أثناء مسيري، فوقفت ورفعت السروال. أعاد الأمر مرة أخرى وأنزل السروال، فقمت بإرجاعه وسترت عورتي. حتى تم إركابي السيارة مع كمّ من السب والشتائم.
- بعدما تم تحديد موقع جلوسي، جاء أحدهم ووقف على باب الباص وقال لي: «ودي أن أطأك (أفعل الفاحشة معك) ولكن للأسف أنت معوق».
- انتظرت لفترة في الباص، وتم إركاب بعض الإخوة معي، لا أميز أيا منهم. وقبل أن ينطلق الباص إلى سجن القرين العسكريّ، صعد أحدهم وجلس بجانبي لتبدأ مرحلة أخرى من التعذيب وسوء المعاملة طوال الرحلة.
في الطريق لسجن القرين
همس في أذني قائلاً: “هل تميّز صوتي:؟ قلت له: “لا”. فعرّف نفسه بأنه من جهاز الأمن الوطنيّ الذين قاموا بالاشتراك في التحقيق معي وتعذيبي في القضيّة السابقة في العام 2010م. بعدها، وطوال المسافة من الموقع الذي كنّا فيه وحتّى وصولنا سجن القرين، قام هذا المعذّب بتجريعي شتى أنواع المعاملة اللا إنسانيّة منها:
كان يضربني على وجهي وعلى رأسي براحة يده وكذلك بمجمع يده (البوكس) مرة أخرى، وأنا أصرخ: “آه” كلّ مرّة، وهو يواصل: “اسكت!، لا تقل آه”.
كان يشتمني: “يا بن القحبة، يالخائن، ما فاد فيك اللي سويناه فيك المرة السابقة”.
كان يسحب حلمة صدري.
كان يسحب الشعر في صدري، وفي يداي ورجلي.
كان يأخذ نعاله ويدفعه في فمي، ثمّ يمسح به على وجهي قائلاً: «قبّله.. قبّله».
كان يدوس برجله على قدميّ الحافيتين.
كان يضربني بنعاله على رأسي ووجهي وصدري، وكلما صرخت آه، آه. كان يرد:” لا ترفع صوتك.. لا تقل آه”.
أخرج مسدساً صغيراً ووضعه على جسمي، متسائلاً إن كنت أعرف ماذا كان ذلك، ثم وضعه في فمي.
ضربني بالمسدس على رأسي.
وضع المسدس على جانبي رأسي وكان يقول: «أود لو أفرغ هذا في رأسك».
قام بالتعرّض بذكر ابنتي بالسوء وبكلام فاحش عنها.
واستمرّ ذلك الأمر حتّى وصلنا إلى سجن القرين العسكريّ. وقف الباص، وفتح الباب، وجاء أحدهم وقال: «وصلتم إلى مصنع الرجال، هنا يصنع الرجال».
في سجن القرين
تم سحبي بقوة، وأنا معصب العينين، وتم جري بشكل سريع من الخلف، وأنزلت من الباص مباشرة إلى الزنزانة الانفراديّة رقم 1 في عنبر رقم 4.
تم سحب العكاكيز منّي وأمرت أن أقف على رجل واحدة؛ حيث إنني مصاب بشلل في رجلي اليسرى منذ الطفولة، بينما أضع يداي مرفوعتين على الجدار.
جاء أحدهم، وصرخ في أذني قال لي: «جئتم إلى مصنع الرجال» وطلب مني تكرار تلك العبارة، ثم قال: «أنتم لستم في البحرين الآن».
الزنزانة بمساحة ٦ أمتار مربعة تقريباً (3*2) وهي خالية من أي إضاءة أو نوافذ، بابها حديدي فيه فتحات في الأسفل (لتمرير الماء في كأس)، وأخرى في الأعلى تسمح للإضاءة بالعبور من الممر في العنبر الذي يحتوي على زنازين انفرادية.
كما يوجد على ارتفاع متر تقريباً فتحة بجرار معدني ثقيل يحدث صوتاً هائلاً عند فتح أو غلق تلك الفتحة. يمرر من خلال الفتحة صحن الأكل، كما تستخدم للتواصل مع العسكريين والملثّمين حين يريدون الحديث، كما تستعمل في بعض أساليب التعذيب كالحرمان من النوم، كما سيوضح لاحقاً.
بقيت مع أربعة من رفاقي الذين اعتقلوا معي في ذات الليلة من 17 مارس – 17 مايو 2011م، حيث نقلنا لعنبر رقم 2 ذي الزنازين الكبيرة نسبياً، وبقينا فيها بشكل انفرادي حتى 10 يونيو من العام نفسه. تم نقلنا من عنبر 2 إلى عنبر رقم 1 بزنازين بالحجم السابق تقريباً، ولكن بواقع سجينين في كل زنزانة، حتى تم نقلنا لسجن جو المركزي بتاريخ 28 نوفمبر 2011م.
في عنبر 4 الانفرادي بسجن القرين تعرضت مع رفاقي الأربعة للتعذيب وسوء المعاملة لمدة شهرين كاملين. تناوبت على التعذيب وسوء المعاملة مجموعات مختلفة من الملثّمين، أغلبهم بلباس مدنيّ، إلّا أنّ بعضهم كان يمارس المعاملة اللاإنسانيّة بلباسه العسكريّ لقوة دفاع البحرين.
كان بجانبي في العنبر زنزانة الشيخ سعيد النوري، وإلى جانبها زنزانة إبراهيم شريف، وإلى جانبها زنزانة الشيخ عبد الهادي المخوضر، وأخيراً زنزانة الحر يوسف الصميخ. كنّا نعذب بشكل متسلسل، وكان كل منا يسمع الأذى والضرب والصراخ والكلام البذيء الذي كان يوجه للآخرين في العنبر نفسه. كان المعذّبون الملثّمون يصرّون على أن يرفعوا أصواتهم ليسمعونا ما يحدث مع السجناء الآخرين وما يحدث لهم من سوء معاملة. كانوا يتعمدون استخدام استلال الأصوات والصراخ من بعضنا أثناء الحديث أو ردة الفعل للضرب والتعذيب، يقولون: سمع اللي وياك.. ارفع صوتك”. ويبدأ بالضرب والسب والشتم.
كانت أرضية الزنزانة مغطاة بالسيراميك، وسرعان ما تتغطى بالأتربة التي تدخل من فتحات الباب التي لا تمنع الحشرات البرية. لا يوجد فيها فراش أو أي شيء يمكن أن يسمح للراحة، واستمر ذلك في أول يوم منذ لحظة وصولي للزنزانة قبل وقت الفجر حتّى الظهيرة، حين جلبوا الفراش الإسفنجي القذر، واللحاف القطني النتن والوسادة الوسخة، وقد تم رميها عليّ مع جرعة من السباب والشتم وطلب مني الجلوس حيث كنت واقفاً طوال الفترة الماضية وأنا أواجه الجدار.
طلبت الذهاب للحمام للوضوء والصلاة، لا يوجد نعال ولم يسمح لي بالانتعال حينما اعتقلت. وعند الذهاب للحمام، يأتي عسكريّان ملثّمان، واحد يقف عند باب العنبر الذي يقفل من الخارج فقط، وآخر يسير خلفي وهو شاهر للهراوة وفي وضع الانقضاض والاستعداد للضرب. أدخل الحمام، ويصر العسكريّ على بقائه مفتوحاً أثناء قضاء الحاجة أو استعمال أي من مرافق الحمام، بما في ذلك الاستحمام الذي بدأ بشكل متقطع بعد 11 يوماً من الاعتقال، يصر الحارس العسكريّ الملّثم على الاستعجال مهما كان الظرف والعودة للزنزانة في أسرع وقت.
الحراس الملثّمون لا يتكلّمون معنا، وكانوا يتصرّفون بعدائيّة مفرطة وقسوة، وكان بعضهم يشارك في إحداث الأذى بنا، بل إن بعضهم يبادر بالتعذيب وإلحاق الأذى بنا طوال الفترة التي قضيناها في الحبس الانفرادي، وينتمي الحراس لجنسيات آسيوية وبعضهم من الشام (سوريا).
ومع حلول الظلام، ومن أول يوم في سجن القرين، تبدأ جرعات التعذيب على أيدي مجموعات من الشباب الملثم -بقيادة أحدهم- تقوم بالدخول علينا في الزنازين وتضربنا، تسبنا تشتمنا، تنال من معتقداتنا ورموزنا الدينية، تقوم بالبصق علينا ووصمنا بالخيانة.
إحدى فرق التعذيب أمرت بإيقافي بجانب الجدار (واقف على رجل واحدة ويداي للأسفل) ودون غطاء على وجهي، وأمرهم قائدهم بالنظر للخائن وهو يشير إليّ، وأمرهم بالدخول عليّ فرداً فرداً، ويقوم كل واحد منهم بالبصق في وجهي مع الشتم والوصم بالخيانة، بينما يقول قائدهم: «امسح وجهك.. ماء ورد.. ماء ورد».
فرقة أخرى دخلت عليّ أمرتني بالوقوف مواجها الجدار، وبعد الحديث عن اغتصاب أهلي وبناتي، قال أحدهم: «أريد أن أطأك». وطلب إنزال السروال، فلم أفعل، وكرر الأمر، وكان موقفي نفسه، فقام أحدهم بإنزاله عنوة وتركني هكذا، وخرج الجميع من الزنزانة، فرفعت السروال وسترت العورة. وهكذا توالت عليّ – وعلى رفاقي – فرق التعذيب الذي يستمرّ حتى وقت متأخر من الفجر.
من وسائل التعذيب التي تعرّضت لها في الفترة الأولى أثناء الحبس الانفرادي ما يلي:
1- الوقوف على رجل واحدة لمدة طويلة مع رفع اليدين للأعلى
حيث يتم إرغامي على الوقوف – بدون عكاكيز – لساعات طويلة، وحيث إن رجلي اليسرى مشلولة كما أسلفت، فيصب عبء الوقوف على الرجل اليمنى، بينما أرفع اليدين للأعلى. واضعاً إيّاهما على الجدار. ويستمر ذلك لمدة طويلة تبدأ يداي خلالها بالتنمل والاصفرار والإعياء. كما أحس بالتنمل على طول في الرجل اليمنى. وقد تسبب هذا النوع من التعذيب بتقوس رجلي وتأثر مفصل القدم وكذلك الركبة مع آلام مبرحة فيهما وفي أسفل الظهر.
2- الحرمان من النوم
ويتم ذلك بالوسائل الآتية:
أ- من خلال صبّ الماء البارد عليّ وأنا نائم، أو أن يتم إيقاظي وفي وضعية الجلوس أو الوقوف على الفراش الإسفنجي يصب الماء من أعلى رأسي إلى أسفل جسمي، كما يتم صبه على بقية الفراش وعلى اللحاف وعلى المخدة ثم نؤمر بالنوم على تلك الحالة، ويكون المكيف يعمل في أكبر طاقته حيث الوقت شتاءً. ويشمل هذا النوع من التعذيب الوقوف في زاوية الزنزانة مع مواجهة الجدار؛ حيث يصب الماء من على الرأس وكامل الجسم ثم الإرغام على النوم على أرضية الزنزانة السيراميكية.
ب- الإيقاظ بالقوة ثم أمري بالذهاب للاستحمام وبسرعة بالماء البارد، حدث ذلك في الفترة الأخيرة من الحبس الانفرادي في عنبر 4.
ج- الطرق على باب الزنزانة وعلى الجدار الخارجيّ والرمي بقطعة معدن على أرضية العنبر لإحداث أصوات عالية، ويتم ذلك لمدة طويلة وبشكل متكرر طوال الليل وعلى جميع الزنازين في العنبر.
د- تحريك الجرار الحديدي الموجود في باب الزنزانة بشكل سريع وقوي.
ه- الصراخ بقوة وبشكل قوي يضمن الصحوة وعدم القدرة على النوم أو استمراره.
و- إطفاء الأنوار في ممر العنبر ليصبح المكان داخل الزنزانة مظلما بشكل دامس، وتجلب الكلاب وتُترك تنبح على باب الزنزانة حتّى يخيّل إليك أنّها سوف تدخل وتنقض عليك.
ز- الدخول للزنزانة والضرب والأمر بالوقوف بوجه الجدار مع رفع اليدين لساعات طويلة.
ح- بعض الحراس يوقظك ليسألك إن كنت تريد الذهاب للحمام، وبعد أن تستيقظ يمنعك من قضاء الحاجة ويطلب منك العودة للنوم.
3- الحرمان من التغسيل والسباحة
لمدة 11 يوماً من الاعتقال بقيت بملابس النوم الداخليّة التي كنت فيها؛ حيث منعت من السباحة أو التغسيل، وكنت حافي القدمين حتى اسودت رجلاي، وأصبحت رائحة الجسم نتنة خاصة بعد جرعات صب الماء على الرأس وعلى الفراش واللحاف ومن ثم النوم في تلك الحالة، وتكرار ذلك بشكل شبه يومي. وحتى بعد اليوم الحادي عشر، لم نتمكن من السباحة بشكل منتظم؛ بل يتكرم علينا من يأتي من المدنيّين في الصباح حيث يسمح بالغسل والسباحة، ونبقى مجدداً بدون غسل لعدة أيام قبل أن يسمح بلنا بذلك مرة أخرى، ولبس الثياب نفسها.
4- التعذيب بترتيل السلام الوطنيّ
يدخل المعذّبون، ويطرقون باب الزنزانة مرّات عدّة، ثم يدخلون عليّ ويبدؤون بضربي وإرغامي على ترتيل السلام الوطنيّ. ويجب أن أرتله بطريقة محددة وأن أرفع صوتي وأكرر ذلك حتّى يقول لي كفى. يحدث ذلك وأنا واقف على رجلي الوحيدة ويداي مرفوعتان للأعلى مواجهاً الجدار، ومتى لم تعجب المعذّبين الطريقة أومستوى الصوت، يضربونني ويطلبون أن أعيد الترتيل حتّى يقول لي كفى. بل إن هذا النوع من التعذيب يستعمل لإيقاظي من النوم، فالمعذّب يأتي فقط لكي أرتل السلام ويذهب. كما يطلب مني ذلك في أوقات مختلفة وأمام فرق تعذيب مختلفة وزوار عديدين. في إحدى المرات جاء أحد المعذّبين وكان منفعلاً، وبدأ بأول زنزانة في العنبر، زنزانتي، قائلاً: «إذا لم تتل السلام الوطنيّ عدل بتشوف شغلك». قلت السلام الوطنيّ، وبعد أن انتهيت وأنا واقف ويداي للأعلى، أمر باقي السجناء في العنبر بالتصفيق وقال: «صدق أنقذت روحك».
5- الحرمان من الاتصال بالأهل أو بالمحامي
بعد سبعة أيام من اختطافنا من المنزل في فجر 17 مارس 2011م تم تمكيننا من الاتصال بالأهل لمدة 90 ثانية فقط، حيث أمرنا أن نخبر الأهل بأننا في حالة صحية جيدة وألا نخبرهم بمكان وجودنا أو أيّ شيء آخر. ولم يتم الاتصال مرة أخرى بالأهل إلا بعد يوم من عقد جلسة المحاكمة الأولى التي بدأت بتاريخ 8 مايو 2011م. استمرت المكالمة ثلاث دقائق فقط لإخبار الأهل بتعيين محام لي، حيث حضرت المحكمة ولم يكن هناك محام لي بعد أن تم اعتقال المحامي الخاص بي بسبب مطالبته بالإفراج عنّا في مكان عام.
6- الضرب على أنحاء مختلفة من الجسم
تولّت إحدى فرق الملثّمين مسؤوليّة تعذيبنا بشكل شبه يومي، وكنا لا نستطيع الخلود للنوم إلا بعد قدوم فرقة التعذيب هذه والانتهاء من تجرع التعذيب والضرب والإهانات والسب والشتم. وإذا لم يأت المعذّبون قبل منتصف الليل، فإنهم يباغتوننا قبل الفجر ويستمر تعذيبهم حتى بعد أذان الفجر.
يدخل المعذّبون العنبر بشكل عنيف ويصيحون: «اقعدوا يا قحاب .. نايمين ها الحين نراويكم». وبعد أن ينتهوا من التعذيب، يخرجون من العنبر بعد أن يغلقوا الباب بقوة وعنف فيصدر صوتاً مرعباً، ويصيحون: «ناموا يا قحاب».
يبدأ مسلسل التعذيب بأن يدخل اثنان أو ثلاثة من المعذّبين الملثّمين يقودهم شخص رئيس. وهو معروف من قبل سجناء قرين بصوته وعلائم هيىته، فهو الذي يقرر متى وكيف يبدأ وينتهي التعذيب. يدخلون الزنزانة ويجب الوقوف حال فتحهم لفتحة الباب الحديدي أو دخولهم العنبر أو سماع صوتهم. ويتجرع زيادة في الضرب من يتأخر عن الوقوف ومواجهة الجدار، والأيدي مرفوعة لأعلى الجدار.
يتكاتف المعذّبون بالسباب والشتم والإهانة، سبّ المذهب والسخرية من معتقداتنا. يبدأ المعذّبون بالأسئلة وهم يضربون على الرأس والرقبة والظهر والصدر واليدين والخاصرة باليد، وبالعصا، وبالنعال، ولا يهم ماهية الإجابة فالضرب يستمر، ويزيد الضرب وقسوته إذا تم التأخر في الإجابة أو كانت الإجابة غير ما يريدون أو يتوقعون. يتحول الضرب بقبضة اليد في بعض الأحيان. كل ذلك يحدث أثناء الوقوف على رجل واحدة واليدان على الجدار، والرأس منحنٍ للأسفل، وبعض الأحيان يطلب مني أن أغمض عيني فوق كل ذلك، بالرغم من كون المعذّبين ملثّمين. إلى جانب ذلك، يتم رفسي بالرجل على جانبي يدي وأسفل البطن وعلى خلفي حتى أسقط، ويطلب مني أن أقف مرة أخرى، ويعاود المعذّب ضربي ويتكرر السقوط والقيام.
7- التعرض للمذهب والحرمان من التعبد
في إحدى المرات جاء أحد المعذّبين الملثّمين ويدعى أبو يوسف (كشف لنا عن وجهه لاحقاً، ونستطيع تمييزه) ودخل الزنزانة بغرض أخذ الفراش الإسفنجي واللحاف والوسادة المشبعة بالماء، وهي آثار تعذيب الليل بصب الماء، وذلك بغرض وضعهم في الشمس كي يجفوا، وإذا به يرى قطع إسفنج صغيرة تحت الفراش. صرخ في وجهي وضربني على رأسي قائلاً: «هنا لا تستطيع استخدام الترب، هنا ما في تربة». قلت له: هذه ليست ترب. قال: «بلى أنت تستخدمها مثل التربة».
وهو أبو يوسف نفسه من انقض عليّ في الزنزانة بعصا يلوح بها في يده، وكان ينوي ضربي بعد أن أخبره الحراس بأننا نصوم ونطلب منهم أن يؤخروا العشاء للسحور، وأن يوقظونا قبل الفجر للأسحار. كان يلوح بالعصاة ويقول: «هنا ما في صيام، أنت سجين»، ولم يكفّ عني إلا بعد أن أخبرته بأني توقفت عن الصيام. وقد تكرر الأمر نفسه مع الشيخ سعيد النوري الذي كان يشاركني الصيام أياماً عدّة. وقد تكرر أكثر من مرة أن يتعمد الحراس أن لا يوقظونا للصلاة في الفجر بالرغم من طلبنا قبل النوم، فهم من يسمع صوت الأذان في الخارج ومن لديهم معرفة الوقت.
8- السبّ والشتم وسماع معاناة الآخرين
كان المعذّبون يسبونني بشكل دائم، ويتعرضون لوالدتي ووصمها بالعهر ويصفونني بابن الزنا، نغل، ابن متعة… كانوا يصفوني بالخيانة وعدم الولاء للوطن، وكانوا يتعرّضون لزوجتي وبناتي بالقدح والكلام البذيء.
في الآونة الأخيرة دأب المعذّبون على إهانة أحدنا ويجعلون من ذلك ما يضحكون منه، ثم يطلبون من جاره في الزنزانة المجاورة أن يقول تلك الإهانة أو السخرية، ويكون ذلك على مسمع من الجميع. وقد حدث ذلك الأمر مع الحر في الزنزانة الخامسة؛ حيث أرغم على السخرية من جاره الشيخ عبد الهادي المخوضر، كما أرغم الشيخ المخوضرعلى قول كلام بحق جاره إبراهيم شريف. كما طلب من إبراهيم شريف أن يسخر من نفسه، وطلب من الشيخ النوري أن يسخر من إبراهيم شريف، كما طلب من الشيخ النوري أن يقول كلاماً بحق نفسه وجاره. وكان المعذّبون أثناء ذلك يضحكون بأعلى أصواتهم.
وممّا كان مثيراً للألم سماع تلك الإهانات والسخرية، كما تسمع صرخات من يتم تعذيبهم وضربهم في الزنازين المجاورة كما يسمع أولئك معاناتك. وقد حدث الشتم والسخرية في حضور المدعو أبو يوسف وكذلك شخص آخر يعرف بأبي راشد، وهو لم يؤذنا ويعرف بكثرة تلاوته للقرآن، كان ملثّماً طوال الوقت.
9- الحرمان من الشمس والتشمس
ففي الفترة التي قضيناها في الحبس الانفرادي والتي استمرت حوالي ثلاثة أشهر، لم يسمح لنا بالمشي في الساحة والتعرّض للشمس إلا لفترات وجيزة جداً، وكان بعضها لدقائق وفي وقت متأخر من الليل أو بعد غروب الشمس.
10- الضمادة والكيس العازل (الخيشة)
منذ أن وطأت أرجلنا سجن القرين العسكريّ وحتى وقت قصير من مغادرته، كان الأسلوب المتّبع في أخذنا من الزنزانة هو -إضافة للقيد الحديديّ- تعصيب العينين بضمادة سوداء وبعض الأحيان برباط متين ومشدود. وفوق كل ذلك يوضع كيس من الخيش على كامل الرأس، يمنع من الرؤية ويعطي إحساساً بالاختناق وعدم القدرة على التنفّس، بل أكثر.من ذلك؛ حيث تجعلك دائماً في وضع مخيف من عدم القدرة على إدراك ما يدور حولك أو ما سوف يحدث لك، ناهيك عن عدم القدرة على التنفس بشكل طبيعيّ والتعرّق المؤذي. ويشمل لبس الضمادة والكيس الخروج من الزنزانة للتحقيق أو غيره، إضافة للخروج من سجن القرين للنيابة العسكريّة أو غيرها. بالنسبة إليّ وبسبب استعمال العكاكيز للحركة، يوضع القيد في الباص عند الانتقال من النيابة العسكريّة والمحكمة وإليهما، إلّا أنّ ذلك الأمر توقّف مؤخّراً.
11- الحرمان من المسلتزمات الطبيّة
مثل العكّاز والنظارات الطبّيّة، والعلاج؛ فمنذ إدخالي الزنزانة في العنبر الانفراديّ، حرمت من العكّازات التي تمكّنني من الوقوف والحركة، وتعطى لي وقت الخروج من الزنزانة، سواء للذهاب لقضاء الحاجة أو التحقيق داخل سجن القرين أو خارجه أو المحاكمة. فبعد أن يتم تعصيب العينين ووضع الخيشة على الرأس، يتم إعطائي إيّاها، وتؤخذ بعد العودة وانتهاء المهمّة. وكان ضمن ما تقوم به فرقة التعذيب لإيذائي هو إرغامي على الحبو والتندر أثناء ذلك المشهد.
أمّا عن النظارة الطبيّة فقد رفض أفراد الأمن الوطنيّ والجيش -الذين هجموا على منزلي واقتادوني بقوّة السلاح وأنا بملابسي الداخليّة- أن آخذها معي، ولم يسمح لي بالحصول على النظّارة إلّا بعد الشكوى عند النيابة العسكريّة ومضيّ أكثر من شهر على الاعتقال. تركت النظّارة معي مدّة أسبوع، وكان المعذّبون يرفضون أن ألبسها بوجودهم، حتّى لا أتعرّف عليهم بأيّ صورة كانت. ففي إحدى الليالي، قامت إحدى فرق التعذيب بمصادرة النظارة مرة أخرى بعد وجبة تعذيب وصب الماء على رأسي وكل أنحاء جسمي، وإرغامي على الوقوف في زاوية من الزنزانة وأنا في ذلك الوضع حتّى أرغمت على النوم مكاني على أرضيّة الزنزانة السيراميكيّة.
ولم تُرجع لي النظّارة إلّا بعد أيام من أخذها، أصبت حينها بآلام في الرأس بسبب عدم استعمالها لفترة من الزمن. وحين انكسرت النظّارة، لم تأبه إدارة سجن القرين في اتخاذ الخطوات السريعة للحصول على أخرى، ولم يحدث ذلك إلّا بعد الشكوى لدى النيابة العسكريّة. أمّا مستشفى قوّة الدفاع، فلم يقم القسم الخاص بعناية العيون بأخذ الفحوصات اللازمة للنظر، واكتفى بالقياس وهو أمر لا يتبّع في مراكز العناية بالعيون.
وأمّا عن الحاجة للعناية الطبيّة، فلم يتم توفيرها بالشكل المطلوب، فقد اشتكيت من التنمل في اليدين والرجل، ومن الآلام في الضلع الأسفل جهة اليسار، وكذلك في الظهر وفي أسفل الكتف الأيمن، فلم أحصل سوى على بعض المسكّنات من قبل الممرّضين، الذين كانوا ملثّمين، ويتردّدون علينا بين الفينة والأخرى.
12- الأكل السيئ وقلّة الماء والشراب
قامت إدارة سجن القرين بتوفير ثلاث وجبات فقط، لكنّها كانت تستعمل في بعض الأحيان كجزء من العقاب من خلال تأخير تقديمها. كما تميّزت تلك الوجبات بالرداءة نوعاً وكمّاً، فهي لا تحوي الاحتياجات الغذائيّة المطلوبة لتوفير الطاقة والحماية للجسم. وبسبب الشحّ في توفير المياه الكافية للشرب، وقلّة الأكل ورداءته فقدت أكثر من 10 كغ بشكل سريع، وكنت لا أستطيع أن أسير بالبنطلون الذي تم إدخاله لي لاحقاً إلّا بعد ربطه بخيط أحكمه حول خصري. ويتم توفير هذا الخيط من قبل ملثّمين، ويتم استعادته بعد عودتي من الخارج وخلع البنطلون الذي كان ضيّقاً على جسمي قبل الاعتقال.
ما سبق هو مجمل ما أتذكّره من تعذيب وسوء معاملة.
التحقيقات: الجهات والانتهاكات
تعرّضت للتحقيق من قبل أربع جهات مختلفة: اثنتين داخل سجن القرين العسكريّ، واثنتين خارجه، أحدهما في فيلا خاصة. وقد لازم التحقيقات المعاملة اللاإنسانيّة والتعذيب الجسديّ والنفسيّ.
1- التحقيق من قبل جهاز الأمن الوطنيّ – سجن القرين
تمّ التحقيق معي من قبل محقّقي جهاز الأمن الوطنيّ في جلستين (اليوم الثالث والخامس من الاعتقال)، حيث أُخذت من الزنزانة، بعد جرعات من التعذيب لأيام وليالٍ ثلاثة تعرّضت فيها للمعاناة والأذى والترهيب وسوء المعاملة، وأنا بثيابي الداخليّة التي تمّ خطفي بها، حافي القدمين، وبعد أن تم تعصيب عيني بالضمادة السوداء وإلباسي الكيس العازل (الخيشة).
قبل البدء عرّف المحقّق نفسه، وقد ميّزت صوته، فقد كان أحد المحقّقين الأساسيّين الذين قاموا بالتحقيق معي وضربي وتعذيبي أثناء التحقيق معي في قبو (سرداب) جهاز الأمن الوطنيّ في القضيّة السابقة. وقام بتذكيري بما تعرّضت له في ذلك التحقيق وتلك الأيام العصيبة التي مررت بها في القلعة، وأنّه إذا لم أتعاون سيتمّ تشغيلي كالسيّارة، في إشارة للصعق الكهربائيّ، وقد استعرض معي بعض الكلمات التي ألقيت في الدوّار (دوار اللؤلؤة)، وكان يسألني عن القصد من وراء بعض التعابير فيها، وكان يحاول إرغامي على قول ما لم أقصده. وكان حينما لا يسمع ما يريد، يذكّرني بما سبق من معاملة في القضيّة السابقة، ويقول لي: «تكلم عدل أو أخلي الشباب ما يخلونك تنام الليلة»، وكذلك قال: «تكلم عدل لا أضربك سلف الصوت الذي يخرج عند تشغيل السيارة».
بعد جلستين، جاء اثنان من المحقّقين الملثّمين من أفراد جهاز الأمن الوطنيّ ومعهم أفراد الحرس العسكريّ إلى زنزانتي، وأرغموني على التوقيع على إفادة تمّ تجهيزها مسبقاً، وكان يقول لي كبيرهم: «توقع لا أدوس في بطنك». وقد أخبرت النيابة العسكريّة أثناء التحقيق معي بخصوص البراءة من تلك الإفادة ومما جاء فيها، وقد تم توثيق ذلك في المحضر الخاص بالنيابة العسكريّة.
2- التحقيق من قبل النيابة العسكريّة خارج سجن القرين
تمّ التحقيق معي من قبل النيابة العسكريّة في جلستين، الأولى بتاريخ 29 مارس، والثانية بعد أسبوع من ذلك التاريخ. تخلل ذلك التعذيب وسوء المعاملة في مبنى النيابة العسكريّة نفسها، وكذلك في سجن القرين بالرغم من إخطار رئيس النيابة بذلك منذ الجلسة الأولى.
فبعد أسبوعين من اعتقالنا ودون الوصول أو التواصل مع العالم الخارجي بما في ذلك المحامي الخاص بي أو الأهل، أُخذت بشكل مرعب لمبنى النيابة العسكريّة خارج سجن القرين. فقد تم توفير بيجاما لي ونعال مطاطي للحمام، وسمح لنا بالاستحمام بعد 11 يوماً من الاعتقال والتعذيب. وضعوا ضمادة العين ذات الطبقتين والكيس العازل (الخيشة)، وأخذت بعنوة للباص الذي أقلّني إلى مبني النيابة بعد أن قيّدوني بالقيد الحديديّ بشكل قاس وتضييقه حول المعصمين، الأمر الذي كان واضحاً من خلال الآثار البارزة التي تركها القيد على اليدين، وقد وثّق المحامي هذه الحالة حين التقى بي عند رئيس النيابة العسكريّة.
بعد وصولي لمبنى النيابة العسكريّة، تم جرّي من الباص وأنا مقيّد بالقيد الحديديّ، وكان هناك من يضربني على رأسي بعقب سلاح أو بهراوة، إضافة للضرب بقبضة اليد وراحتها على الرأس والوجه وخلف الرقبة، كما استمرّ توجيه السبّ والشتم لي أثناء ذلك. أخذت لمكان الانتظار وكانت الأغاني تصدح بشكل كبير في المبنى، وبينها السلام الوطنيّ الذي متى ما جاء دوره في سلسلة الأغاني المتكررة، يتم إرغامي على الوقوف وأنا مقيّد اليدين ومغطى الرأس بالخيشة، يسبقه الضرب على الرأس. ويتكرر هذا الأمر كلما جاء دور السلام الوطنيّ.
أخبرت رئيس النيابة العسكريّة بما حدث لي من تعذيب وسوء معاملة في سجن القرين، ونزعت قميصي بحضور المحامي الأستاذ محمد التاجر؛ لأكشف عن مواقع الإصابات على جسدي في الأضلاع، والعضد الأيمن، وفي المعصمين. كما أخبرته عمّا أتعرّض له وبقيّة السجناء في العنبر نفسه من تعذيب وسوء معاملة. لا ينزع القيد الحديديّ أو الخيشة التي تكوم فوق الضمادة على العينين إلّا حين الدخول على رئيس النيابة العسكريّة، ومتى ما أخرج من ذلك المكتب يعلد تعصيب العين وتغطية الرأس والتقييد بالقيد الحديديّ. وفي مكان الانتظار تبدأ المعاملة اللاإنسانيّة والإهانات والضرب من العسكريّين الموجودين هناك.
في اليوم التالي من الذهاب للنيابة العسكريّة، جاء إلى زنزانتي شاب أسمر اللون ملثّم وطويل القامة يرتدي لباساً عسكريّاً، فدخل الزنزانة وأمرني بالوقوف، وقام بضربي على الوجه وذلك – بحسب قوله – أن هناك شكوى بالتعذيب عند النيابة العسكريّة. اتضح لاحقاً أنّي لست الوحيد من رفاقي في العنبر مَن أخبر النيابة العسكريّة بما تعرّض له من تعذيب وسوء معاملة في سجن القرين العسكريّ.
وجاءت مساءً في ذلك اليوم فرقة التعذيب التي التزمت بتعذيبنا حتّى 10 يونيو 2011م؛ حيث قامت بضربنا بشكل جماعيّ وشتمتنا بشتّى الشتائم، وتمّ تهديدي بتجرّع الألم بما في ذلك الاعتداء الجنسيّ والصعق الكهربائيّ إذا ما ذكرت تعرّضي للتعذيب حين أُسأل عن المعاملة. وقد شارك في هذا الأمر المدعو «أبو يوسف» وكذلك أحد الممرّضين الذين تناوبوا على زيارتنا.
تكرر سيناريو سوء المعاملة والضرب في مبنى النيابة العسكريّة، وقد كنت أسمع صوت الطائرات العسكريّة بالقرب من المبنى. وذلك قبل حضور جلسة التحقيق الثانية وبعدها. قد حضر معي في الباص نفسه الشيخ عبد الجليل المقداد والذي تعرّض للمعاملة السيّئة ذاتها، وللضرب على الرأس بالهراوة أو عقب البندقية، وبراحة اليد وقبضتها بشكل متكرر، بحيث أحدثت تلك الضربات انتفاخا مؤلما في فروة الرأس. كما شمل الضرب الوجه والرقبة، وكيل الشتائم والكلام البذيء.
3- التحقيقات من قبل المخابرات العسكريّة داخل سجن القرين
وقد تم ذلك من خلال جلستين عقدتا في سجن القرين وكانت في النهار. قبل أن يأخذوني للتحقيق، جاء أحدهم وكان شاباً صغير السنّ، وكان ملثّماً، طلب الهراوة من الحارس العسكريّ الموجود في العنبر فأعطاه إيّاها، فضرب على باب الزنزانة وطلب منّي الوقوف. دخل الزنزانة وقال لي وهو يضرب بالهراوة على يده الأخرى: «ها سنكيس، تعرف هذه شنو؟ بناخذك للتحقيق، وبتعيد نفس الكلام اللي في الإفادة اللي قدمتها». قلت له: «لا أعرف ما الموجود في الإفادة». قال: «إحنا بنذكرك». كان المحقّقون ملثّمين (ثلاثة في الجلسة الأولى واثنين في الجلسة الثانية). كان أحدهم -وهو الشخص نفسه الذي حضر لي الزنزانة- يقف على رجليه بين الفينة والأخرى، ويسبّني ويسبّ والدتي، ويهدّدني بأهلي وبناتي. كان يهمّ بالهجوم عليّ بنعاله، إلّا أنّ المحقّق الأساسيّ -الذي ينادونه «بالشيخ»- كان يوقفه، ويقول له: «ما يحتاج.. بيتعاون .. بيتعاون»، سألتهم إلى أيّ جهاز ينتمون، فقال لي «الشيخ»: «مو شغلك».
لم يتم توقيعي على أيّ إفادة، بل تم عرض بعض المشاهد من الفيديوهات والصوتيات والمقابلات الصحفيّة.
في الجلسة الثانية، كان الشاب الذي يمارس السبّ والتهديد والشتم قد ذكر بأنني يجب أن أعدم مثلما أعدم علي السنكيس، وذلك بعد صدور حكم درجة أولى بالإعدام في القضيةّ الأولى فيما عرف بقضايا السلامة الوطنيّة. وكان يشير إلى أنّه تم تنفيذ الحكم بعلي السنكيس، وأنّني سوف أتبعه؛ أي سأعدم أيضاً.
4- التحقيق من قبل ممثل الديوان (خارج سجن القرين)
تعرضت للتحقيق في فيلا خاصة خارج سجن القرين (مسافة 15-20 دقيقة) بالسيارة؛ حيث يتم تصميد عيني وإلباسي الخيشة على الرأس في وقت متأخر من الليل (حوالي منتصف الليل). قبل الذهاب يتم حلاقة شعري وإظهاري بنفس المظهر الذي أظهر به حين كنت خارج السجن. يقوم أربعة شبان باستلامي من بوابة سجن القرين ويستقبلوني بالشتم والسباب، وتبدأ الرحلة بالضرب على الرأس والوجه والرجل، الاستهزاء والتحقير من المعتقدات والمذهب، التحرش الجنسيّ والتعرض بكلام بذيء جداً – يقشعر منه الجلد – عن ابنتي وزوجتي. ويتم ذلك في الذهاب والإياب الذي يكون بحلول الفجر.
حدث التحقيق في جلستين منفصلتين، واحدة في الأسبوع الأول قبل بدء المحاكمة العسكريّة، والثانية في نهاية الأسبوع الأول منها. يقوم بالتحقيق شاب صغير السن بلباس مدني (ثوب وغترة) وقد عرّف نفسه بأنه الممثل الشخصي للملك. عرفت من رفاقي الآخرين أنه تم التحقيق معهم مدّعيا أنه الشيخ صقر آل خليفة (من الذين تم التحقيق معهم من قبل نفس الشخص الأستاذ عبد الوهاب حسين، الأستاذ حسن مشيمع، الأستاذ عبد الهادي الخواجة، الشيخ عبد الجليل المقداد). كان الحديث يتمحور حول محاولة إرغامي على تقديم اعتذار عما حدث وتلاوة إفادة معدة سلفا ومكتوبة على شاشة أقرأها أمام كاميرا. وهو أمر رفضته بشكل قاطع. وقد تم تهديدي قبل الجلسة الثانية وأنا على الأرض بضربي وتعذيبي إذا لم أستجب لما يقوله أو يطلبه «الشيخ». انتهت الجلسة الثانية بعد أكثر من ثلاث ساعات من التحاور والحديث مع الشيخ صقر آل خليفة، ولم يتم استصدار أي اعتذار مني بأي صورة كانت، كما لم أتل أو أقدم أي إفادة بأي صورة كانت.
المحاكمة العسكريّة: الانتهاكات والظروف
عشيّة الجلسة الأولى للمحاكمة العسكريّة (درجة أولى) بتاريخ 7 مايو 2011م جاءنا الملازم أول عبدالله من النيابة العسكريّة، وأعطانا لائحة الاتهام، وأخبرنا بموعد الجلسة وهو صباح اليوم التالي 8 مايو 2011م. الملازم عبدالله كان الوحيد الذي كان كاشف الوجه من الذين زارونا لحدّ تلك اللحظة، حتى تاريخ 10 يونيو 2011م. فلقد كان الجميع ملثّمين: الحرّاس، والممرّضون، والأطبّاء، والإداريّون، والطباخون، إضافة إلى شخصيات أخرى بلباس مدنيّ وأخرى عسكريّ، وكلها إما تضع لثاماً يغطي كل الرأس والوجه، أو جزء من الوجه لإخفاء ما يمكن أن يشير إلى هويتها.
فمنذ الاعتقال في 17 مارس وحتى 7 مايو 2011م (حوالي 50 يوماً) لم نكن نعلم ما هي التهم التي سوف نحاكم على أساسها، ولم نلتقِ بالمحامي الخاص بنا، ولم يكن لدينا سوى أقل من 12 ساعة فقط من علمنا بالتهم لتبدأ محاكمتنا.
بدأت الجلسة الأولى ولم يكن للبعض منّا محامٍ، ما اضطر القاضي العسكريّ المقدّم منصور إلى تأجيل الجلسة حتّى 11 مايو (ثلاثة أيام فقط) ليتم الاتصال بالأهل ويتم تعيين محام. وهكذا تم دون أن يتمكّن أيّ محام من الحصول على ملف القضيّة بشكل كامل، إلّا في الأسبوع الثاني من المحاكمة التي دامت ثلاثة أسابيع فقط قبل أن تنتهي جلساتها (8 مايو – 1 يونيو 2011م) قبل جلسة النطق بالحكم بأحكام وصلت للسجن مدى الحياة في 22 يونيو 2011م.
فجلسات المحاكمة العسكريّة لنا -نحن المدنيين- استمرت 3 أسابيع فقط (بمعدل جلسة أو اثنتين كل أسبوع) ولم يتم تمكين المحامين من تقديم المرافعات الشفهيّة، وأعطاهم القاضي مهلة أسبوعين حتى 15 يونيو -أي بعد أسبوع قبل النطق بالحكم- لتقديم المرافعات المكتوبة.
لم يمكنّا القاضي -أنا ومن معي في القضيّة- من الالتقاء بالمحامي بشكل كاف، كان اللقاء لا يزيد على ربع ساعة بعد انتهاء الجلسات، كما يشمل لقاء الأهل الذين كانوا قلقين علينا حيث انقطعت أخبارنا عنهم منذ اختطافنا من منازلنا في 17 مارس 2011م.
لم يسمح القاضي العسكريّ لأيّ منّا بالحديث عمّا تعرّضنا له من تعذيب وسوء معاملة أثناء الاعتقال والتحقيق والاحتجاز. كما لم يستجب لطلبات المحامين التي يمكن أن تحسّن من الوضع القانوني وتصحيح الصورة التي رسمتها -بشكل سيئ- النيابة العسكريّة التي تنصلت هي الأخرى من تحقيق دور الخصم الشريف والنزيه. فقد اعتمدت النيابة العسكريّة والقاضي العسكريّ على الاعترافات التي تم استلامها من خلال الإكراه والتعذيب وأجواء الرعب والترهيب التي خلقتها أجهزة الأمن والاستخبارات (الأمن الوطنيّ – الداخلية – الجيش). كما استندت إلى شهادات أفراد جهاز الأمن الذين مارسوا التعذيب، وكذلك على مصادرهم السريّة غير معروفة الهوية.
كلّ ما سبق يدلّل على افتقار المحكمة العسكريّة لكل مبادئ المحاكمة العادلة، وكان جلياً من سرعة المحاكمة وعدم الالتفات لطلبات المحامين وجود أحكام جاهزة للمجموعة المراد إلحاق أقسى العقاب والأحكام بسبب مواقفها وأنشطتها السياسيّة والحقوقيّة.
أمّا المعاملة المصاحبة للمحاكمة فقد شملت الانتهاكات التالية:
1- تعصيب العينين ووضع الخيشة والقيد الحديديّ، من الصباح الباكر في سجن القرين وحتى العودة له ما بعد الظهيرة (وصلت بعض الحالات إلى 8 ساعات تقريبا)، ولا ترفع القيود والضمادة والخيشة إلّا قبل دخول صالة المحكمة، أو للالتقاء بالمحامي والأهل، والتي لا تتجاوز مجموع تلك اللحظات الساعة الواحدة على الأكثر، نظلّ ما عدا ذلك محبوسين في القيد والكيس العازل (الخيشة).
2- المعاملة السيّئة من قبل الشرطة العسكريّة: فإضافة للقيود الحديديّة والضمادة على العينين والخيشة على الرأس، نعامل بشكل لا إنسانيّ وقاسٍ، سواء أثناء وجودنا في الميني باص القفص، أو في غرفة الانتظار الموجودة خارج مبنى القضاء العسكريّ (كأبنية الانتظار). كما نحشر جميعاً (14 فرداً إضافة للعسكر) في غرفة صغيرة. ويرغم أغلبنا -في الوضع المقيد– على الجلوس على الأرض ،عدا فرد أو اثنين يسمح لهم بالجلوس على كرسي نظرا لوضعهم الصحيّ مثل حالتي.
يتعرّض الجميع للأذى من خلال القسوة في التعامل والتضييق في الذهاب للحمام لقضاء الحاجة، وعدم توفير مياه صالحة للشرب (مياه من الحنفية) كما يسمح بشرب كميات قليلة من الماء ومشاركة الجميع في قنينة واحدة.
3- الضرب والإهانات في غرفة الانتظار المجاورة لصالة المحكمة، وقامت الشرطة العسكريّة بدفعنا بقوّة وضربنا بعد النطق بالحكم وبعد أن قلنا بشكل جماعي: «سلميّة.. سلميّة.. شعب يطلب حريّة». تم إخراجنا من مبنى المحكمة، وتقييدنا وتوجيهنا إلى الجدار، ثم الاعتداء بشكل عشوائي على الجميع بالضرب على الرأس بالهراوة والركل والرفس على الخلفية والظهر، إضافة لتوجيه الكلمات الجارحة والشتم. وبعد فترة لا تقل عن نصف ساعة حيث كنا واقفين تحت أشعة الشمس الحارقة، تم أخذنا بقسوة إلى غرفة الانتظار خارج مبنى القضاء العسكريّ (الكابينة)؛ حيث حشرنا مع سجناء آخرين، وتم تعنيف الجميع بالرفس على الظهر، والضرب على الرأس والرقبة، وإلزام الجميع بالنظر لأسفل لمدة طويلة. وما أن يحاول أحد منا النظر لأعلى أو تحريك رأسه، حتّى يتمّ ضربه وإهانته وتحقيره أمام الجميع.
ورغم علم النيابة العسكريّة بالأمر، إلّا أنها لم تحقق في القضيّة -قضيّة الاعتداء والضرب من قبل العسكريّين علينا- لعدم كفاية الأدلّة كما ادعت. وتجدر الإشارة إلى أنّ الأمر حدث في وضح النهار وأمام الجميع (العسكريين وسجناء آخرين في قضايا أخرى).
وفيما يخصّ المحاكمة:
1- أؤكد تعرّضي للتعذيب والمعاملة اللاإنسانيّة أثناء القبض والاعتقال -والذي حدث دون أمر قبض قضائيّ- وأثناء التحقيقات المختلفة التي تمت معي، وأثناء التوقيف والاحتجاز قبل المحاكة العسكريّة، وأثناءها وبعدها. وقد تمّ فحصي من قبل الأطبّاء الشرعيّين التابعين للجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق، وتم إدراج حالتي في الإفادات في آخر تقرير اللجنة في الحالة رقم 7.
2- أؤكد إرغامي على التوقيع على إفادة جاهزة من قبل جهاز الأمن الوطنيّ، ومحاكمتنا عسكرياً ونحن مدنيين، ولم يسمح للمحامي باستنفاذ الوسائل المتاحة قانونياً لأيّ متهم.
ولهذا فالمحاكمة التي سلفت جلساتها التي لم تتجاوز مدتها 3 أسابيع قبل جلسة النطق بالحكم، قد خلت من مبادئ المحاكمات العادلة بحسب المعايير الدوليّة، واتصفت بالعداء وعدم النزاهة، وقامت بمصادرة حقوق المتهمين بدلاً من تثبيتها ورعايتها. ناهيك عن الخلل والانتهاكات التي تمّت أثناء القبض والتحقيق والتي انتهكت من خلالها القوانين المحليّة والدوليّة، والتعرّض للتعذيب المفضي للإكراه والإجبار على الاعتراف والتوقيع على الإفادات الجاهزة سلفاً. وبناءً على ذلك، فإنه كان من الواجب إسقاط حق التقاضي وإسقاط – تباعاً لذلك – كل التهم، بغضّ النظر عن جدية هذه التهم وحقيقتها.
من جانب آخر، وكما أسلفت فإن هذه المحاكمات لم تكن الأولى التي يعمل من خلالها النظام على تغييب من يعبر عن مواقفه في العلن في قضايا الشأن العام (الدستور – المشاركة في صناعة القرار – المطالبة بالتوزيع العادل للثروة – محاربة الفساد والفاسدين وتقديمهم للمحاكمة – الحكومة الديموقراطيّة المنتخبة -المجالس التشريعيّة الكاملة والمستقلّة – مناهضة التمايز والتمييز والتهميش – استعادة الأراضي والجزر المنهوبة – استعادة المال العام المسروق – مناهضة مشروع تغيير التركيبة السكانيّة والمهنيّة- التجنيس السياسيّ- احترام حقوق الإنسان وصونها… وغيرها من المواضيع) وتجريمه.
لجنة بسيوني تقرّ
ولأنّنا -أنا ومن معي- نعبّر عن رأينا في قضايا الشأن العام فقد تم استهدافنا بشكل ممنهج، واستخدمت القوانين والأجهزة الأمنيّة والقضائيّة -التي تخضع لإرادة النظام وتوجيهه- لحبسنا وتغييبنا ظناًّ منها أنّ هذا الأمر سوف يحل الأزمة السياسيّة والحقوقيّة في البلاد. وقد أقرّت اللجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق هذه الحقيقة في الفقرة 1279 من تقريرها إلى: «إن حكومة البحرين استخدمت مواد القوانين المحليّة لمعاقبة وردع المعارضة السياسيّة».
كذلك في الفقرة 1280 من التقرير والتي تشير إلى: «إن تطبيق القوانين المحليّة ضد أصحاب الرأي المخالف لا يتسق مع أحكام القانون الدوليّ لحقوق الإنسان. أمّا عن ممارسة حريةّ التعبير، فهي حقّ مشروع بحسب المواثيق الدوليّة التي انضمّت لها البحرين، وتشمل كما جاء في الفقرة 1281 من تقرير لجنة التقصّي: “الآراء التي تعبر عن معارضة نظام الحكم القائم في البحرين، والآراء التي تدعو لأيّ تغيير سلميّ في بنية الحكم أو نظامه أو تدعو إلى تغيير النظام”.
إنّ تقرير لجنة التقصّي الذي وعد النظام في مواقع مختلفة ومن خلال رموزه بالالتزام بما جاء فيه قد عدد صوراً مختلفة لممارسة حريّة التعبير وتشمل: (الإشارة لفقرات من تقرير اللجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق)
أ- حيازة أو توزيع مواد تدعو إلى إسقاط النظام (الفقرة 1257).
ب- إلقاء الخطب وكتابة المقالات (الفقرة 1258- أ).
ج- تنظيم الإضرابات والدعوة لها (الفقرة 1258- ب).
د- الدعوة والمشاركة في التجمعات والتظاهرات ( الفقرة 1259).
ه- انتقاد ممارسات السلطة (الفقرة 1261).
و- كتابة التقارير ونشرها (الفقرة 1261).
ز- دعوة الآخرين وتشجيعهم وحضهم على حضور مظاهر الاحتجاج والاعتصامات (الفقرة 1260).
أليست هذه صور حرية التعبير التي تمّ اتهامي -واتهام النشطاء الآخرين- بها في هذه المحاكمة والمحاكمات السابقة؟! هذه محاكمة ضمير ومواقف عبّر أصحابها عنها بكل سلمّية وعلانية.
وبناء على ما سبق، فإنّ لجنة التقصّي قد أوصت بإلغاء الأحكام والعقوبات التي صدرت بحق جميع الأشخاص الذين اتهموا بارتكاب أعمال ذات صلة بحريّة التعبير السياسيّ، كما جاء في الفقرة 1291 من تقرير اللجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق، بل إنّ الفقرة 1285 أشارت في أسفل الصفحة التي جاءت فيها، رقم الإشارة 629footnote «حكومة البحرين قد أسقطت التهم التي بنيت على مواد القانون الخاصة بحرية التعبير في حق المجموعة «14» التي أدينت في محاكم السلامة الوطنيّة».
ولكن لحد الآن فإنّ السلطة تتنصّل من التزاماتها تجاه المواثيق الدوليّة التي انضمّت إليها، وكذلك مما جاء في تقرير لجنة التقصّي فيما يخصّ الإفراج عن سجناء الرأي المخالف ومعتقليه، والذي ينطبق علينا وعلى جميع سجناء الاحتجاجات الشعبيّة منذ فبراير 2011م وما تلاه.
لماذا استهدفنا النظام؟
أما لماذا حكم علينا النظام عبر أجهزته القضائيّة بالسجن المؤبّد؟ فالإجابة على هذا السؤال تكمن في المواقف والأنشطة التي شاركنا فيها والمطالب التي رفعناها واعتبرها النظام منطقة محظورة وخطوطاً حمراء تمّ تجاوزها.
من هذه المطالبات والأنشطة التي فبرك على أساسها النظام كل التهم في هذه القضيّة وكذلك القضايا السابقة:
- العريضة الأمميّة التي وقّع عليها أكثر من 83 ألفاً من البالغين يطالبون فيها بكتابة دستور ديموقراطيّ عصريّ للبحرين، دستور من الشعب للشعب وليس من الملك للملكNOT FROM KING BY KING FOR PEOPLE BY PEOPLE
- العريضة الشعبيّة التي وقّع عليها أكثر من 54 ألفاً من البالغين يطالبون بتنحّي رئيس الوزراء الحالي، وبحكومة ديمقراطيّة منتخبة من خلال آليات التداول السلميّ للسلطة.
- عريضة شعبيّة وقّع عليها أكثر من 33 ألفاً من البحرينيّين يطالبون بمحاكمة المعذّبين والمسؤولين عنهم والمتورّطين في التعذيب، وإلغاء قانون حماية الجلّادين المرسوم بقانون 56 للعام 2002، كما تطالب بتأهيل ضحايا التعذيب وجبر ضررهم.
- المطالبة بإيقاف مشروع تغيير التركيبة السكانيّة والمهنيّة في البحرين والمعتمد على منح الجنسيّة البحرينية بشكل استثنائي لحاملي جنسيّات أخرى من خلفيّة مذهبيّة وثقافيّة معيّنة، ووقف مشروع الجوازات العابرة للحدود.
- المطالبة بإيقاف برنامج التمايز والتهميش وكلّ أنواع التمييز الطائفيّ والقبليّ والطبقيّ والجندريّ المعتمد في مؤسّسات الدولة وهيئاتها.
- المطالبة باسترجاع الأراضي العامة (في اليابسة والبحر وكذلك الجزر المنهوبة إلى الملكيّة العامة).
- المطالبة بالتوزيع العادل للثروة -دون تمييز- ومحاربة الفساد الماليّ والإداريّ المتغلغل في الأجهزة الرسميّة ومحاكمة الفاسدين بغضّ النظرعن نسبهم ومواقعهم.
- المطالبة باحترام الحريات العامة وحقوق الإنسان وصونها،من خلال الممارسة والتشريع ومواكبة ذلك بالعهود والمواثيق الدوليّة.
هذه الملفات والمطالبات الأساسيّة التي طالبنا بها وطالب بها النشطاء ومن خلفهم القواعد والمجاميع الشعبيّة من شعب البحرين، بكل الوسائل السلميّة والحضاريّة.
ولكن الآذان صماء والقلوب غير واعية، وبدلاً من الاستجابة لهذه المطالب المحقّة، تم تحريك الماكينة الإعلاميّة والأمنيّة بكلّ الصلاحيات المفتوحة لها. وتعرضنا خلال ذلك للاستهداف بكل عناوينه بما في ذلك الاعتقال والتعذيب، والتهم الكيديّة المفبركة، والمحاكمات الصوريّة المفضية إلى أحكام جائرة بالسجن، إضافة للقذف وتشويه السمعة لي ولعائلتي، بغرض إحكام القبضة وإخراس كل من تسوّل له نفسه الحديث أو التعبير عن رأيه في هذه القضايا.
الموقف الشعبي (تغيير النظام)
ولما لم يستمع النظام لهذه المطالب الشعبيّة عبر العرائض والاعتصامات والاحتجاجات الشعبيّة السلميّة، وأصرّ على مواجهة قبضات الأيادي بالرصاص وكل أسلحة الفتك ووسائل التعذيب والقتل والعقاب الجماعي، أيقنت القواعد الشعبيّة أنّ النظام غير راغب أو غير قادر على التغيير ومواكبة المطالب الديمقراطيّة، فجاءت المطالبات بأن يتغيّر النظام؛ فالشرعيّة لأيّ نظام تستمدّ من القواعد الشعبيّة، وعندما لا يستمع النظام لمطالب الشعب، بل يستخدم كل وسائل العقاب وأسلحة الفتك والقتل ضده، فإنه من الطبيعي أن يرتفع سقف المطالب الشعبيّة من الإصلاح إلى التغيير، ومن الاستمرار مع العقليّة نفسها والنظام إلى إسقاط النظام واستبداله من خلال الوسائل السلميّة، وعبر الآليات الديموقراطيّة المتعارف عليها. وتَكرس هذا المطلب بعد أن سعى النظام إلى إثارة الفتنة الطائفيّة وتمويلها باستخدام كل الوسائل الإعلاميّة، المرئيّة والمسموعة والمقروءة. وعمل على تمزيق المجتمع البحريني الذي عرف بتآلفه وانسجامه، واستهداف لنسيج الاجتماعيّ لتمزيقه مستخدماً السياسة الاستعماريّة (فرّق تسد)، ومستفيداً من الولاءات والتحزبات وأصحاب الضمائر المريضة والنفعيّين.
وهذا ما حدث، وهذه حقيقة الأمور التي لا يريد النظام وأتباعه أن يقروا بها، فمن أجل نظام ديموقراطيّ، لا بدّ من فسح المجال لأبناء الشعب -الذين يعطون الشرعيّة لأيّ نظام- بأن يقولوا كلمتهم، ويختاروا النظام الذي يحكم حياتهم، ويكون مسؤولاً أمامهم عن كل صغيرة وكبيرة عبر السلطات الثلاث: التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، فهذا الحقّ الإنسانيّ أقرّته الشرائع السماويّة قبل شرائع الأرض.
إنّ استمرار الأزمة في البلاد في ظلّ القبضة الأمنيّة سوف لن تقنع أبناء الشعب بالعدول عن مطالبهم، ويكفي عبرة من التاريخ الذي دلل في أكثر من تجربة على أنّ الشعوب هي المنتصرة وهي الباقية، وأن الأنظمة التي تعارض المطالب الشعبيّة وتقولها مآلها إلى زوال، طال الزمان أو قصر.
إنّ القادة الحاذقين الذين يطمحون لترسيخ وجودهم والحفاظ على مواقعهم وكراسيهم هم الذين يختارون صفّ الشعب، ويحققون مطالبه التي بها تزدهر البلاد وتصبح منارة للأمم. وإنّ صنع الولاء في قلوب المواطنين ليس بشراء الذمم والعسكرة واستعمال القوة وأساليب الترهيب، وإنّما بتحقيق العدل والحرية والكرامة والإنسانيّة لجميع أبناء الشعب.
حضرات القضاة، أيّها الحضور الكريم،
لقد عُرفت بالتعبير عن رأيي في العلن متناولاً قضايا الشأن العام، والمشاركة في الأنشطة الشعبيّة والإعلاميّة التي تتناول هذه القضايا. لم يخفِ النظام موقفه مني -ومن جميع النشطاء- عبر القضايا والمحاكمات السابقة وفي هذه المحاكمة أيضاً، ومن خلال سوء المعاملة والتعذيب وكيديّة الاتهامات، والأحكام الجائرة عبر محاكم وقضاء يتحكم فيها بشكل مباشر.
لا شك لدي -وهذا أيضاً رأيي- بأن هذه المحاكم لا تملك قرارها، وأن الأحكام تأتيها جاهزة من الدواوين والقيادات السياسيّة لهذا البلد. في القضيّة السابقة كان رئيس المحقّقين في جهاز الأمن الوطنيّ يقول لي مؤكداً هذه الحقيقة: «أنت تقول القضاء مُسيّس، وأنا أقول لك هذا صحيح. لقد جهزنا ضدك 27 اعترافاً، هذه المرة، أنت طايح طايح.. يا دكتور».
هذه المحكمة لن تختلف عن سوابقها، فالتهم كيديّة، والاستدلالات فاسدة، والإجراءات المتبعة في الاعتقال والتحقيق غير قانونيّة، والقوانين المستخدمة تنتهك الحقوق، والنيابة موجّهة وليست خصماً شريفاً كما تدعي، والقضاء تصله الأحكام من الديوان الملكيّ، عبر نائب رئيس مجلس القضاء الأعلى. فأيّ عدل وأيّ محاكمات عادلة ترجى؟ إذا كان خصمك القاضي فمن تقاضي؟ كما يقول المثل.
فلا اعتبار لمقدرة الدفاع وقوّة حججهم في ردّ التهم الكيديّة وتفنيدها، بينما الأحكام والقرارات جاهزة ولا استقلاليّة لهذا القضاء وهو أمر معروف للجميع.
الموقف والمطالبات
كان الدافع من مواصلة الاستئناف والتمييز هو استنفاد الأدوات القانونيّة المحليّة كما هو مطلوب من قبل المنظّمات الدوليّة المراقبة، وذلك لإثبات -مرّة بعد أخرى- أنّ القضاء مسيّس وغير مستقلّ ولا يملك قرار نفسه. وإنّ بقاءنا في السجن لحدّ هذه الساعة وتشويه سمعتنا على المنابر ومن خلال وسائل الإعلام والنيل منا، ما هي إلا دلائل أخرى على ذلك.
كان الأولى -بعد صدور تقرير لحنة التقصّي- أن تغلق المحاكم السياسيّة، ويتم تبييض السجون، وتقديم الجناة الحقيقيّين للعدالة، ولكن هذا الأمر لم يحدث لسبب واحد، وهو عدم تغيّر العقليّة التي تدار بها البلاد، وهو السبب وراء الأزمات التي تعاني منها البحرين منذ عشرات السنين.
إن استمرار محاكمتنا ومحاكمة جميع النشطاء والمحتجين منذ فبراير 2011م وحتّى الآن، لمؤشّر على عدم القدرة على التعاطي مع متطلّبات الديموقراطيّة، واحترام حقوق الإنسان، وتكريس للتسلّط والدكتاتوريّة، وإلغاءٌ للإرادة الشعبيّة التي تشكّل المصدر الوحيد لشرعيّة السلطات.
مستعدّون للتضحية
يجب على النظام أن يعي بأنّا لسنا في القرن التاسع عشر، وأنّنا نرفض أن نكون رعاياه (subjects)، إنّما نحن مواطنون (citizens) أحرار نطمح، بل ومن حقّنا العدل، والحريّة والكرامة والإنسانيّة، ومستعدّون للتضحية بالغالي من أجل ذلك. فليتفنن في التعذيب وليملأ السجون بالأحرار، ويمعن في القتل والعقاب الجماعي وإلحاق المعاناة والأذى فينا، فإنّه لن يزيدنا إلّا إصراراً على مواصلة الطريق، طريق العدل والحريّة والكرامة والإنسانيّة.
وليعلم النظام أيضاً بأن سَجننا وتغيبنا سوف لن يقلّل من تمسّكنا بهذه المبادئ والمطالب، كما لن يقلّل من تمسّك الأحرار بها والتضحية من أجلها. وإن السجن الحالي – بدون تحقيق هذه المطالب – لن يختلف عن خارجه، حيث تكون البحرين سجنا كبيراً. وليقض النظام ما يقضي، إنّما يقضي هذه الحياة الدنيا. وإنّ العطاء سيستمرّ حتّى لو بقينا خلف القضبان حتّى الموت، أو يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لكل ما سبق أطالب بالآتي:
1- الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع سجناء الرأي ومعتقلي الاحتجاجات الشعبيّة التي جرت في البحرين منذ فبراير 2011م وحتّى الآن. ويشمل ذلك تعويضهم وجبر ضررهم عن كل ما أصابهم من أذى جسديّ ونفسيّ وماليّ.
2- محاكمة جميع المعذّبين والمسؤولين عنهم والمتورّطين في التعذيب وسوء المعاملة في جميع الأجهزة الأمنيّة، بغض النظر عن رتبهم ونسبهم ومواقعهم الإداريّة، وذلك من خلال لجنة أمميّة مستقلّة ومحايدة، وبحسب ما جاء في تقرير اللجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق.
كما أعلن عن الآتي طالباً توثيقه بشكل منفرد في محضر الجلسة اليوم:
أولاً: إنّ حضوري هذه الجلسات الأوليّة هو بهدف تسجيل إفادتي وتوثيق ما تعرّضت له من تعذيب وسوء معاملة، إضافة إلى الانتهاكات تهاكات التي جرت بحقّي أثناء الاعتقال والتحقيق والمحاكمة مما ينتقص من مبدأ المحاكمة العادلة، ففي المحاكمات السابقة لم نتمكّن من الحديث.
ثانياً: سأتوقّف عن حضور الجلسات المستقبليّة وعن أيّ ترافع بأيّ صورة رافضاً الاستمرار في المحاكمة التي لا تتمتّع بمقومات الاستقلاليّة والعدالة.
ثالثاً: مع شكري وتقديري لهيئة الدفاع وجهود فريق المحامين الخاصّ بي، أطلب منهم بكل احترام وتقدير (وأخص هنا المحامين الخاصّين بي) الانسحاب من هذه المحاكمة ابتداءً من هذه الجلسة وعدم تمثيلي في أيّ مرحلة من مراحل هذه المحاكمة السياسيّة.
رابعاً: أرفض أن يقوم أحد بتمثيلي قانونيّاً في هذه المحاكمة، كما لا أجيز انتداب أيّ محام ليمثّلني دون موافقتي المعلنة والرسميّة.
الرحمة والسلام لشهداء الوطن الأبرار، والنصر للأحرار طلّاب العدل والحريّة، والكرامة الإنسانيّة.
إذا الشعب يوما ً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر
ولا بدّ لليل أن ينجلي ولا بدّ للقيد أن ينكسر.
عبد الجليل السنكيس.