إفادة الأستاذ محمد علي رضي إسماعيل
مقدّمة
أيّها السادة القضاة، أُحيّيكم بتحّية الإسلام التي ما قلتها يوماً لقلقةَ لسان، بل آمنت بها منذ الصغر عقيدةً وأجدتها منهجاً وسلوكاً، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأشكر لكم إعطائي فرصة الكلام، وأرجو أن يتسع صدركم لذلك، أنا محمد علي رضي إسماعيل أعمل في وظيفةٍ هي من أجَلّ الوظائف وأنبلها وهي التعليم، ومسمّى وظيفتي مختصّ في الإشراف التربويّ، فأشرف على مجموعة من المدارس لتحسين الأداء، واشتركت مع عدد كبير من الاختصاصيّين والتربويّين والمعلّمين في تحسين عملية التعلّم. ومشهود لي في الوسط التربويّ والاجتماعّي بحسن الخلق والوسطيّة والاعتدال، ولي نشاطي الاجتماعيّ والخيريّ لسنواتٍ مديدة.
وأنا أُشاطر أبناء بلدي في التطلّع إلى الحريّة والديمقراطيّة والعدالة الاجتماعيّة، وقد تمّ استهدافي لهذا السبب ليس إلّا، وبدأ الأمر من سبتمبر 2010م بمضايقتي في عملي؛ حيث حُرمتُ وزميلتي في العمل فاطمة فيروز من حقّنا في الترقّي، وقد شُطبنا من قائمة الاختصاصيّين المرشّحين للحصول على الدرجة الثامنة دون أيّ مبرّر، ولم يقدّم لنا أيّ إيضاح يذكر سوى أن الأمر من فوق!
تهم كيديّة
لقد أُدنتُ بتهم كيديّة لا أدلّة عليها إطلاقاً، وذلك لعدم وجودها أصلاً، وقد استندت المحكمة العسكريّة في إدانتي على تلك الاعترافات الباطلة التي انتزعت منّي بالقهر والتهديد والتعذيب المميت، فأنا بريء وغير مذنب ومكاني خارج السجن، والقضاء العسكريّ ظلمني، والتمييز لم ينصفني ولم يحقّق العدالة والنقض والإحالة، وكان عليه أن يأمر بإطلاق سراحي إن كان قضاءً حيادياًّ، فما أنا إلّا سجين رأي.
فإليكم، أيّها السادة، مرارة الاعتقال التعسّفيّ، والتعذيب وسوء المعاملة والمحاكمة غير العادلة التي تعرّضت لها.
الاعتقال
لقد داهمت مجموعة ملثّمة مدجّجة بالسلاح منزلي بعد تكسير الأبواب في ساعة متأخرة من الليل قرابة الثانية بعد منتصف الليل بتاريخ 23/3/2011، وانتشروا في البيت وروّعوا عائلتي، وعلى إثر الضجّة الرهيبة التي أحدثوها في بيتي استيقظت من نومي مذعوراً، وأسرعت للخروج من غرفتي بالدور الأول ومن خلفي زوجتي لأطمئن على أولادي وأرى حقيقة ما حدث. وهنا كانت المفاجأة، فما إن فتحت الباب، حنى رأيت مجموعة ملثّمة تشهر السلاح بوجهي، وكانت تهمّ بالدخول إلى غرفتي. لم تكن زوجتي مرتديةً للحجاب وكنت أنا بلباس النوم. ولما سألتهم: “من أنتم؟ وهل عندكم إذن قبض؟” وقبل أن أكمل كلامي أمسكوني وأمروني صارخين أن أنظر إلى الأسفل، ولما طلبت أن يسمحوا لي بارتداء ملابسي أعادوا الصراخ في وجهي: “اسكت لا تتكلّم”، ثم قام أحدهم بوضع يده على رأسي وأحناه بشدة باتجاه الأرض، وقادني إلى أسفل المنزل، وقاموا بتعصيب عيني وتقييد يدي من الخلف بالضاغط البلاستيكيّ.
وإمعاناً في إذلالي وإهانتي أخذوني خارج البيت حافي القدمين، ولم يسمحوا لي بلبس النعال رغم إصراري على ذلك، وبقيت أكثر من نصف ساعة، وعلمت لاحقاً أنهم كانوا يقومون بتفتيش البيت وقد أخذوا كمبيوتر لابتوب وثلاثة كمبيوترات عاديّة، وخمس هواتف نقّالة وأشياء أخرى، كل ذلك دون علمي، ولم يكن لديهم إذن بذلك، والمضبوطات حتى الآن لم تعاد إليّ وأنا أُطالب بردّها مجدّداً.
بعد ذلك أُركِبتُ السيّارة، بدؤوا بتعذيبي وإهانتي والتعدّي على عرضي ومذهبي منذ البداية؛ حيث تولّى ثلاثة معذّبين -أحدهم عن يميني والثاني عن شمالي والآخر من ورائي- عمليّة ضربي بشدة وقوة بالأكف والقبضات على كلّ مكان تطاله أيديهم لاسيما الرأس، وكان الضرب متتالياً حتّى كدت أن أفقد الوعي من شدّته، وكلّما صدرت مني صرخة ألم قسراً زادوني ضرباً على المكان الذي أحدث ذلك الألم، وقالوا: “أتئن وتتألم ها، أنت لم تر شيئاً، هذا ليس جزاؤك، وهذه مزحة، ويلك مما سيأتي، الذين سيستلمونك سيردونك في أمك”. ويستمرّ الضرب والسبّ وتوجيه الإهانات، فلم أسمع كلمة ذات بعد إنسانيّ أبداً، فهذا كلامهم لي: “يا حمار يا كلب، أنت أنجس من الكلب، والكلب أطهر منك، أنت معلم! أنت ما تصلح أنت زك أنت خره”، وغيرها من الإهانات التي يصعب حصرها، لكن الأمرُّ والأدهى ما قيل في حقّ عرضي ومذهبي.
والله يا سادة، ما ذكرت ذلك إلّا دمعت عيناي، وأحسست بقرب خروج روحي من جسدي، وليتها خرجت. نعم، تمنيت خروج روحي، فذلك أهون عليّ من أن أسمع تلك الكلمات التي لن أقوى على البوح بها، وتهزّ مشاعري وضميري، وإحقاقاً للحق أذكر بعض ما قيل لي: “يا بن القحبة، يا بن الفاعلة، يا بن الزانية، يا بن المتعة، أما ذهبت إلى خيمة المتعة بالدوّار؟ ألم تكن زوجتك هناك؟ من تمتّع ببناتك؟ ألم تخنك زوجتك؟”.
ولم يتركوا أسلوباً من سوء المعاملة والتعذيب النفسيّ والجسديّ إلّا استعملوه، حتّى وقّعوني على الاعترافات التي أرادوها بالقهر والتعذيب المميت، فكل لحظة مرت بي في جميع مواقع التوقيف كانت لحظة سوء معاملة وتعذيب نفسيّ وجسديّ مع اختلاف الأساليب التي تشترك كلها في الخسة والدناءة والبعد عن الإنسانيّة، ووصل بي الحال إلى الانهيار أكثر من مرّة، وتمنيت الموت حيناً بعد آخر لأخلص ممّا أنا فيه. وإليكم إيضاح إجمالي لتلك الأساليب الدنيئة:
بعض من أساليب التعذيب
1- تعصيب العينين وتكبيل اليدين
لقد عصبت عيناي وكبلت يداي في القلعة قرابةَ أسبوعين بشكل متواصل وعلى مدار الساعة، ولم ترفع العصابة ولا القيود إلّا في بعض الفترات في دورة المياه ولمدة لا تزيد عن ثلاث دقائق، فكانت الصلاة بالعصابة والقيود، بل حتّى من أجل الصلاة لم ترفع العصابة عن الوجه للوضوء، ما اضطرني لإعادة الصلاة كلها فيما بعد، وكذلك أثناء الوجبات لم ترفع العصابة ولا القيود، وحتّى أثناء التحقيق الذي كان يجري مع أقسى وجبات سوء المعاملة والتعذيب كان مع تعصيب العينين وتكبيل اليدين، وكانت عصابة العين مضغوطة بشدة، وكذلك القيود كانت مضغوطة ما زاد من معاناتي وأثّر عليّ وجرح أذني ويدي وكنت أتألم لأيّ حركة، ولم ترفع القيود والعصابة إلّا بعد قرابة الأسبوعين حين وضعت في الحوض الجاف.
2- الوقوف الطويل
لقد مارسوا معي هذا الأسلوب منذ بداية التوقيف، وكان يستمر لساعات طويلة، ويجعلني أعاني آلاماً شديدة في الرجلين وأسفل الظهر على الخصوص، وكلما حاولت أن أميل لجانب لأُريح الجانب الآخر أو طلبت الجلوس قليلاً للاستراحة يأتيني الضرب من حيث لا أدري، في كثير من الأحيان يصاحب الوقوف أمر رفع اليدين إلى الأعلى، فيتضاعف الألم وأصاب بالإعياء الشديد، عندها يسمح لي بالجلوس قليلاً لأعاود الوقوف من جديد، وهكذا يستمر الحال.
3- الحرمان من النوم
لقد حرمت من النوم طوال وجودي في القلعة؛ فلا يسمح لي بالجلوس أو الاستلقاء إلّا فترات قليلة، وأثناء هذه الفترات لم أكن في مأمن؛ إذ كانت تأتيني الضربة أو الرفسة دون سابق إنذار، هذا كان حالي طوال أيام الاعتقال، ما سبّب لي قلقاً وحالة من الترقّب للضرب، الأمر الذي ضاعف إرهاقي نفسيّاً وجسديّاً.
4- الحرمان من دورة المياه
لم يكن يسمح لي بالذهاب إلى دورة المياه إّلا بعد مضي ساعات متباعدة، وكنت في كثير من الحالات أتألم وفي حالة ملحة للحمام، ولكن لا مجيب، وإذا أخدت إلى دورة المياه أؤخذ بطريقة مذلة؛ فمرّة يضع أحدهم الهوز من ورائي ويدفع بي نحو الحمام، ومرة يطلب مني أن أمسك شيئاً، فإذا أمسكته وجدته الهوز الذي أعذّب به، فيقول لي: “ما هذا”؟ فأقول: “هوزاً”، فيأتيني الضرب. ويقول لي إنّه: …. ويذكر العضو التناسليّ للرجل. ويعيد عليّ السؤال ثانيةً فأقول هوزاً. فيضربني ويستمرّ الحال حتّى أجبر على قول الكلمة البذيئة التي يتلفّظ بها، وإلّا فلا مجال للذهاب لدورة المياه. وفي دورة المياه أُهدد: “لا تغلق الباب”، و”دقيقتين فقط”، ما جعلني أقلّ من شرب الماء ولا آكل من الطعام إلّا مقداراً قليلاً تفادياً لهذا الإذلال، ولم يسمح لي بالسباحة إلا بعد اليوم العاشر.
5- الحرمان من العبادة
لقد حرمت من أداء الصلاة في القلعة وهي عمود الدين، فلم ترفع عن عيني العصابة لأتوضأ للصلاة ما جعلني أعيش حالة من الضيق النفسيّ الشديد، وذات يوم كنت أصلي بوضوء غير مستوفٍ، فجاءت رفسة قوية جداً وأنا في حالة الركوع فرمتني على الأرض، وقد تألمت كثيراً وهذا موقف لا يكاد يفارقني.
6- السبّ والشتم وتوجيه الإهانات
فمن فترة الاعتقال وطوال فترة التوقيف لم أكن أسمع سوى السبّ والشتم والإهانة والكلام البذيء، وقد سبق أن ذكرت بعض تلك الألفاظ وأعفّ عن تكرارها.
7- إهانة المعتقد والمذهب
من أشدّ الأذى الذي كنت أعانيه التعرّض للمذهب والأئمّة الطيّبين الطاهرين، مثل: “يا ابن المتعة، أنتم كفار، طز فيك وفي مذهبك، طز فيك وفي أئمتك…” كما تمّ التعرّض للمراجع وعلماء البلد بالإهانة.
8- التهديد بهتك العرض
لقد أكثروا من الإساءة إلى عرضي، ولم يوفّروا كلمة سيّئة في هذا المجال إلّا قالوها مرة بعد مرة، “يا ابن القحبة، أنت ابن متعة، يعني ابن زنا”. وبين حين وآخر يقول أحدهم: “أنا أريد التمتع ببناتك”. وفي ذروة التعذيب وأثناء التحقيق كنت أهدد بجلب زوجتي وبناتي وأنهم سيعتدون عليهم أمامي، كل ذلك كان يقع عليّ كالصاعق، وجعلني في حالة قلق مستمر على عائلتي، ولم أهدأ إلّا بعد أن سمح لي بالاتصال بأهلي لأوّل مرة بعد مضي أكثر من شهر على الاعتقال ولمدة دقيقتين لأبلغهم بأنّي بصحّة جيّدة، وإن سُئلتُ عن مكاني أقول بأنّي في نقطة أمنيّة فقط.
9- البصق على الوجه وداخل الفم
في سجن القلعة، وإمعاناً في إهانتي وإذلالي ومع توجيه السباب والكلام البذيء والتعدّي على العرض والمذهب، أمروني أكثر من مرة أن أفتح فمي ويبصق أحدهم داخله، وعند محاولة إخراج ذلك الوسخ ضربوني وأجبروني على بلعه، ثم يأتيني البصق على الوجه ويجبروني على أن أمسح ذلك الوسخ بيدي وأضعه في فمي، كرر ذلك أكثر من مرة وكنت أشعر بالتقيؤ والضيق النفسيّ الشديد.
10- الإرغام على تقبيل الأحذية
في سجن القرين، واستكمالاً لمسلسل الإذلال والإهانة، أجبروني في أكثر من مرّة أن أقبّل أحذيتهم، وأن أقول عن نفسي: ” أنا كلب” أثناء ذلك، وعند الامتناع ينهالون عليّ بالضرب ولا مفرّ من الاستجابة لهم.
11- الإرغام على تقبيل الصور
لقد أرغمت مراراً على تقبيل صورة الملك ورئيس الوزراء والملك عبدالله التي ألصقت على جدران الزنزانة، ولم ترفع إلّا قبل زيارة فريق بسيوني بأيام قلائل، حدث ذلك في سجن القرين.
12- الضرب
لقد بدأ الضرب مع بداية الاعتقال بقبضات اليد وبالأكف وبالرجلين وبالهوز، وكنت أتعرّض للضرب بصورة مستمرة وفي جميع أنحاء جسمي، ويشتدّ الضرب بالهوز في فترات التحقيق؛ حيث أرمى على الأرض ويجلس أحدهم على ظهري وآخر على فخدي وأرفع قدمي أو تُرفع فأضرب بالهوز بقوة ضرباً متتالياً يشترك فيه مجموعة معذّبين حتّى تتورّم قدماي، وأنا أتلوّى ألماً وأصرخ دون شعور منّي عندما يوقفونني ويمشّونني قليلاُ، ثم أُعاد من جديد لعملية الضرب، ولا أُترك إلّا بعد أن أقرّ بما يريدون.
13- الحبس الانفراديّ
لقد وضعت في الحبس الانفراديّ في سجن القرين لمدّة شهرين تقريباً، حيث استمر مع كل جلسات التداول في المحكمة العسكريّة ولم أخرج من الانفرادي إلّا قبل جلسة إصدار حكم المحكمة الابتدائيّة بأيام قلائل. فقد خرجت من الانفرادي بتاريخ 10/6/2011، وكانت جلسة النطق بالحكم في المحكمة العسكريّة الابتدائيّة بتاريخ 22/6/2011م.
14- صبّ الماء البارد
لقد عُذّبت في سجن القرين بسكب الماء البارد على جسمي من أعلى الرأس، طبعاً ذلك كان مترافقاً مع السبّ والشتم، وكنت أصفع بالماء على وجهي، وإمعاناً في إهانتي، أمروني أن أستلقي على الأرض وأمثل حركات السباحة في البرك وهم يسكبون الماء عليّ، ثمّ يهزؤون ويضحكون، ثمّ أخذ أحدهم رأسي ومال به جانباً وأخذ الآخر يسكب الماء من أعلى باتجاه أذني وقد آذاني هذا كثيراً، ثم كرّر ذلك مع أذني الأخرى، وقاموا بتوجيه التكييف نحوي مباشرة، وأمروني أن أنام في الماء البارد من هواء المكيف، فكانت ليلة صعبة ومؤذية جداً، اصطكت فيها أسناني كما شعرت بحرارة الإهانة والإذلال والتحقير. وفي الصباح، جاء المعذّبون الملثّمون وواصلوا التعذيب؛ فأمروني أن أقوم بتنشيف الزنزانة بالإسفنجة القذرة والوسادة الأشد قذارة والبطانية التي تنبعث منها روائح كريهة، ثمّ أجبروني على أن أنام على تلك الإسفنجة والوسادة والالتحاف بتلك البطانيّة.
15- التحرّش الجنسيّ
حدث ذلك في سجن القلعة وسجن القرين، فبين الحين والآخر يتمّ التحرّش الجنسيّ بأسلوب وآخر، فتارة يقومون برفع السروال دون أن أشعر بذلك، وكان يحدث ذلك باستمرار، ويصاحب ذلك ألفاظاً بذيئة يعفّ لساني عن ذكرها. وتارة يضعون الهوز في الأماكن الحسّاسة، وأحياناً ينزل السروال. وإنّي لا أستطيع أن أسترسل في هذا الموضوع؛ لأنّ مجرّد ذكره يخلق لي ألماً لا يزول لفترات طويلة، لذلك أحاول أن أنسى وأصرف النظر والتفكير عن تلك الصور السيّئة والمهينة والحاطة بالكرامة.
16- الصعق بالكهرباء
إنّ من أشدّ ما مرّ عليّ من أصناف التعذيب الجسديّ الصعق بالكهرباء، والذي تعرّضت له أثناء التحقيق بغية أخد الاعترافات التي يريدونها، الصعقة الواحدة تجعلني أتلوّى ألماً وقد استعملوه معي في مواقع مختلفة من جسمي لا سيما المناطق الحسّاسة، وأنا معصوب العينين ومقيَّد اليدين. ومن شدة الألم أحسست بجلدي يحترق وجسمي يتكهرب، وأشد ما كان يؤلمني حينما يعمدون إلى رفع يدي إلى الأعلى بالاستناد على رقبتي باستخدام آلة لا أعرفها ولشدة الألم الذي كان يصيبني منها أشعر برقبتي ستنكسر مع أيّ حركة، وفي هذه الأثناء يعمدون إلى استخدام الصاعق الكهربائي في الأماكن الحسّاسةحتّى لا أقدر على المقاومة، ولا أجد نفسي إلّا وأنا على الأرض من شدّة الأعياء، وفي هذه الفترات، يحلو لهم أخذ الاعترافات التي يريدونها والتأكيد عليها، ويتمّ ذلك مع التهديد بالكلاب المسعورة، كما كان يهدّدني أحدهم على الدوام بأن يتبوّل في فمي إن امتنعت عن الإقرار بما يريدونه، وقد حدث ذلك في القلعة.
17- التوقيع بالقهر والإكراه
في القلعة، وأثناء وجبات التعذيب لاسيّما الصعق الكهربائيّ والضرب بالهوز، أُجبرت على أن أوقع على إفادة دون أن أراها، فقد وضعوا القلم في يدي ورفعوا العصابة عن عيني وأمروني بالنظر إلى مكان محدّد وقالوا وقع هنا، ولما طلبت أن أقرأ هدّدوني بالعودة إلى الكهرباء والتعذيب من جديد، عندها وقّعت بعد أن سلمت أمري إلى الله.
18- التعذيب بسماع سياط المُعَذبين وبُكاء المُعَذبين
إنّ سماع أصوات المعذّبين وصرخاتهم وتهديداتهم وسبّهم وكلامهم البذيء للضحايا لا يتوقّف، وإنّ أصوات السياط وهي تتلوّى على أجساد الضحايا التي تعمّ الأجواء تكاد تخنقني، والصفعات التي يتلقونها كأنّها تقع عليّ فيهتزّ لها بدني، وتهيج مشاعري، وترنّ في أذني تلك الآهات والتوجّعات والأنّات التي يصدرها الضحايا، وهم تحت سياط المعذّبين فيضاعف ذلك من ألمي. هذا حالي؛ فطوال فترة الاعتقال إما أن أُعذب مباشرة أو أُعذب بأنين الضحايا وبكائهم، والمعذِّبون يتعمّدون ذلك لعلمهم بالأثر الرهيب الذي تتركه في نفوس الموقوفين، فلن أنسى ولن يغيب عن ناظري ذلك المشهد المفجع الذي عايشته بأم عيني، وتجرّعت ألمه ومرارته، ولازالت تراودني تفاصيله حيناً بعد آخر، إنّه مشهد تعذيب وحشيّ بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى، وقع للضحيّة الحاج أحمد المقابي الذي وضِعتُ معه لمدة يوم ونصف في الحوض الجاف وكان معنا شخص ثانٍ من البلاد القديم، إذ جاء الملثّمون تسبقهم أصواتهم المفزعة وصرخاتهم وتهديداتهم وتقريعهم الأبواب بالأعقاب التي يحملونها محدثين بذلك رعباً وفزعاً قائلين: “أحمد فز بسرعة”، وسرعان ما وضعوا عليه العصابة وقيّدوا يديه ودفعوه خارج الزنزانة، وغاب عنّا ساعةً أو أكثر لكنه عاد لنا بصورةٍ يُرثى لها.
فهنا أرى المعذبين جاؤوا به بالقوة في الزنزانة، فوقع مكانه لا يقوى على الحراك، في هيئةٍ غير طبيعيّةِ تُنبئُ بتعرّضه لتعذيب قاسٍ؛ فهو يبكي بحرقةٍ ويئن من الألم ويتوجّع، ولما حاولنا تهدئتهُ فشلنا في ذلك، وأردنا إعانتهُ على الجلوس فأشار بِما يوحي بأن نتركه، وبقي على هذه الحال فترةً من الزمن، وبعد أن هدأ قليلاً قال: “لقد ذبحوني، قتلوني، ضربوني أشد ما يكون الضرب، وركلوني بأقدامهم، ثم نزعوا سروالي واستعملوا الكهرباء معي هنا وهو يشير إلى المناطق الحسّاسة، وبقي فترةً مستلقياً على جنبه لا يقوى على الجلوس، وبعد أكثر من ساعة جاء أحد الملثّمين ورمى عليه سرواله وتوعدنا بما جرى عليه”.
محاكمة باطلة
نعم، هكذا أُخذت اعترافاتي، أيّها السادة، وبها أدانتني المحكمة العسكريّة وحكمت خمس عشرة سنةً ظلماً وزوراً، وجاءت محكمة التمييز ولم تنصفني رغم أنّ الأطباء الشرعيّيين الذين استقدمهم بسيوني أثبتوا سوء المعاملة والتعذيب الذي تعرّضتُ له، مع أنّهم يوم عاينوا آثار التعذيب كان قد مضى أكثر من أربعةِ أشهر على وقوعها؛ إذ كان فحصهم في شهر أغسطس 2011 والتعذيب بدأ من 23 مارس 2011، وقد أُثبتَ ذلك بتقرير بسيوني حالة رقم 23.
فهل لتلك الاعترافات مصداقيّة؟! هل يُعقل أن تُبنى عليها تهم؟! ألم نؤخذ بالقهر والتعذيب المميت، وحتّى النيابة العسكريّة، حينما أنكرتُ التهم التي واجهتني بها وقلت إنّني لم أر الإفادة وقد وقّعت عليها دون قراءتها بفعل الإكراه والتهديد والتعذيب، فلم يكن منهم إلّا أن هدّدوني بالعودةِ إلى التحقيق من جديد قائلين: “إذا أنكرتَ ستعاد للتحقيق من جديد، ونأمل أن تثبت على أقوالك ولا تغيّرها”. الأمر الذي ذكّرني بتهديد المعذّبين حين وقعت على الإفادة إكراهاً؛ حيث قالوا: “وقّع، وإن أنكرت الذي وقّعت عليه سترى أشد مما رأيت، وجرب حظك..” وسرعان ما بدأ شريط المآسي وصور التعذيب تتزاحم في مخيلتي صورةٌ مع أخرى، فلم أر نفسي إلا تُقر بالاعترافات الباطلة مع تمنيات أن أجد من يُنصفني في المحكمة بعد أن تُسمع قصّة تعذيبي، إلّا أنّ أُمنياتي خابت؛ إذ لم يؤذن لي بالكلام قط في المحكمة العسكريّة، فقد تعرّضت ُ أيّها السادة، لمحاكمة لم تتوفر فيها أبسط معايير العدالة، وحكمتني دون أن تحترم حقي في الدفاع عن نفسي، واستمرت الانتهاكات والإهانات مع استمرار المحكمة، وفيما يلي إيضاحُ ذلك:
1- لم يحضر معي المحامي في أيّ مرحلة من مراحل التحقيق، فحتىّ في النيابة العسكريّة لما طلبت المحامي أجاب: ” لا يوجد، أنت قدّمت اعترافاتك وهي واضِحة، اذا أردت أن تُنكرها تُعاد للتحقيق مجدداً”. كما أنه أثناء سير المحكمة لم يُتح لي الوقت الكافي للقاء المحامي، فقد التقيت به اللقاء الأول قبل الجلسة الثانية لمدةٍ لا تزيد عن عشر دقائق، ثم كانت اللقاءات الأُخرى على هامش الجلسات وغالباً ما تكون بعد الجلسة.
2- الطريق إلى المحكمة: يوم المحكمة أيّها السادة، من الأيام السيّئة جداً؛ حيث تتعمّد فيه إساءة معاملتنا بشكل جماعيّ، فبدايةً يوضع القيد وتعصب العينان ويغطى الرأس بكيس ذي رائحةٍ كريهة ويكون ذلك داخل الزنزانة، ثم نقاد إلى خارج العنبر كُلٌ منا يدهُ على كتف الآخر، ونقف تحت أشعةِ الشمس في ذلك الجو الحار فترةً ليست قصيرة، وهم يقولون نحن في انتظار السيارة، وفي تلك الأثناء توجه إلينا جميعاً الألفاظ البذيئة، وعندما نُؤخذ إلى السيارةِ عادةً ما تكون حارةً جداً والمكيف مُطفأ أو موضوع على الهواء العادي، ويكاد كلّ منّا أن يختنق من الكيس الذي يُغطي الرأس مع حرارة السيارة، ولا يسمح لنا برفعه من أجل التنفس، وكان التهديد والكلمات البذيئة لا تنقطع طوال الطريق. وعند الوصول إلى المحكمة، نؤخذ في شكل طابور كلٌّ منّا يده على كتف الآخر في صورةٍ مُذلةٍ ومهينة، ونوضع في غرفة انتظار ضيقّة، ومرات نمضي فيها فترةً طويلة بدون أن تتوفر فيها الكراسي إلا كرسيين أو ثلاثة فنجلس على الأرض، وعند طلب الماء نسقى ماء حاراً كما أن كلمات السخرية والاستهزاء والإهانة تستمر، وأحياناً نُؤمر بسُرعةِ القيام لأكثر من مرة بزعم مجيء ضابط، وأحياناً يُطلب من بعضنا إنشاد السلام الوطنيّ. وعند اقتراب موعد الجلسة، نُؤخذ بالطريقة نفسها إلى المحكمة، وقبل دخول القاعة بقليل يُرفع الكيس والعصابة ويُفك القيد، وتوجه إلينا التهديدات طالبين منّا السكوت وعدم الكلام، ومن يتكلم سيخرج من قاعة المحكمة، وفي قاعة المحكمة هناك عسكريّ قريب منّا، ومن يرفع يده طالباً الإذن من القاضي بالكلام يأمرهُ أن يُنزل يده بسرعة.
3- الحرمان من الكلام: لم يسمح لنا قاضي المحكمة العسكريّة بالكلام قطّ منذ الجلسة الأولى، ومن يتكلّم يخرج من القاعة، وفي جلسة النطق بالحكم ردّدنا: “سلميّة، سلميّة، شعبٌ يطلبُ حُريّة”. فما كان من العساكر إلّا أن أخرجونا من قاعة المحكمة بقوة بالغة، ثمّ انهالوا علينا ضرباً بالأيدي والأرجل بشكل جنونيّ، حتّى كانوا يضربون بعضنا بالجدار، ثمّ أُخِذنا إلى غرفة الانتظار بعد أن قيّدوا أيدينا من الخلف وعصبوا أعيننا، واستمرّت هناك سلسلة الإهانات والتعذيب، وفي طريق العودة إلى السجن يجري علينا ما يجري في طريق الذهاب إلى المحكمة.
نعم، هكذا كان حالنا مع المحكمة العسكريّة، فلم يُسمح لنا فيها بأبسط الحقوق، وحوكمنا فيها في ظلّ أجواء الرعب والترهيب بتهم لا وجود لها، فأنا بريءٌ لا ذنب لي ولم أرتكب جرماً، وحُكِمتُ بخمس عشرة سنةً، ومحكمة التمييز لم تنصفني، وكان الحكم مبنيّاً على اعترافات أخِذت تحت القهر والتعذيب المميت.
وأخيراً أُكرر مُطالبتي، السادة القضاة، بإسقاط اعترافاتي لدى النيابة العسكريّة بحسب توصية بسيوني في تقريره حيثُ أوصى بعدم قبول الأدلّة التي انتزعت بالإكراه (فقرة 1720).
وإليكم طلباتي:
1- إسقاط الاعترافات والتي أُخِذت تحت القهر والتهديد والتعذيب المميت.
2- إلغاء الأحكام الصادرة بحقّي.
3- الإفراج عنّي وإطلاق سراحي فوراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمّد علي رضي إسماعيل.