شهادة الرئيس السابق لمركز البحرين لحقوق الإنسان حول تعذيبه في سجون البحرين عبد الهادي الخواجة
المحتويات
أقوال عبد الهادي الخواجة أمام محكمة الاستئناف العليا بتاريخ 22/5/2012
السادة رئيس هيئة محكمة الاستئناف العليا وأعضاءها المحترمين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكركم على إتاحة الفرصة لي للتحدّث أمام هيئتكم الموقّرة، وهو الحقّ الذي حرمته طوال مراحل التقاضي السابقة. علماً أنّه قد تمّ استبعاد إفاداتي في التحقيق نتيجة لوقوع التعذيب.
مقدّمة
إنّني المواطن البحريني عبد الهادي عبدالله الخواجة، قد تعرّضت منذ يوم التاسع من أبريل 2011، للاعتقال التعسّفي والسجن الانفراديّ والتعذيب النفسيّ والجسديّ والتحرّش الجنسيّ، والمحاكمة غير العادلة، دون أن أرتكب أيّ جرم فِعليّ أستحق عليه العقوبة القانونيّة، فضلاً عمّا وقع بحقي من تعذيب وانتهاكات تجرّمها القوانين الدوليّة والوطنيّة. علماً أنّني لا أنتمي إلى أيّ جمعيّة أو جماعة سياسيّة، وإن كان ذلك ليس بجرم في حدّ ذاته، إنّما حقّ طبيعيّ لأيّ إنسان.
إنّما الدافع الفعليّ وراء ما جرى بحقّي من انتهاكات حالية وسابقة، هو أنّني قد اخترت طريقاً شائكاً صعباً وهو الدفاع عن حقوق الإنسان، ليس فقط كاختصاص ومهنة – بصفتي باحث ومدرّب في هذا المجال- وإنّما وجدت من واجبي الوقوف مع المظلومين والضحايا في مختلف الانتهاكات التي يتعرّضون لها، دون النظر إلى حجم المخاطر وردّات الفعل التي سيقوم بها من يقوم بارتكاب تلك الانتهاكات. وهكذا فقد تضمّن نشاطي وعملي مواضيع خطيرة مثل الفساد السياسيّ والماليّ، والاعتقال التعسّفيّ، والتعذيب، وامتيازات الفئة الحاكمة، والتمييز الطائفيّ والعرقيّ، إضافة إلى مواضيع أخرى مثل الفقر والحقّ في الكرامة الإنسانيّة والوظيفة المناسبة والسكن الملائم، وحقوق العمال الأجانب.
وإذا كانت بدايتي في الثمانينيات تتمثّل في نشاطي التطوّعيّ في «لجنة الدفاع عن المعتقلين السياسيّين في البحرين» والمحسوبة على إحدى المجموعات السياسيّة المعارضة، فإنّ هذا النشاط قد تحوّل في بداية التسعينيات إلى عمل مستقلّ تماماً عبر تأسيس «المنظّمة البحرينيّة لحقوق الإنسان» والتي قامت بدور أساسيّ وحاسم في خروج البحرين من حقبة أمن الدولة، عبر نشاطها في العواصم الغربيّة بالتعاون مع الأمم المتحدة والمنظّمات الدوليّة لحقوق الإنسان.
ويشرّفني أنّني اكتسبت في تلك الفترة جنسيّتي الثانية حين أصبحت لاجئاً سياسيّاً في مملكة الدنمارك التي وفّرت لي الحريّة والكرامة والمأوى عندما كنت ملاحقاً في بلدي البحرين. إلّا أنّني لم أتردّد أبداً في العودة إلى البحرين عام 2001 عندما تمّ السماح لي بذلك، حيث واصلت أداء واجبي ورسالتي في التثقيف والتدريب على قضايا حقوق الإنسان في البحرين وخارجها، ومساعدة ضحايا الانتهاكات للتحرّك السلميّ للمطالبة بحقوقهم، ورصد انتهاكات حقوق الإنسان وتوثيقها. وكان الثمن أنّني تعرّضت طوال السنوات العشر الماضية للاعتداءات الجسديّة من قبل قوّات الأمن والتوقيف والاعتقال والمحاكمات غير العادلة وحملات التشويه، والمنع من السفر، واستمرّ ذلك حتّى خلال الفترة من نوفمبر 2008 إلى فبراير 2011، والتي عملت فيها كمنسق إقليميّ لمنظمة «فرونت لاين» الدوليّة، ومقرّها دبلن وبروكسل، والتي تختص في حماية المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم، ولم يشفع لي أنّني قد قدّمت استقالتي كرئيس «مركز البحرين لحقوق الإنسان» قبل بداية عملي في المنظمة الدوليّة، والذي لم يكن ذي صلة بأوضاع حقوق الإنسان في البحرين، فقد طغت الروح الانتقاميّة لدى من استهدفهم نشاطي السابق باعتبارهم مسؤولين عن ارتكاب الانتهاكات من خلال وظائفهم كمسؤولين سياسيّين أو أمنيّين، وكذلك لشكوكهم بأنٍني كنت – وبشكل غير علنيّ – أستخدم عملي الدوليّ لتقديم العون للنشطاء المحليّين في البحرين.
وجاءت أحداث 14 فبراير
وما تلاها من إعلان حالة السلامة الوطنيّة لتكون الفرصة المناسبة للانتقام. وخصوصاً أنّني وبعد سقوط القتلى والجرحى في الأيام الأولى، قرّرت تقديم الاستقالة من عملي الدوليّ والتفرغ للنشاط التطوّعيّ في البحرين للمساهمة في أن يكون التحرك الشعبي سلميّاً وفاعلاً في ضمان الحقوق، وفي رصد الانتهاكات التي وقعت أثناء الأحداث وتوثيقها. وكنت من أجل ذلك أشارك في الندوات وألقي الخطب وأشارك في الاجتماعات المتنوّعة التي كان يشارك فيها ممثّلون عن الجمعيّات والجماعات السياسيّة ونشطاء سياسيّون ومدنيّون وحقوقيّون، كلّ ذلك بصفتي مدافع مستقلّ عن حقوق الإنسان. وتلك الاجتماعات التي كانت تعقد في مقار الجمعيّات السياسيّة ومجالس الشخصيات السياسيّة، لم تكن سريّة ولم تكن لتأسيس تنظيمات جديدة أو لوضع مخططات عمل، وإنّما كانت للتشاور وتبادل الرأي في خضم الأحداث المتسارعة الخطيرة.
وجاء وقت الانتقام
فبعد منتصف الليل من يوم الثامن من أبريل 2011؛ أي بعد 3 أسابيع من إعلان حالة السلامة الوطنيّة وإطلاق يد الجيش والأجهزة الأمنيّة في القتل واستخدام القوّة المفرطة وفي الاعتقال التعسّفيّ والتعذيب الذي وصل في بعص الحالات إلى الموت، في ذلك اليوم حيث كنت أقضي العطلة الأسبوعيّة مع زوجتي وبناتي وأزواج بناتي، جاءت قوات مدجّجة بالسلاح لتحاصر المبنى الذي تقع فيه الشقق التي تسكن بها ابنتاي المتزوّجات، وبدون سابق إنذار أو إذن قضائيّ، تمّ اقتحام المبنى وكسر باب الشقة في الطابق الثالث لتستلمني مجموعة من رجال الأمن الملثّمين بالضرب والركل في جميع أنحاء الجسد أثناء الدحرجة على سلّم المبنى، ولم يكتفوا بذلك، بل – وبعد تقييد يداي إلى الخلف وتعصيب عيناي وقبل إدخالي في إحدى السيّارات- تمّ توجيه ضربة شديدة إلى جانب وجهي الأيسر بأداة حديدية حيث أدّى ذلك إلى وقوعي على الأرض مع نزف شديد من جروح غائرة على طرف العين اليسرى، وعدد كبير من الكسور بالفك والوجنة والأنف ما استدعى نقلي إلى «القلعة» أوّلاً، ثمّ مباشرة إلى المستشفى العسكريّ حيث تمّ قطب الجروح، تلاه إجراء عمليّة جراحيّة معقّدة تمّ عبرها لحم الكسور، حيث تظهر صور الأشعة حوالي (18) صفيحة وحوالي (40) صمّولة (برغي) مما يستخدم في جبر الكسور.
وفي المستشفى العسكريّ
بقيت 6 أيام كنت خلالها معصوب العينين ومكبّل اليدين إلى السرير بشكل مؤلم لا يمكّنني من الحركة. وكان يتردّد عليّ مجموعة من الأشخاص كلّ ليلة يقومون بشتمي بأقذر الكلمات، وتلمس الأماكن الحسّاسة من جسمي، وإبلاغي بأنّهم قد اعتقلوا ابنتي زينب؛ حيث إنّهم وبعد أن فرغوا ممّا يريدون منها تمّ ترحيلها إلى سجن في السعودية. وقال أحدهم بأنّه هو من وجّه لي الضربة على وجهي، وأنّني سأتلقى المزيد من ذلك بعد نقلي من المستشفى، وأن هناك شرطيّاً ضخماً بانتظاري (ليعتدي عليّ جنسياًّ)، وبدلاً من أن يتمّ إبقائي لمدة ثلاثة أسابيع وهي فترة النقاهة بالمستشفى، تمّ نقلي في اليوم السادس إلى مكان بعيد علمت بعد حوالي شهرين أنه سجن «القُرين» العسكريّ.
وفي سجن «القرين»
وضعوني في زنزانة انفراديّة مظلمة لمدّة شهرين تقريباً، وكان جميع الحراس والممرّضين يلبسون اللثام. ولم يكن لديّ أيّ اتصال بالعالم الخارجيّ، ولم يكن يُسمح لي بالخروج في الشمس والهواء الطلق. ولم يكن لديّ في الزنزانة سوى إسفنجة بالية ووسادة وبطانية بالغة القذارة. ولم يسمح لي بالاستحمام إلا بعد 10 أيام، وكانت آثار الدماء والكدمات في رأسي وأنحاء جسمي.
كنت أثناء تلك الفترة لا أستطيع سوى تناول السوائل من خلال أنبوب، وكنت أتناول الأدوية المتعلّقة بالعمليّة الجراحيّة والآلام الناتجة عنها، ورغم ذلك فمنذ اليوم الثاني من وجودي في السجن بدأت وجبات التعذيب الليلية؛ حيث يأتي مجموعة من الأفراد الملثّمين بعد منتصف الليل ويقومون ببثّ الرعب عبر الصراخ والشتم والضرب على قضبان الزنازين، ثم يدخلون زنزانة بعد أخرى ويبدأ التعذيب اللفظيّ والجسديّ والجنسيّ على الموقوفين، وكان كلّ واحدٍ منّا يسمع صراخ السجناء الآخرين وآلامهم ومعاناتهم.
وكان من بين من عرفتهم في الزنازين القريبة مني كل من مهدي أبوديب رئيس جمعيّة المعلّمين، والمحامي محمّد التاجر، ورجل دين هو السيّد محمّد الموسويّ. وكنت أسمع صراخ موقوفين آخرين بالزنازين الأخرى، ولكن لم أتمكّن من التعرف على هويتهم.
كان التعذيب الذي وقع عليّ في تلك الفترة يتضمّن
الوقوف المتواصل مع رفع اليدين لساعات طويلة، والضرب بأداة ثقيلة على مؤخّرة الرأس، والضرب بالقبضات على الظهر، والضرب باستخدام قفل الباب على ظهر اليدين، والضرب بكعب الأحذية على ظاهر القدمين، والإجبار على تقبيل صور لحكام البحرين والسعوديّة كانت قد ألصقت على جدران الزنزانة، ونزع الملابس، وإدخال العصيّ في الدبر، والشتم البذيء، والتعرّض للعرض والمقدّسات الدينيّة، والإجبار على شتم النفس وإعلان الولاء للقيادة السياسيّة خصوصاً رئيس الوزراء ورئيس قوّة الدفاع تحت التهديد بالضرب والاعتداء الجنسيّ.
الإضراب عن الطعام
ونتيجة لذلك فقد أضربت في اليوم الثالث من السجن عن الطعام والدواء، وتعرّضت بسبب ذلك للمزيد من الضرب. وفي اليوم السادس، أخذوني إلى مبنى آخر في السجن؛ حيث ضربوني بالمواسير البلاستيكيّة على أصابع القدمين وعلى باطن القدمين لإجباري على فكّ الإضراب أو التوقيع على ورقة بأنّي أرفض تناول الغذاء والدواء. ثمّ بعد ذلك نقلت إلى مبنى آخر، حيث ربطوا أطرافي بأطراف حاملة مصابين موضوعة على الأرض، وتم حقني بكيسين من السائل المغذي عبر الوريد. وهددني شخص بلهجة عربيّة غير بحرينية (دكتور أو ممرض) بأنّه سيقوم بإدخال أنبوب لي من الأنف إلى المعدة أو سيثقب بطني لإدخال التغذية مباشرة للمعدة إن لم أوقف الإضراب. وقد أوقفت الإضراب فعلاً في اليوم السابع بعد أن تمّ التعهّد بإيقاف التعذيب والاستجابة لطلبي بزيارة الطبيب الذي قام بإجراء العمليّة، فقد كنت شديد القلق بسبب تورّم وجهي وعدم قدرتي على تحريك فكّي، إلّا أنّ التعذيب لم يتوقف وقد كرّرت الإضراب مرّتين احتجاجاً على التعذيب خلال الأسبوعين التاليين. وفي الأسبوع الثالث من الاعتقال، كانوا يأخذونني للتحقيق في مبنى آخر في السجن نفسه. ورغم أنه لم يمارس التعذيب بحقّي أثناء التحقيق الذي كان يجري في كل مرة لساعات عدّة، ولكن كان الضرب والتعذيب يتم في الزنزانة قبل جلسات التحقيق وبعدها. وفي نهاية الأسبوع الثالث من الاعتقال، تمّ عرضي في أحد مباني السجن على الطبيب الشرعيّ، بوجود حرّاس السجن والذي سجّل على عجل بعض الإصابات التي كانت لا تزال ظاهرة على الوجه واليدين والقدمين. وفي اليوم نفسه كانوا يأخذونني مرتين للتحقيق في النيابة العسكريّة؛ حيث كنت أتعرّض للإهانة والضرب أثناء النقل من مبنى النيابة العسكريّة وإليه، وداخل المبنى نفسه قبل إدخالي على محقق النيابة وبعده؛ حيث لا ي تنزع الأغلال والكيس الذي على الرأس إلا أثناء وجودي في تلك الغرفة.
وقد تكررت هذه المعاملة العنيفة والمهينة في الشهور التالية في كل مرة يتم فيها نقلنا لحضور جلسات محكمة السلامة الوطنيّة، وكان يتولّى النقل الشرطة العسكريّة، وتم في إحدى المرات فرزي ضمن من «سيتم إعدامهم» وتم إسماعي صوت أسلحة.
تعذيب استثنائي!!
ولكن قبل بداية الجلسة الأولى من المحكمة العسكريّة وتحديداً بتاريخ7/5/2011 وقعت حادثة تعذيب استثنائية: فقد سمحوا لي بالحلاقة والحصول على بذلة كان قد بعث بها أهلي. وفي وقت متأخر من المساء، أخذني أربعة أشخاص في سيارة صغيرة إلى مبنى على بعد حوالي 15-20 دقيقة، وهناك تم إجلاسي إلى طاولة ونزع القيد من يداي ونزع غطاء العين لأجد نفسي جالساً في مكتب أنيق وأمام شاب بملابس مدنيّة عرّف نفسه بأنّه «الشيخ صقر» وهو الممثّل الشخصيّ لملك البحرين ويريد أن يسمع منّي مباشرة بشأن الأحداث والاتهامات الموجّهة إليّ. واستمرّ الاستجواب حوالي ساعة ونصف. وفي النهاية سألني إن كنت أرغب أن يتم تصويري بكاميرا تلفزيونية كانت مهيّأة هناك بحيث أقدّم اعتذاراً للملك عمّا بدر مني، فأجبته بأنّني لم أرتكب ما يستحق الاعتذار.
بعد ذلك، أعادوا وضع العصابة على عيني من جديد وأخذوني إلى غرفة مجاورة، وهناك قال لي أحد الأشخاص الذين جلبوني بأنني جالس على سرير، وأنّهم لن يضربوني، ولكنهم سيفعلون بي كلّ شيء آخر إن لم أوافق على تسجيل الاعتذار. وبدؤوا فعلاً بذلك؛ حيث وضع أحدهم يدي على عضوه التناسلي وقام آخر بتحريك عضوه على ظهري ووضع يده في مؤخّرتي، ثمّ بدؤوا بنزع ملابسي، ولم يكن أمامي سوى شيء واحد. أفلتّ منهم وقمت بضرب رأسي بالأرض. ولم أستردّ الوعي بعدها إلّا في السيّارة وهي تسير بسرعة كبيرة، حيث أعادوني إلى الزنزانة في السجن وأنا محمول، وجبهتي متورّمة وكذلك الجانب الأيسر من وجهي مكان الكسور المجبورة. ولمدّة ثلاثة أيّام كان يتم استخدام الكمادات والأدوية المهدئة للألم، وقد زارني في اليوم التالي للحادثة الدكتور الذي كان قد أجرى العمليّة ورأى الحال المزري الذي كنت فيه، وطلب نقلي فوراً لأخذ الأشعة، ولكن لم يتم ذلك إلا بعد أيام عدّة، وعبر نقل جهاز الأشعة إلى السجن، ولم أر الدكتور إلّا بعد ذلك بفترة طويلة؛ حيث لم يكشف لي عن وجهه إلّا بعد حوالي 6 شهور وعرفت بأنه الدكتور محمد المحرقي.
الحادثة الثانية
كانت في الجلسة الثانية للمحكمة العسكريّة؛ حيث طلبت حق التحدّث ولم يُسمح لي، فقلت بأنّني قد تعرّضت للتعذيب والتهديد بعدم التحدّث عن ذلك في المحكمة، فأمر القاضي بإخراجي من القاعة، وأساؤوا معاملتي في الطريق إلى السجن، وضربوني بالقبضات وركلوني عند بوّابة السجن، وتم إيقافي في الشمس ورأسي في الكيس ويداي مرفوعتان إلى الأعلى لحوالي ساعة واحدة، ثم تم تهديدي في داخل الزنزانة: «بتشوف اللي ما شفته إذا كررت الكلام في قاعة المحكمة».
وكانت الحادثة الثالثة يوم 22/6/2011
في قاعة محكمة السلامة الوطنيّة الابتدائيّة، بعد أن نطق القاضي بالحكم عليّ بالمؤبد، رفعت صوتي بالقول: “سنواصل الكفاح من أجل الحريّة وحقوق الإنسان”، وردّد المتهمون الآخرون سلميّة .. شعب يطلب حريّة”. فتم إخراجنا إلى خارج مبنى المحكمة ووضع القيود في أيدينا من الخلف، وانهالت علينا مجموعة الشرطة العسكريّة بالهراوات. وضربوا وجهي بالجدار وسال الدم من أعلى أنفي، وعلى مرفقي وأسفل عمودي الفقري وفخذي، ومعصمي حيث كنت مقيداً ممّا تسبّب بنزيف الدم بالمعصم. ولأنّني كنت أحاول حماية وجهي فقد تعمّد أحدهم ضربي مكان عمليّة جبر الكسور حيث تورّم فكّي. ثم تم أخذنا إلى غرفة الانتظار حيث أجلسونا على الأرض وبدؤوا الدوس علينا بالأحذية فوق الظهر والأكتاف، وعندما تبيّنت لهم الإصابات التي لحقت بي تم نقلي إلى طوارئ المستشفى العسكريّ للعلاج. وكان على رأس مجموعة الحرّاس الذين قاموا بنقلي للمستشفى الرائد «أبو أحمد» مسؤول الحراسة العسكريّة.
أما بشأن محاكمتي أمام محكمة السلامة الوطنيّة بدرجتها الأولى والاستثنائيّة:
فقد استمعت المحكمة لشاهد الإثبات الرئيسيّ وهو ضابط الأمن الوطنيّ والذي لم يقدّم أيّ دلائل أو إثباتات على الرواية الكاذبة التي قدّمها بشأن تأسيس تنظيم ومحاولة قلب نظام الحكم والتحريض على العنف، وتمسّك بأنّ جميع مصادره سريّة ولا يمكنه الكشف عنها. أمّا الشاهدان الآخران فكان أحدهما الضابط في الأمن الوطنيّ النقيب بدر إبراهيم غيث، والثاني مساعده في عمليّة إلقاء القبض عليّ؛ حيث قدّما شهادتهما لتبرير الإصابات البليغة التي وقعت بي أثناء القبض عليّ. في المقابل لم يتم السماح لي بالكلام، ولا للمحامي بتقديم شهود النفي، ولم يستجيبوا لطلباته في استدعاء الطبيب الشرعيّ أو الطبيب الذي أجرى العمليّة، ولا في الحصول على التقرير الطبّي للعمليّة، كما لم تتمّ إتاحة الفرصة للمحامي بتقديم مرافعته الشفهيّة. وكانت الأحكام جاهزة ومعدّة سلفاً؛ حيث تمّ الحكم عليّ بالسجن مدى الحياة.
ثمّ جاء تقرير «اللجنة الملكيّة لتقصي الحقائق» وتوصياتها:
والتي وثّقت ما جرى عليّ من انتهاكات، وانتدبت الأطباء المختصين، واطّلعت على التقارير الطبيّة، ليتم إثبات كلّ ما وقع عليّ من الانتهاكات المذكورة في هذا الخطاب. وتم الاستشهاد بحالتي وحالة الأفراد الآخرين من ذات المجموعة في أماكن مختلفة من التقرير، كما تمّ عرض موجز خاص بقضيّتي تحت رقم (8) ضمن القضايا المرفقة بالتقرير. وخلص التقرير وتوصياته إلى وقوع الانتهاكات البليغة المتعلّقة بإلقاء القبض والاعتقال التعسّفيّ والحجز الانعزاليّ والتعذيب النفسيّ والجسديّ والمحاكمة غير العادلة، ونَسَفَ التقرير أيّ أساس قانونيّ لاعتقالي وبقائي في السجن. وقام مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة وعدد من المنظّمات الدوليّة لحقوق الإنسان بدراسة ملف القضيّة، ووجدوا بأنّي معتقل رأي وأنّه يجب فوراً إطلاق سراحي.
ثمّ جاء حكم محكمة التمييز بتاريخ 30/4/2012 ليقرر بأن حكم محكمة السلامة الوطنيّة لم يستظهر توافر أيّ من أركان الجريمة الماديّ منها أو المعنويّ، بذلك فإنّه يكون «قاصراً قصوراً يبطله ويوجب نقضه».
وبناءً على جميع ما تقدّم فإنّني أتقدّم بالأمور التالية:
أوّلاً: لا يوجد أيّ مبرّر قانونيّ لاستمرار إبقائي في السجن خصوصاً بعد إثبات وقوع الإصابات عبر التقارير الطبّية وتقرير الطبيب الشرعيّ، وعبر إثبات وقوع الاعتقال التعسّفي والتعذيب والمحاكمة غير العادلة عبر تقرير اللجنة الملكيّة لتقصّي الحقائق. وعبر ما خلصت إليه تقارير مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان والمنظّمات الدوالدوليّة لية لحقوق الإنسان من أنّي معتقل رأي ومدافع عن حقوق الإنسان ويجب إطلاق سراحي فوراً.
ثانياً: الملف الموجود بين يدي المحكمة يخلو من أيّ دليل جازم يثبت صلتي بموضوع الاتهام المسند إليّ. وكلّ ما قدّم ضدّي هو تسجيلات تثبت براءتي؛ حيث كانت عبارة عن خطب أعبّر فيها عن رأيي ولم أدع فيها إلى العنف، بل أكدت فيها وبشكل متكرر التمسّك بالعمل السلميّ. ثمّ أتى حكم محكمة التمييز ليثبت عدم توافر أركان الجريمة في التهم المسندة إليّ.
ثالثاً: وبناءً على ما سبق، فإنني ومنذ أكثر من مئة يوم قد بدأت إضراباً عن الطعام احتجاجاً على إبقائي في السجن، وكنت على استعداد للتضحية بحياتي للإعلان عن احتجاجي على الظلم الواقع عليّ وعلى الآخرين من المعتقلين، وللمطالبة بالحرية، وكان رد فعل السلطات -بدلاً من الاستجابة لذلك المطلب العادل وتصحيح ما ارتكب من انتهاكات لحقوقي الإنسانيّة- أن يتم حجزي لأكثر من شهر في المستشفى العسكريّ فيما يشبه السجن الانفراديّ، وفرض التغذية الإجباريّة عليّ بالقوّة عبر التخدير والربط في السرير ووضع أنبوب التغذية من الأنف إلى الأمعاء، ووضع المغذّيات الوريديّة. ولم تتم الاستجابة لإصراري بالعودة إلى السجن إلّا بعد موافقتي على برنامج لتناول السوائل مع التهديد الصريح بالإرجاع إلى المستشفى العسكريّ، والتغذية بالقوّة في حال أي نكسة صحيّة، وكان هذا استمراراً للتغذية القسريّة التي تتعارض مع القوانين الدوليّة. وإنّي أُحمّل السلطات السياسيّة وهذه المحكمة مسؤوليّة أيّ خطر أتعرّض له في الأيام القادمة بسبب الاستمرار في الإضراب عن الطعام.
ملاحظة: عبد الهادي الخواجة قد أوقف الإضراب عن الطعام بتاريخ 28/5/2012 بعد إلقاء هذه الكلمة؛ حيث وضّح أنّ سبب وقف الإضراب هو استمرار التغذية الإجباريّة، وتحقيق الإضراب هدفه في جذب أنظار العالم إلى قضيّة المعتقلين في البحرين.
رابعاً: إنّني أتمسّك بالدفاع المقدّم سابقاً أمام محكمة السلامة الوطنيّة الابتدائيّة والاستئنافيّة وأمام محكمة التمييز كدفاع موضوع في هذا الاستئناف وأحيل بشأنه. كما أطلب ضمّ جميع التقارير الطبيّة والتقارير المفصّلة لدى لجنة تقصّي الحقائق.
كما أطلب ضمّ هذا الخطاب إلى ملف القضيّة.
خامساً: إنّي في هذه القضيّة «المجني عليه» بسبب قيامي بالدفاع عن حقوق الآخرين، وإنّ المسؤولين عن انتهاك حقوقي هم من يجب أن يقدّموا للمحاكمة والعقاب، وإن استمرار اعتقالي ومحاكمتي هي جريمة ما كان ينبغي أن يتورّط فيها القضاء لو كان مستقلاً ونزيهاً؛ لذا لا أرى جدوى من استمرار هذه المحاكمة، ولن أقدّم أيّ دفاع آخر، وأطالب بإطلاق سراحي فوراً ووقف هذه المحاكمة الصوريّة.
سادساً: لقد طال الانتقام أفراد أسرتي: ففي ذات اليوم الذي تم فيه إلقاء القبض عليّ، تم اعتقال كل من زوجا ابنتاي: المهندس وافي كامل الماجد وحسين أحمد، ولم يكونا مطلوبين في الأساس؛ حيث تم تعريضهما للاعتقال التعسّفي والتعذيب النفسيّ والجسديّ، ثمّ تلفيق اتهامات لهما وتقديمهما للمحاكمة لتبرير إبقائهما في السجن لسنة واحدة بالنسبة لوافي، و6 شهور بالنسبة لحسين، وتعرّضت زوجتي للفصل المهين كمسؤولة بمدرسة خاصّة دون تقديم أيّ مبررات، وفي انتهاك لأبسط الإجراءات القانونيّة. وتم فصل أختي فاطمة الخواجة وزوجها راشد عبد الرحيم من وظائفهما بإذاعة البحرين دون أيّ مبررات قانونيّة، ولم يتم إرجاعهما إلّا قبل بضعة شهور. كما تم حجز جواز سفر أختي هدى الخواجة ولشهور عدّة دون مسوغ قانويّ، وهي صاحبة مكتب للمحاماة والتدريب بالكويت. وهكذا يبدو البعد الانتقامي في القضيّة، ويصبح لزاماً أن يكون هناك آليّات حقيقيّة وذات مصداقيّة في كشف الحقيقة وجبر جميع الأضرار التي وقعت عليّ وعلى أفراد أسرتي وملاحقة المتورّطين في جميع تلك الانتهاكات.
وتفضّلوا بقبول فائق التقدير والاحترام.
عبد الهادي عبدالله الخواجة.