الوصول إلى المعشوق
الشهيد تمنى الشهادة فأعطاه الله طلبه، الشهيد كان يعاني كثيراً من البرد، فكلما اشتد البرد فإنه يتعرض إلى صداع قوي جداً يكاد يقتله، وفي مبنى 6 كانت الحمامات خارج الغرف، والذهاب إليها يعني التعرض للبرد خصوصاً أثناء ليالي الشتاء، وفي إحدى الزيارات قابلتُ أحد المعتقلين الصغار في مبنى 6، وكان يسألني إن كان في مبنى 4 قلنسوة أصلية كي يقوم بتهريبها لـ «أبي قسّام».
وكان يقول لي إن الشهيد يعاني كثيراً بسبب أن البرودة تؤثر سريعاً على الشظايا المغروزة في جمجمته، فأخبرته أن المبنى خالٍ من أي قلنسوة أصلية، كما اقترحت عليهم خياطة واحدة له، فأجابني أنهم جربوا ذلك إلا أن الناتج لم يكن كافياً لصد البرد. لم تكن معاناة الشهيد من الشظايا مقتصرة على البرد والصداع وحده؛ بل هناك آثار سلبية أخرى لها.
فالشظايا مصنوعة من الحديد، وبالتالي فهي تصدأ مع الزمن، وخصوصاً أن الشظايا بقيت في جمجمة الشهيد لحوالي سبع سنوات، وبالتالي فإنها قد تسبب له التسمم.
يضاف إلى ذلك وجود إهمال طبي شديد تعرض له الشهيد؛ حيث كان يتصل إلى زوجته قائلاً: «أنا أتألم بشكل طبيعي؛ أنا احتضر هنا، فحاولي أن يأخذوني للعلاج، فهم لا يأخذوني لا للعيادة ولا للمواعيد».
ويوجد تسجيل صوتي يقطّع القلب لهذه المكالمة التي تُبين مدى الإهمال الطبي الشديد الذي كان يعاني منه. في يوم شهادته، كان «أبو قسّام» يلعب كرة القدم، ثم توقف جانباً كي يقوم ببعض تمارين الشد، لكنه أحس بتعب شديد، فتوقف عن التمارين، وتمدد على الأرض. الشباب الصغار أحسوا بأن حالة «أبي قسّام» لم تكن على ما يرام، فأسرعوا بحمله إلى الشرطة، وأصرّوا عليهم بضرورة نقله إلى العيادة التي كانت قريبة جداً من المبنى.
لو تم نقل الشهيد لنيل الرعاية الطبية في الوقت الملائم، لربما كان بالإمكان إنقاذ حياته، لكن المرتزقة أهملوا أمره، فلم يأخذوه إلى العيادة إلا هو على الرمق الأخير، وحينما وصل إلى العيادة، فإنه لم يلبث فيها إلا قليلاً قبل أن تصعد روحه نحو الله، تلك كانت آخر ظلامات الشهيد في حياته الجهادية. رحل الشهيد ليكون تاريخ 16 مارس 2017م، واحداً من بين أكثر الأيام حزناً في السجن.
تم تسليم جثة الشهيد بدم بارد إلى أهله؛ حيث اعتبرت السلطات أن الوفاة طبيعية، وتم أخذ الجثمان الطاهر إلى غرفة منزل آل سهوان؛ حيث قام أخوه الرادود «مهدي سهوان» بقراءة أبيات مزجها بدموعه، واختلط فيها صوته ببكائه وبكاء العائلة.
وحينما خرج موكب التشييع كانت «السنابس» تغص بآلاف المشيّعين الذين جاءوا للوداع الأخير.
أما في المقبرة، فقد لبس آل سهوان السواد، وكان لهم نوحٌ يقطّع القلوب، وبكاء يسمعه القاصي والداني. أما مكان القبر، فكان إلى جانب الشهيد الأستاذ «أحمد الإسكافي»… فقد آن للتلميذ أن يرتاح إلى جانب أستاذه.
فهناك يرقد شهيدان، وقاتلهما واحد.
من المواقف المؤثرة التي شهدتها المقبرة بعد التأبين بفترة، كان الإفراج عن أحد زملاء «أبي قسّام»، وكان هذا المعتقل من «أبو قوة»، لكنه لم يذهب إلى المنزل مباشرة؛ بل كانت وجهته الأولى بعد خروجه من السجن هي إلى قبر الشهيد.
وعند القبر كان المعتقل يبكي بحسرة، ويطلب من الشهيد براءة الذمة، وأن يعذره لأنه لم يتمكن من حضور الجنازة.
وتوجد فيديوهات لعدد من المعتقلين الذين عاشوا مع «أبي قسّام» وتعلقوا به، كل واحد منهم ذهب إلى القبر ليبكي على الشهيد بمجرد الإفراج عنه.
أيها العزيز …
هذه الصفحات ليست إلا قبسات ناقصة من حياة «أبي قسّام».
وإني أجدد الدعوة لك، أن تسأل من عاشوا مع الشهيد كي تسمع بنفسك عن هذه الشخصية الاستثنائية الفذّة.
ثم إني أدعوك ألا تتوقف عند جانب الاطلاع على مواقف الشهيد؛ بل عليك أن تخطو في ذات دربه، فالمعرفة هي مقدمة للعمل.
بفضل الله تم الانتهاء من الكتابة
يوم الثلاثاء ليلة الأربعاء
12 جمادى الأول 1441 هـ
7 يناير 2020م