الأنظمة السياسية في الدول المتخلفة
يتضمن البحث النقاط الأساسية التالية:
النقطة الأولى: مظاهر التخلف في مجالات الحياة المختلفة
أولاً – مظاهر التخلف الاقتصادي: يتمثل التخلف الاقتصادي في مظاهر عديدة، منها: إنتاج المواد الأولية وتصديرها دون القدرة على تصنيعها وضعف الطاقة الإنتاجية بوجه عام، وانخفاض مستوى المعيشة ومتوسط دخل الأفراد وعجز الدولة عن التوجه نحو زيادة الأجور، وانخفاض نسبة الادخار وانتشار ظاهرة الإسراف والتبذير، وارتفاع مستوى الديون الخارجية، وسوء توزيع الثروة بين أبناء الشعب، وانقسام المواطنين إلى طبقتين: أقلية تستحوذ على معظم الثروة، وأغلبية محرومة تعاني من الفقر والبؤس والحرمان من السلع والخدمات الضرورية واضمحلال الطبقة الوسطى، والغالب على الدول المتخلفة اقتصادياً اعتمادها على تصدير المواد الأولية.
الجدير بالذكر أن التخلف الاقتصادي لا ينفصل عن التخلف السياسي، حيث تهدر الثروات على التسلح والأجهزة البوليسية والمخابرات والسلك العسكري وفقدان الأمن والاستقرار و تحكّم العامل السياسي والأمني بالقدرات الإبداعية والتمييز بين المواطنين مما يضعف بدون شك القدرة الإنتاجية للبلد ويفاقم من مشكلاته الاقتصادية.
ثانياً – مظاهر التخلف الاجتماعي: يتمثل التخلف الاجتماعي في مظاهر عديدة، منها: سيادة القيم القبلية والعادات والتقاليد المتوارثة غير العقلية، وانخفاض مستوى التعليم والثقافة وتفشي الجهل والأمية بين السكان، وعدم الدراية بالمفاهيم العلمية والمنتجات والاختراعات الحديثة والعلوم الميدانية، والافتقار إلى وسائل التكنولوجيا في الزراعة والصناعة والخدمات، والإكثار من النسل دون توفر القدرة المالية والقدرة على الرعاية، وانتشار الأوبئة والأمراض وضعف العناية الصحية بالمواطنين وانخفاض متوسط الأعمار، ويعتبر متوسط العمر من العلامات الظاهرة لقياس الوضع الصحي والعامل الاقتصادي والسياسي في أية دولة، فكما يؤثر العامل الصحي والعامل الاقتصادي في متوسط الأعمار يؤثر العمل السياسي كذلك، وذلك نظراً لتأثير الحروب وسياسات القمع والإرهاب والتعذيب في السجون على متوسط الأعمار.
ثالثاً – مظاهر التخلف السياسي: يتمثل التخلف السياسي في مظاهر عديدة؛ منها: التبعية للدول الكبرى وتوارث السلطة واحتكارها كمؤشر على التخلف الاجتماعي والانحطاط في مستوى الوعي الجماهيري وهبوط الحس الوطني وانعدام روح المقاومة وعدم الاستعداد لخوض غمار الصراع في ساحة الشرف ضد كافة التحديات لدى الجماهير، وتأصل مشاعر الاستسلام تحت تأثير الرذيلة والإلهاء وعوامل الترهيب والترغيب الحقيرة، ثم الصراعات العرقية والقبلية والطائفية والمذهبية الحادة بين السكان على حساب الاستقرار والوحدة الدينية والقومية والوطنية، وظهور الحركات الانفصالية الانقلابات العسكرية وسيادة الدكتاتوريات السياسية، والتورط في الحروب الخارجية غير المجدية التي تخدم أغراضاً شخصية للحكام لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية والقومية والاستقلال إن لم تكن على حسابها بامتياز، ومصادرة الحريات والحقوق الأساسية لأبناء الشعب التي تمثل الأرضية الأولى لبناء الإنسان والمجتمع والكيانات السياسية القوية لأية دولة في العالم، وبدونها يستحيل قيام أي بناء اجتماعي أو سياسي قوي ومنسجم مع تطلعات الشعوب، والابتعاد عن التنظيم الحزبي والمهني، وفرض السيطرة التامة على وسائل الإعلام واحتكارها، وتقوية أجهزة المخابرات وتوزيع عملائها بين صفوف الشعب بهدف السيطرة على الرأي العام والحيلولة دون تشكل رأي عام معارض أو مضاد، فلا بد من أجل التقدم والازدهار من فرض احترام قيمة الإنسان وتحرير وسائل الإعلام وإزالة الكبت والاستبداد والقيود والسدود السياسية والأمنية المصطنعة من أمام الطاقات الذاتية المخزونة في كيانه، وتحرير مكنوناته الدفينة التي يسحقها الكبت والحرمان والخوف والتردد والشعور بالإهمال لكي تنطلق بحرية وفاعلية في البناء والتعمير والتطوير، وبعث الروح المتوثبة في الهيكل الحضاري في البلاد لتأخذ مكانها المرموقة بين الدول المتحضرة، ولا بد من بناء مؤسسات المجتمع المدني لكي تأخذ دورها في بناء الكوادر وتنظيم الجهود وتدريب المواطنين سياسياً وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم وإيجاد التوازن المطلوب مع السلطة، ولا بد من إقامة العدل الاجتماعي بين كافة أبناء الشعوب في مختلف الشؤون الحياتية، وإتاحة الفرصة للتبادل السلمي للسلطة، وللمشاركة الحقيقية والفعلية في تحمل المسؤولية وتقرير المصير.
قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؟ع؟: «العدل أساس به قوام العالم»[1].
النقطة الثانية – انحرافات الأنظمة السياسية
سوف أتطرق إلى هذه الانحرافات على ضوء النظامين البرلماني والرئاسي:
النظام الأول: البرلماني
فيه انحرافات عديدة:
الانحراف الأول – هيمنة رئيس الدولة على السلطة التنفيذية: يعتبر هذا الانحراف أخطر أنواع الانحرافات؛ لأنه يأتي على حساب أهم خاصية في النظام البرلماني، وهي خاصية الثنائية في السلطة التنفيذية، وجوهر هذه المشكلة ليس في تجاوز رئيس الدولة لصلاحياته وإنما في توسيع الدساتير تلك الصلاحيات.
الانحراف الثاني – هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية: حيث تتدخل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة التشريعية، وتفرض سيطرتها عليها وتجعلها تابعة لها بامتياز دستورياً، مع السعي لفرض الأغلبية الموالية لها والتخلص من المعارضين بأساليب سياسية ملتوية، ويستخدم رئيس الدولة صلاحيته لحل البرلمان دستورياً وبأساليب سياسية من خلال ممارسة دور الرقابة والمحاسبة للسلطة التنفيذية وسحب الثقة منها.
الانحراف الثالث – تعطيل التبادل السلمي للسلطة: حيث تلغي السلطة كل الوسائل السلمية لتبادل السلطة، فلا يبقى أمام المعارضة إلا اللجوء إلى العنف والعمل السري لقلب النظام، وكثيراً ما تلجأ السلطة إلى تهمة الارتباط بالقوى الخارجية من أجل تصفية المعارضين لها قبل أن يتمكنوا من السيطرة على الحكم في البلاد.
النظام الثاني: الرئاسي
فيه انحرافات عديدة:
الانحراف الأول – هيمنة الرئيس على الدولة: حيث ينفرد بتعيين الوزراء وكبار الموظفين المدنيين والعسكريين، ويتولى قيادة الجيش، ويمارس الوظائف التنفيذية بدون أية رقابة، ويمتلك صلاحيات تشريعية واسعة في الظروف العادية، فيصدر القرارات الرئاسية التي لها قوة القانون، ويعقد المعاهدات مع الدول الخارجية بدون الرجوع إلى البرلمان، ويتمتع بصلاحيات دستورية واسعة في الظروف الطارئة، تصل إلى حد تعطيل الدستور، وحل البرلمان، وكبت الحريات وقمع حرية التعبير، واعتقال الأشخاص بدون محاكمة لفترات طويلة، ويحكم مدى الحياة.
الانحراف الثاني – إضعاف السلطة التشريعية: حيث إن تدخلات الرئيس في شؤون السلطة التشريعية، واللجوء إلى الأساليب الملتوية من أجل فوز مرشحي الحكومة والتخلص من الشخصيات المعارضة، وإضعاف الأحزاب السياسية، من أجل فرض الرئيس هيمنته الكاملة عليها وتمرير ما يريد من التشريعات في البرلمان.
النقطة الثالثة – النظام الحزبي في الدول المتخلفة
لقد لجأت بعض الأنظمة الاستعمارية إلى إقامة مجالس نيابية في بعض البلاد المستعمرة، وغالباً ما ترفض الحركات القومية والوطنية الشريفة العمل من داخل هذه البرلمانات، كما لجأت حركات التحرر الوطني إلى العمل السري بسبب عداء النظم الاستعمارية لها وما تمارسه ضدها من عنف وإرهاب، وبعد الاستعمار هناك حالات تظهر فيها أحزاب جماهيرية تستمد قوتها من الجماهير في ظل غياب الاستعمار وظهور العمل البرلماني، وتقوم هذه الأحزاب على أسس أيديولوجية متينة، وتتميز بالمركزية والانضباط والديمقراطية، وليس هدفي الآن دراسة أو مناقشة هذا النوع من االأحزاب، وإنما الإشارة إلى مظاهر التخلف في العمل الحزبي في الدول المتخلفة:
أولاً – نظام التعدد الحزبي: يقوم التعدد الحزبي في الدول المتخلفة على أساس الانقسام العرقي والقبلي والمذهبي والطائفي، ولهذا تسود النزعة الفردية المطلقة في قيادات الأحزاب، ويمتاز الصراع بينها بحدّة، وتلجأ إلى التمرد والعنف والعمليات الانقلابية من أجل الوصول إلى السلطة مما يسبب الإضرار بالقواعد الدستورية في البلاد، وتمارس الاعتداء على الحقوق وكبت الحريات لفرض هيمنتها على الأحزاب الأخرى، وتساهم في الانشقاقات والانقسامات وإحداث الشروخ في الوحدة الوطنية والقومية، وتوجد في البلاد المتخلفة الأحزاب ذات التركيب الهرمي، وهي عبارة عن مجموعة من الأتباع يجتمعون حول شخص نافذ أو جماعات ملتفة حول عائلة إقطاعية أو عصابات تدين بالولاء إلى زعيم عسكري وكلها من مظاهر التخلف في العمل الحزبي.
ثانياً – نظام الحزب الواحد: يسود نظام الحزب الواحد في بعض الدول المتخلفة، ويرى بعض المنظرين في نظام الحزب الواحد بأنه امتداد لقيم المجتمعات القبلية التقليدية؛ حيث تخضع القبيلة لزعيم واحد وتستنكر وجود المعارضة، ويروج لشعار الأسرة الواحدة كأساس لرفض التعددية الحزبية والمعارضة، كما لعبت الأنظمة الاستعمارية دوراً فعالاً في ترسيخ مبدأ الحزب الواحد الموالي لها بهدف فرض هيمنتها وضمان مصالحها الاستعمارية في الدول المتخلفة التابعة لها سياسياً أو إدارياً.
كلمة أخيرة
إن تخلف الدول المتخلفة ارتبط كثيراً بالاستعمار الذي خضعت له، رغم أن الاستعمار جاء في الحقيقة نتيجة للانحطاط الحضاري الشامل الذي وقعت فيه تلك الدول لقرون عديدة في العهود السابقة على الاستعمار وجعل منها فريسة سهلة له، حيث إن الاستعمار أخذ بتعميق حالة التخلف تلك، وبالتدخل في شؤونها الداخلية، و حرَمت الفئات السياسية الفاعلة من الاتفاق على الحد الأدنى المشترك من القيم والمسلمات التي تضمن الاستقرار للنظام السياسي والتبادل السلمي للسلطة، لقد ارتبط تخلف هذه الدول في العهود اللاحقة للاستعمار بالسياسات التي طبقها عليها واستنزف بها مواردها الاقتصادية التي يفترض أن تستخدم في تنميتها وفي تطوير قوى الإنتاج فيها، وما زال إلى اليوم يضع العراقيل الكثيرة الصعبة أمام نمو التعليم والصناعة والاقتصاد فيها، فلا بد لمجتمعات العالم الثالث من بناء طريقها المستقل عن تنظيم حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فليس من الممكن والصحيح تقليد الغرب أو الشرق بعيداً عن مضمونها الديني والاجتماعي، فلا بد أن تختار طريقها الصحيح المستقل الذي تحتفظ فيه بضمونها الديني والاجتماعي وتشق طريقها إلى التقدم على أساسه، وليس هناك نظام أولى من النظام الإسلامي للنهوض بالبلدان الإسلامية، فعلى الشعوب الإسلامية أن تمحضه إخلاصها لكي تستطيع النهوض من جديد من كبوتها العاثرة.
[1] بحار الأنوار، ج 78، ص 83
تعليق واحد