Site icon دار الوفاء للثقافة والإعلام

حج الحسين «البوصلة تشير إلى مكان آخر»

في تلك الأثناء يدخل موسم الحج ويجتمع الحجيج في مكة وقد لبس الحسين إحرامه على جري العادة السنوية، ولكن الحسين يَعِدُّ لحجّ من نوع آخر وهو حج ضروري لبقاء الحج. إنه حج الجهاد في سبيل الله الذي تقام به الفرائض، والذي هو باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه، فهو درع الله الحصينة وجنته الوثيقة كما يقول أمير المؤمنين (ع). بدأ موسم الحج وتأتي اللحظة الحاسمة في الحج الأكبر وأداء الركن الأعظم منه وهو الوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، وإذ بالحجيج في اليوم الثامن يتهيؤون لأداء ركن عرفة ويسمى يوم التروية حيث يتجهز الحجاج للذهاب لعرفة لأداء هذا المنسك العظيم. وفي هذا اليوم يُحرم الحجاج وفجأة يُصدم الجميع أن الحسين في هذا اليوم يحلُّ من إحرامه ويؤدي العمرة المفردة ويخطب في جموع المسلمين المجتمعين عند البيت الحرام معلنًا خروجه من مكة متوجهًا للعراق حيث الملحمة الكبرى للدين والمطلب إعادة الإسلام المحمدي الأصيل إلى ربيعه بعد أن ضيعه المسلمون، وقد وضع الحسين الأمة في تلك اللحظات وأراد إيصال رسالة مفادها أن في هذه اللحظات الإسلام يتعرض في وجوده للخطر فمن أراد بقاء الإسلام ليأتي معي حتى لو كان على حساب ترك أداء مناسك الحج، فهناك ضرورة وأهداف إذا لم تتحقق فلن يكون هناك إسلام ولا حج بعد اليوم، لقد شخّص الحسين المعصوم أولوية الجهاد اليوم على الحج.

وقف الحسين بين الركن والمقام خاطبًا في المسلمين ومناديًا ببيان النصرة قائلاً: «خُطَّ اَلْمَوْتُ عَلَى وُلْدِ آدَمَ مَخَطَّ اَلْقِلاَدَةِ عَلَى جِيدِ اَلْفَتَاةِ وَ مَا أَوْلَهَنِي إِلَى أَسْلاَفِي اِشْتِيَاقَ يَعْقُوبَ إِلَى يُوسُفَ وَ خُيِّرَ لِي مَصْرَعٌ أَنَا لاَقِيهِ كَأَنِّي بِأَوْصَالِي يَتَقَطَّعُهَا عَسَلاَنُ اَلْفَلَوَاتِ بَيْنَ اَلنَّوَاوِيسِ وَ كَرْبَلاَءَ فَيَمْلَأْنَ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً وَ أَجْرِبَةً سُغْباً لاَ مَحِيصَ عَنْ يَوْمٍ خُطَّ بِالْقَلَمِ رِضَى اَللَّهِ رِضَانَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ نَصْبِرُ عَلَى بَلاَئِهِ وَ يُوَفِّينَا أُجُورَ اَلصَّابِرِينَ لَنْ تَشُذَّ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ لَحْمَتُهُ وَ هِيَ مَجْمُوعَةٌ لَهُ فِي حَظِيرَةِ اَلْقُدْسِ تَقَرُّ بِهِمْ عَيْنُهُ وَ تَنَجَّزُ لَهُمْ وَعْدُهُ مَنْ كَانَ فِينَا بَاذِلاً مُهْجَتَهُ مُوَطِّناً عَلَى لِقَاءِ اَللَّهِ نَفْسَهُ فَلْيَرْحَلْ مَعَنَا فَإِنِّي رَاحِلٌ مُصْبِحاً إِنْ شَاءَ اَللَّهُ»[1].

لقد كان هذا البيان البليغ جدًا في مضامينه والتي أكد فيها الإمام الحسين (ع) على العديد من النقاط الهامة، فيه رؤية واضحة للإمام لما ستؤول له الأمور، وببصيرة عالية يخاطب الجماهير بأن ما سنذهب إليه ليس نزهة ولم يُمنّ الحسين أحدًا بمكاسب دنيوية، بل هو الموت في سبيل الله ولكن من أجل أهداف عظمى وتأسيس قواعد جديدة للتعامل لم يألفها المسلمون في تلك المرحلة، حيث خضعت الأمة لحكم الظلمة ورضت بالظلم وكأنه قدره، فيأتي الحسين (ع) بلغة أعادت الحياة للإسلام، ومن تلك الأهداف التي انطلق لها الحسين في ثورته:

إن سحب الذريعة من أصحاب المنطق التبريري يجعلهم ينحازون إلى أحد طرفي المواجهة، إما مع الحق وإما الباطل، إما حزب الله وإما حزب الشيطان.

إن حالة التفسخ في القيم الأخلاقية والعقائدية والاجتماعية التي سادت المجتمع الإسلامي في ظل الدولة الأموية مما استدعى تدخل الحسين ودق ناقوس الخطر وبذل في هذا السبيل دمه الطاهر أيقظ الأمة من سباتها، وجعلها تعود إلى دينها، وما توالي الثورات بعد الحسين إلا دلالة على نهضة الأمة، فانتفاضة أهل المدينة وواقعة الحرة وثورة التوابين من بعدها إلا شاهد على ذلك.


[1]– بحار الأنوار، العلامة المجلسي، جزء 33، صفحة 363

[2]– شرح نهج البلاغة،ابن أبي الحديد، جزء 18، صفحة 115

Exit mobile version