سبب اختيار الصلح من طرف الإمام الحسن(ع)
والآن نصل إلى تلك النقطة من موضوعنا والتي لم نُكملها بالأمس. قلت أنّ الإمام الحسن لم يمكن له أن يكون شهيداً، لو واجه الإمام الحسن معاوية في ميدان الحرب، لم يكن حاله خارجاً عن أمرين؛ [مع وجود] عدم التوازن في القوى الذي أوضحته سابقاً، إضافةً إلى فساد الجو الاجتماعي عند الإمام الحسن وصلاحه عند معاوية؛ وذلك بسبب الأساليب غير الإنسانية التي يتعامل بها معاوية، إعطاء الرشاوى، والكذب، والبهتان، ونشر الإشاعات الكاذبة والخداع؛ بينما يرى الإمام الحسن أنّ هذه الأعمال مخالفة للأصول ولا يأتي بمثلها. مع الالتفات إلى المواقف التي ذكرتها في ذلك اليوم بالتفصيل، لو دخل الإمام الحسن في حربٍ مع معاوية مع ذلك العدد القليل، لكانت النتيجة إحدى هاتين الحالتين: إمّا ألا يقتل الإمام الحسن في تلك الحرب ويبقى حياً وإمّا أن يقتل ويفارق الحياة. وإذا بقي على قيد الحياة فذلك لا يعني الفتح والانتصار، بل كان سيقع في الأسر؛ أو يُجبر على الاستسلام عندما لا يبقَ معه أحد. عندها كان معاوية سيأسر الإمام الحسن في ميدان الحرب -على فرض أنه لم يقتل- ويدخل إلى مدينة الكوفة فاتحاً منتصراً. أو كان سيحرره في سبيل الله ويُعلن عن ذلك. وعندها سيكون الإمام الحسن -في نظر الأمة الإسلامية في ذلك الزمان- غارقاً في فضل معاوية، لقد حرره، مع قدرته على قتله لكنه لم يفعل ذلك. أو سيحصل بينهما اتفاقٌ على الصلح في النهاية، مهما كانت الصورة التي تفترضونها، نستطيع اختصارها جميعاً في هذا البيان، كان معاوية سيعقد صلحاً مع الإمام الحسن في النهاية لكنه سيكون الغالب فيه بسبب انتصاره في ميدان الحرب، وكان سيضع الشروط التي يريدها في ذلك الاتفاق وكان الإمام مجبوراً على الموافقة. وهذا الاحتمال طبعاً في حال لم يقتل الإمام في ميدان الحرب أو لم يستسلم في اللحظات الأخيرة أو يُجبر على الاستسلام ويقع في الأسر. وهذا احتمالٌ ضعيف أيضاً، لأنّ الإمام لم يكن ليستسلم في النهاية في حال دخل في حرب. أو كان سيقتل الإمام، وقتله يعني قتل أخيه الحسين قبله، نعم، فالحسين لن يقبل بذهاب الإمام الحسن إلى الحرب ما دام هو موجوداً. فالحسين هو أخ الإمام الأصغر وهو تابعٌ له ومتّبعٌ له في كل صغيرة وكبيرة، والإمام هو الإمام الحق وحجة زمانه على الحسين وجميع الناس. وقد رأينا بأنّ الإمام الحسين قد أكمل مسير الإمام الحسن حتى بعد عشر سنواتٍ من رحيله. كان الحسين سيقتل ويقتل إخوته، وأصحابه الأوفياء -أي زبدة الشيعة، المنتخبين من الشيعة- سيقتلون جميعاً، كان حجر بن عدي[1] سيقتل، وعدي بن حاتم[2]، والميثمون[3]، وباقي الرجال المعروفين مثل رشيد الهجري وآخرين، وكان الإمام الحسن سيقتل مع القتلى. ثم يبقى معاوية مع مجموعة من الناس الذين درّبهم على الحركة خلاف الإسلام وروحه. كان قد ملأ عقول وأرواح أهل الشام بأنواع الكذب والاحتيال، بعض هؤلاء الناس صار من خواص الحكومة ونخبها، وهناك عامة الناس الذين يتلوّنون عادة بلون حكومتهم، ويستسلمون لها، ويتأثرون بأفكارها، فإذا لم تكن عبارة «النّاس على دين ملوكهم» حديثاً فهي أمرٌ واقعي؛ هذا أمرٌ طبيعي. ومعاوية الذي يُعادي الإسلام ونبي الإسلام، ويتضايق من ذكر اسم النبي ويتأذّى منه وجد الفرصة طوال السنين التي تلت شهادة الإمام الحسن -أي خلال العشرين سنة التي عاشها فيما بعد- لتفسير الإسلام وتبريره كما يحلو له. والإسلام الذي كان سيصل للأجيال اللّاحقة لم يكن إسلاماً مشبعاً من نبع الوحي فقط. لقد انقطعت علاقة الأجيال اللّاحقة بأهل بيت النبي -وهم العارفون بالإسلام بشكلٍ حقيقي- بشكلٍ تام. وعندها سيعرف الإمام الحسن في التاريخ على أنه شخص متمرد مع الأسف ومع أنه كان ابن النبي وكنا نحترمه، لكن ماذا نفعل إذ تمرّد وأجبرنا على قتله رحمة الله عليه، ولعُرف اسم الإمام الحسن في التاريخ بهذا الشكل، ولكنتم اليوم تعرفون الإمام الحسن على أنه شخص متمرّد مثلما يعتبر العامة وأهل السنة مالك بن نويرة[4]. مالك بن نويرة الذي قُتل[5] في أوائل خلافة أبي بكر على يد خالد بن الوليد بسبب خلاف شخصي -كان بينهما سابقاً- واعتبر من أهل الردة[6] ونحن نعرفه لأنّ أمير المؤمنين وبعض الشيعة كانوا هناك، لكن إخواننا من أهل السنة لا يعرفونه، يظنون أنه رجل متمرّد خارج [على الحكم]، [ففي تلك الحال] لكان الإمام الحسن مثله.
أو لنقل بشكلٍ أوضح فإنّ الإمام الحسن كان سيُعتبر مثل زيد بن علي بالنسبة للشيعة في مثل هذه الأيام. وأحد ذنوب كاتبي وناقلي تاريخ آل محمد هو خيانة جوهرة أهل البيت هذه، زيد بن علي بن الحسين(ع) الشهيد الذي أخبر النبي(ص) عن شهادته[7] وسمّاه باسمه وذكر الأئمة اسمه، أمير المؤمنين والأئمة من بعده جميعهم ذكروا زيداً ومدحوه بما فيهم الإمام الثامن[8]. وهو معروفٌ الآن بين الناس الذين سمعوا اسمه -كثيرون منكم ربما لم يسمعوا باسمه أصلاً- ويذكرونه ويقولون أنه ثار وقام عبثاً، وفي وقت غير مناسب، ثم قُتل، رحمه الله وسامحه! إذًا لكانت قضية الإمام الحسن هكذا أيضاً. الإمام الحسن صار كما يقول المرحوم العلامة آل ياسين (رضوان الله عليه)-وهو أفضل من أزال النقاب عن وجه الإمام الحسن وأوضح الصلح وبيّنه، وأفضل من كتب في هذا المجال- يصبح الإمام الحسن على حد تعبيره المقتول عبثًا الذي قتل على أيدي رجاله وأصحابه[9]. كذلك معاوية كان يرغب في هذا الأمر وقد أجبر البعض على الهجوم عليه وقد هاجموه عدة مرات لكنهم لم يستطيعوا تحقيق مآربهم.
لو قُتل الإمام المجتبى، لما بقي هناك ذكرٌ للإسلام وفي حال ذُكر فقد كان معاوية بن أبو سفيان هو شخصية الإسلام الأولى. وأنتم تعرفون بأنّ الإسلام الذي تكون شخصيته الأولى أو رجله الأول أو الثاني هو معاوية بن أبي سفيان، يكون الإسلام الذي أسست نواته في القصر الأخضر، ولكان الإسلام الذي يؤسس بنية فكرية وفلسفية للعنصرية والفئوية والاختلافات الطّبقية، أي ذلك الإسلام الذي يدعم الظلم، ويدعم السلطات المتجبّرة والطاغية والغاصبة، هو الذي سيبقى للبشرية.
وقد كان الإمام الحسن يرى كل هذه الأمور بشكلٍ واضح، وكان يؤسفه أن يترك العدو في الميدان بلا منازع؛ العدو هو معاوية، وليس يزيد الأحمق؛ معاوية السياسي، الناضج، المخضرم، مع كل تلك الأساليب العجيبة التي كان يستعملها. هذا هو عدوه وليس يزيد الشاب الحدث البسيط. وفي عصر لم يكن الشيعة قد تشكلوا فيه بعد ولم ينفصلوا عن عامة المسلمين كفريق خاص له اتجاه وهدف خاص، كما أصبحوا لاحقًا في عصر الإمام الحسين. لو قُتل الإمام الحسن في ميدان الحرب لم يبقَ هناك حجر بن عدي، حجر هو من فتح تلك الأرض وقد تم قتله فيها بالسّيف[10] وهو مقيّد اليدين ولم يكن ليثير قتله [حينها] ضجّة في عالم الإسلام ولم يكن ليشكّل وصمة عارٍ على بني أمية وعلى جبين معاوية[11]، لقُتل حجر بن عدي في ميدان الحرب مثل أيّ جنديّ عادي.
الإمام الحسن كان يرى كل هذه الأمور، لذا لو قُتل الإمام الحسن في مثل هذا الوضع لما كان شهيداً. الرجل الذي لا يهب قتله الحياة ولا يكون موته مفيداً لبقاء مدرسته، يجعل العدو أكثر جرأة، ويترك له الميدان بلا منازعٍ ولا معارض، الموت بهذا الشكل لا يسمّى شهادةً في الإسلام. الشهادة هي موتٌ يهب الحياة؛ أي وهب الروح ونفخ الروح في المجتمع؛ لا أن يقتل الإنسان في ميدانٍ ما ولا يبق بعده شخصٌ واحد لينقل فكره ورسالته إلى العالم. وهذا هو وضع الإمام الحسن، لو رحل لبقي معاوية هو وصولاته المتمادية، لبقي هو وكفره وإلحاده وعداوته للنبي أيضاً.
[1] حجر بن عدي بن جبلة الكندي (تاريخ الاستشهاد 61 هـ)، من صحابة الرسول(ص) ومن صحابة الإمام علي(ع) الخواص، ومن مشايخ الكوفة. أثناء خلافة معاوية انتفض ضده في الكوفة وقد استشهد بأمر معاوية خلال دفاعه عن ولاية الإمام علي(ع).
[2] عدي بن حاتم الطائي (67 هـ) من صحابة الرسول(ص) وأمير المؤمنين(ع)، ورئيس قبيلة طي. اشتهر والده حاتم الطائي بكرمه الكبير في الجاهلية. كان في عهد أمير المؤمنين(ع) إلى جانبه في كل المشاهد، كما بقي معهم أثناء خلافة الإمام الحسن(ع). وكان يؤكد على محبته للإمام علي(ع) أمام معاوية علناً.
[3] ميثم التمار الأسدي الكوفي مولى أمير المؤمنين(ع) المحرر، ومن أصحاب الإمام علي(ع)، والإمام الحسن المجتبي(ع) والإمام الحسين(ع) الذي استشهد في الكوفة قبل واقعة كربلاء. لا توجد معلومات واضحة عن تفاصيل حياة ميثم. كان يبيع التمر في الكوفة. وكان أمير المؤمنين(ع) قد أخبره ببعض النبوءات. صُلب بأمر ابن زياد وقطع يديه وقدميه ولسانه. يقع ضريح ميثم التمار بالقرب من مسجد الكوفة.
[4]. كان مالك بن نويرة من صحابة النبي(ص) وموكله في جمع صدقات قبيلته. قام خالد بن الوليد بقتله وعاشر زوجته في نفس الليلة دون أن يراعي عدة الوفاة. راجع: الاستيعاب، ج3، ص1362
[5] الردة، ص105-108.
[6] تطلق على الحركات التي حصلت في زمن أبو بكر في عامي 11 و12 هـ بعد وفاة الرسول(ص) ويمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
- الأشخاص الذين ادعوا النبوة مثل مسيلمة الكذاب والأسود العنسي.
- الأشخاص الذين ارتدوا عن دينهم مثل الأشعث.
- الأشخاص المعترضون على اختيار أبو بكر للخلافة بعد النبي وامتنعوا عن تقديم الزكاة لمبعوثي الخليفة مثل مالك بن نويرة. راجع: الردة، الواقدي.
[7] السرائر، ج3، ص638؛ بحار الأنوار، ج46، ص192.
[8] بعض الشواهد:
أ) في بيان أمير المؤمنين(ع): التشريف بالمنن في التعريف بالفتن، ص244.
ب) في بيان الإمام الصادق(ع): عيون أخبار الرضا(ع)، ج1، ص252-253.
ج) في بيان الإمام الرضا(ع): بحار الأنوار، ج46، ص174-175.
[9] صلح الإمام الحسن(ع)، ص217-222.
[10] الطبقات الكبرى، ج6، ص241-243.
[11] بعض الشواهد:
الف) اعتراض الإمام الحسين(ع): الإمامة والسياسة، ج1، ص203.
ب) اعتراض عائشة: تاريخ اليعقوبي، ج2، ص231.
ج) سخط حسن البصري؛ تاريخ الطبري، ج5، 279.