مواضيع

نظرة سريعة على تدابير الإمام السجّاد(ع)

بعد واقعة كربلاء وبعد واقعة «الحرّة»[1] في المدينة المنورة؛ كان يزيد قد احتمل أن يبدأ العصيان من المدينة مرة أخرى واعتبر أنّ المدينة مركز العصيان -وكان قد بدأ فعلاً- فأمر بإبادة الناس بشكلٍ جماعي في المدينة وضغط وضيّق عليهم ما أمكنه ذلك، فبعد حادثة كربلاء وبعد ضرب مكة[2] بالمنجنيق والإبادة الجماعية في المدينة انتشر الرعب والتوتر في المجتمع الإسلامي بشدة، فلم يكن أمام محبي أهل البيت مجالٌ للتّنفس. فقد ورد في إحدى الروايات أن «ارتدّ الناس بعد الحسين إلا ثلاثة»؛ نفس التعبير الذي ذكر بعد [وفاة] النبي وجاء في بعض الروايات. علينا ألاّ نعتاد على أن نأخذ معنى كلمة «ارتد» بمصطلحها الفقهي للمرتدّ والارتداد. مسألة الارتداد بمعناها الفقهي: الشخص الذي يخرج من الدين. هي اصطلاح لهذا المعنى فقط. أذكر مسألة أهل الردة الذين ارتدّوا بعد وفاة النبي؛ لكنها بهذا المعنى اللغوي أي «العودة»، الارتداد يعني العودة، عادوا من الطريق الذي كانوا يذهبون فيه، تركوا الفكر الذي كانوا يتبعونه والطريق الذي أرادوا اتباعه.

«ارتدّ الناس بعد الحسين إلّا ثلاثة»[3]؛ عاد الناس عن الطريق الذي سلكوه ما عدا ثلاثة. عادوا جميعاً، ماذا يعني؟ ماذا يعني «ارتدّ الناس»؟ هل تراجع جميع الناس عن الدين؟ أي أنكروا الإسلام بمعنى الارتداد الاصطلاحي؟ هذا لم يحصل بكلّ تأكيد، والمرتدّ هو من يتراجع عن الإسلام بشكلٍ صريح. أو هل تراجع الناس عن التفكير بأسلوب أهل البيت؟ ومن المسلّم أن الأمر لم يكن كذلك أيضاً، لأنّ الناس لم يكونوا مطّلعين على أسلوب تفكير أهل البيت كي يتراجعوا جميعاً. هل تراجع الشيعة عن معتقداتهم؟ بالطبع ليس الأمر كذلك. لأنّه في زمان الإمام السّجاد وبعد واقعة كربلاء وشهادة الإمام الحسين، كان هناك الكثير من الشيعة المتمسكين بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) ولم يكونوا قد تراجعوا عن عقيدتهم. «ارتدّ الناس» أي تلك الجموع التي تشكّلت للمواجهة وقتال السلطات في ذلك الزمان، والتي أرادت مواجهة السلطة الأموية، هؤلاء تراجعوا عن الطريق. عندما زاد الضغط والتوتر بعدما تلقى جسد المجتمع المجاهد المحارب ضربةٌ حاسمةٌ وقوية، حصلت حالة صدمة ودوارٍ استمرّت لمدةٍ من الزمن، فتراجع عدد كبير من الناس، واختار عدد كبير من الناس أساليب أخرى، ومجموعة كبيرة من الناس اختاروا طرقاً أخرى يظنّون بأنها استمرارٌ لذلك الطريق ويبرّرون ذلك لأنفسهم بينما هي في الواقع خيانة وانحراف عن الطريق الصحيح. والبعض أصبحوا أخرويين أي اختاروا الانزواء والتفكير بالزهد، وبعض الناس شعروا باليأس. جميع هذه الموارد تُعدّ تراجعاً أو ارتداداً. وفي النهاية تبقى مجموعة من الناس وتستمرّ في نفس الطريق بنفس الشدة والقوة. «ارتدّ الناس بعد الحسين إلّا ثلاثة»؛ كان قد بقي ثلاثة أشخاص وقد زاد الإمام السجاد عدد هؤلاء الأشخاص الثلاثة ووسّع [دائرتهم] وأعاد تشكيل الشيعة مجدّداً وسلّمهم للإمام الباقر(ع) كي يستطيع أيضاً إيفاء دوره التاريخي، وهذا هو أحد الأساليب المستخدمة [من قبل المعصومين].

لقد كانت حياة الإمام السجاد حياةً بطولية في ذلك الوضع الذي كان يعيشه في المدينة، وفي ظلّ الكثير من التحريفات والخلافات الواقعة في سيرة حياة الأئمة حيث يمكن القول بعدم وجود هذا المستوى من التحريف في مسائل إسلامية أخرى كما في سيرة الأئمة.

جميع الناس يعرفون الإمام الرابع، لكنهم يقولون عنه عند ذكره: «الإمام العليل»! كأنهم لم يجدوا لقباً أكثر فخراً من كلمة عليل، الإمام العليل! حسناً كل إنسانٍ يمرض في مدة من حياته، هل علينا أن نقول عنه نحن جميعاً العليل؟! لقد كان الإمام السجاد شاباً، وقد عرضت له الحمى في أحد الأيام، وأصيب بالزكام، وكان مريضاً خلال واقعة كربلاء، لا يجب أن يكون اسمه الإمام العليل. الإمام العليل! نعم، نفس هذا الإمام العليل شكّل الشيعة مجدداً، لقد أعاد تشكيل هذه المجموعة من الناس التي تهوى أهل البيت وتؤيّد حكومة أهل البيت وتشكيل المجتمع الإسلامي بمعناه الحقيقي، وذلك بعد واقعة كربلاء وبعد أن تعرّضت هذه المجموعة إلى ضربة قاصمة. لقد جمع الناس وأبعدهم عن بني أمية.

يقول «يحيى ابن أم الطويل» في كتب الحديث: «وكان بابه يحيى ابن أمّ الطويل»[4] -كتاب مناقب ابن شهر آشوب- ما المقصود من باب الإمام؟ من الواضح أنّ الأشخاص الّذين يريدون التواصل مع الإمام بشكلٍ خاص كانوا يتواصلون معه عن طريق يحيى ابن أمّ الطويل، هذا الأمر لوحده يدلّ على تنظيمات خاصة. كان يحيى بن أمّ الطويل يحذّر الناس كي يُعيدهم إلى الزمن الذي يسبق نهضة الحسين(ع)، هؤلاء الأشخاص الذين عرجوا وسط الطريق وتراجعوا عنه، ولم يستمروا في الطريق. كان يُعيدهم إلى أنفسهم ويُطلعهم على المسؤولية الخطيرة التي يواجهونها وينبههم إلى المواقف الجديدة التي تشكّلت في نفوسهم. كان يأتي أحياناً إلى مسجد النبي في المدينة فيقف وينادي بهم: «إنّا براء منكم وممّا تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتّى تؤمنوا بالله وحده»[5]؛ كان يتلو عليهم هذه الآية من القرآن والتي ذكرت عن لسان النبي إبراهيم. يوجد بيننا وبينكم خندق عميق لا يمكن ملؤه، لقد حدثت بيننا وبينكم فجوة عميقة بسبب الطريق الذي اتبعتموه؛ لقد أصبحنا في الجهة المقابلة لكم، لأنكم تركتمونا والتحقتم بجبهة الأعداء، لأنّكم غبتم عن جبهتنا. كان يقول هذه الكلمات بلسان الآية القرآنية، فلم يكن ذلك -قراءة الآية القرآنية- يُشكّل له خطراً مع حكومة ذلك الزمان وكان له الأثر البالغ على الناس في ذلك الوقت والذين كانوا على معرفةٍ أكبر بلسان القرآن. هذا هو يحيى ابن أمّ الطويل.

كان الإمام السجاد يُلفت المحيطين بالحكومة إلى مسؤوليتهم الخطيرة بشكلٍ ما. كنت أتمنى أن يكون لديّ الوقت الكافي كي أقرأ لكم الرسالة التي كتبها الإمام السجاد لمحمد بن شهاب الزهري لكن لا يوجد مجالٌ لذلك طبعاً. يكتب الإمام السجاد رسالة عجيبة إلى محمد بن شهاب، ولهجة الإمام في الرسالة تُبين موقع الإمام ودوره أصلاً. ورجائي من الأشخاص الّذين لديهم مطالعة في الكتب العربية ومعرفة بها، أن يقرؤوا هذه الرسالة المذكورة ضمن الكلمات التي وصلتنا عن الإمام السجاد في كتاب تحف العقول، لقد نقل ابن شعبة هذه الرسالة بالتفصيل.

لنتعرّف أولاً على محمد بن شهاب. محمد بن شهاب الزهري فقيهٌ عالمٌ متبحّرٌ ذو فنون معروفة في ذلك الزمان، وكان مقبولاً عند جميع فئات المجتمع. طبعاً كان قد نهل من علوم الإمام؛ لكنه كان مرتبطاً بجهاز الحكومة والسلطة، وكان من حاشية حكومة عبد الملك. لقد كان من الأشخاص الّذين يعتبر التحاقهم بالحكومة فوزاً عظيماً لها، فقد كان الكثير من الناس يثق بالحكومة بسبب تعاونه معها، وخلاصة الأمر كان عمله يعتبر حجة للناس.

كتب الإمام رسالةً مفصلة لهذا الرجل، قال فيها: إنّ أقلّ ذنبٍ ارتكبته هو أنك [آنست وحشة الظالمين] بسبب قربك منهم. عندما يرى هؤلاء رجلاً مثلك بجانبهم، فلن يخافوا من الناس بعد ذلك. يعرفون أنّ الناس يحترمونك وعندما يجدونك معهم سيحترمونهم أيضاً. وكتب له بأنّهم جعلوك قطبا أدار بها الجبّارون رحى مظالمهم،[6] وبيّن له حجم مسؤوليته الخطيرة، وأراه أيّ دورٍ في المجتمع الإسلامي قد اتّخذ. ولحسن حظّنا فإنّ هذه الوثيقة موجودة بين أيدينا اليوم بشكلٍ كامل وهي توضح لنا دور الإمام السجاد وموقعه.

عندما واجه الإمام السجاد يزيداً، تكلّم معه بأسلوبٍ لا يصدر إلّا عن إنسانٍ قد استغنى عن روحه وآمن بهدفه وفكره بكامل وجوده. شاهدوا أنتم كم تعرّض أئمة أهل البيت (عليهم السلام) للظلم إذ تمّ عرض هذه المواضيع بشكلٍ معكوس. نقل الأكاذيب، ونقل الأمور التي تنافي سيرة أهل البيت (عليهم السلام) الصريحة موجودة بشكلٍ كبير في أحاديثنا. لكنها طبعاً ليست موضع شكوى، فماذا تتوقعون من الحكومة التي استمرت لمدة تزيد عن ستمئة سنة -فقد استمرت حكومة بني أمية وبني العباس أكثر من ستمائة عام وكان أكثرهم خائفين من الشيعة- هل تتوقعون منها عدم اللجوء لهذه التحريفات وتزيّف [التاريخ]؟ لا بدّ لها أن تزيّف [الحقائق والتاريخ]. يجب أن يقولوا للشيعة بأنّ الإمام السجاد أي أحد أئمّتكم، عندما التقى بيزيد في مكة -حيث تم التحقيق بعدها، وتبيّن أنّ يزيد لم يذهب إلى مكة أصلاً، لكن توجد روايات في كتبنا الحديثية، [من ضمنها] كتاب البحار بأنّ يزيد لم يخرج من الشام أصلاً- قال له يزيد: هل أنت عبدي؟ فسأله الإمام إذا لم أقرّ بأنني عبدك لا تقتلني؟ فأجابه: بلى سأفعل ذلك. فقال الإمام: نعم أنا عبدك!

مثل هذا الموضوع يُنقل عن الإمام السجاد الذي كتب تلك الرسالة لمحمد بن شهاب وتكلم معه بتلك الطريقة، توجد أمامي الآن مجموعة أشعارٍ منقولةٍ عن الإمام السجاد[7]، كتبتُ بعض الأبيات الشعرية هنا -وأنتم تعرفون أنّ لسان الشعر أكثر صراحةً وأقوى معنىً وهو يُخبر عن الإحساسات والأفكار أكثر من أيّ لسانٍ آخر- ولن أقرأه الآن طبعاً بسبب ضيق الوقت، هذا هو الإمام السجاد.


  • [1] تحكي الواقعة عن مواجهة جيش الشام بقيادة مسلم بن عقبة ثورة أهل المدينة بشكلٍ عنيف. في عام 63هـ ثار أهل المدينة بقيادة عبدالله بن حنظلة بن أبي عامر على حكومة يزيد بن معاوية، قتل كثير من الناس في هذه الجريمة وأعلنت استباحة أموال وأعراض أهل المدينة لمدة ثلاثة أيام.
  • [2] بعد موت معاوية امتنع عبد الله بن الزبير عن مبايعة يزيد وشكّل لنفسه حكومة في مكة. وفي عام 63هـ وبعد قمع ثورة المدينة أرسل يزيد جيشاً بقيادة «الحصين بن نمير» إلى مكة. وبعد قتل عدد كبير من جيش عبدالله بن الزبير لجأ إلى الكعبة. حاصر جيش الشام الكعبة لمدة تزيد عن شهرين وقاموا برمي الكعبة بالمنجنيق وإشعال النار فيها. ثم فكوا الحصار بعد وصول خبر موت يزيد أوائل شهر ربيع الثاني عام 64هـ.
  • [3] هؤلاء الثلاثة العظام كما تقول هذه الرواية هم: أبو خالد الكابلي، يحيى بن أم الطويل، وجبير بن مطعم.
  • [4] مناقب آل أبي طالب، ج4، ص175.
  • [5] الممتحنة، 4.
  • [6] تحف العقول، ص274.
  • [7] بحار الأنوار، ج45، ص175؛ «لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم/ وأن نكفّ الأذى عنكم وتؤذونا مهلاً بني عمّنا من نحت أثلتنا/ سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا ألله يعلم أنا لا نحبكم/ ولا نلومكم إن لم تحبّونا».
المصدر
كتاب صلح الإمام الحسن (ع) | الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى