مواجهات الإمام الكاظم(ع) الأكثر شدة مع الجهاز الحاكم
في زمان الإمام موسى بن جعفر صارت المسألة أكثر حدّة. أي في زمن الإمام الصادق كانت هناك مرونة أكثر؛ فالمدة كانت أطول، والزمن أطول، والإمكانات على نحوٍ يُمكّنهم من التّعامل بمرونة أكبر. لكن في زمن الإمام موسى بن جعفر بسبب الأوضاع والظروف الخاصة -نحتاج إلى المطالعة والدقة والدراسة بشكلٍ أوسع للتعرف على هذه الأوضاع- لكن بسبب وجود أوضاعٍ خاصة إجمالاً واجه الإمام موسى بن جعفر حاكم زمنه أكثر من باقي الأئمة؛ وتكلّم بصراحة أكبر معه، ووضّح أهدافه أكثر، كأنّه كان يرى الأرضية أكثر استعداداً. كانت ثورات السادة العلويين -والتي كانت مورد تأييد وقبولٍ من قبل الأئمة غالباً مثل الوثائق التاريخية- قد اندلعت بشكلٍ متوالٍ وزلزلت أوضاع الحكومة وفسحت المجال للإمام كي يتكلّم بشكل صريح وواضح وبلا موانع.
كان هارون الرشيد خليفة ذكي جداً. وبمقدار سعي المنصور لقمع الناس وإخافتهم، حاول هارون في البداية أن ينهي المشاكل بإدارة وحسن دراية وتدبير. كان يريد أن يقنع الإمام الكاظم بشكلٍ ما، ويحصل على شعارٍ كبيرٍ من الأئمة، وربّما كان يريد أن يعرف رأي الإمام الدقيق بشكلٍ واضح.
في أحد الأيام طلب رؤية الإمام موسى بن جعفر، وقال له أنا حاضرٌ لإنهاء قضية فدك هذه، لأنّ مسألة فدك كانت تُذكر في كلمات أهل البيت دائماً وكان يقال بأنّها اغتصبت منهم يوماً ما. لا أقصد أنهم كانوا يتكلمون عنها بشكلٍ دائم لكنها كانت مذكورة في كلامهم وفي سيرة حياتهم على أنها واقعة تعرّض فيها آل محمد للظّلم ويجري الكلام عن اغتصاب فدك منهم. أراد هارون الرشيد أن يلفت الانتباه قليلاً إضافةً إلى تلك الأسباب التي ذكرناها، فقال لموسى بن جعفر أنا مستعدّ لإعادة فدك إليكم، عيّن حدود الأرض ومكانها، فنعيد بستان فدك هذا إليكم، وتنتهي مشكلة غصب فدك هذه عندكم. فسأله الإمام هل تريد أن تعيدها؟ لم يجبه الإمام لمدّة من الزمن إلى أن أصرّ هارون كثيراً، وقال: نعم، يجب أن أُعيد فدك إليكم، لقد أخذوا فدك منكم وأنا أريد إعادتها إليكم. فقال له الإمام حسناً، «فقال عليه السلام لا آخذها إلّا بحدودها»، «قال وما حدودها؟» حسناً إنها أرض [فكم تبلغ مساحتها؟ هل ستكون بمساحة بستانٍ أو بستانين؟ ثلاثة إذا افترضنا أنها كانت أرض كبيرة مستوية وأردت حساب كل حدودها، فسيصعب ذلك حينها. «قال وما حدودها؟ قال إن حددتها فلن تردّها؟» «قال بحقّ جدّك إلا فعلت» سأعيدها بكلّ تأكيد، لم لا أفعل ذلك؟ «قال أمّا الحد الأول فعدن»، أي جنوب الجزيرة وحدودها. «فتغيّر وجه الرشيد»، «وقال أيها» ما الذي تقوله، «قال والحدّ الثاني سمرقند» أي حدود بلاد الإسلام الشرقية. «فاربدّ وجهه»، «قال والحد الثالث أفريقيا»، «فاسودّ وجهه وقال هيه» «قال الرابع سيف البحر ممّا يلي الجزر وأرمينيا»، أي نهاية البلاد الإسلامية وحدودها، «قال الرشيد فلم يبق لنا شيء فتحوّل إلى مجلسي»، أي خذ مكاني، «قال موسى قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردّها. فعند ذلك عزم على قتله».
في أحد الأيام كانت فدك شعاراً لأهل البيت ولم تكن هدفاً لهم. كانت مسألة فدك شعاراً لأصحاب الخلافة الأصليين مقابل غاصبي الخلافة، لكن اليوم لم تعد شعاراً. لم تعد قضية فدك مطروحةً اليوم. الشعار يكون شعاراً في أحد الأيام لكن في يومٍ آخر نحتاج إلى شعارٍ آخر. كان هذا -هارون- يريد أن يأخذ شعار أهل البيت منهم، لأنه يظنّ أنّ شعارهم لا يزال فدكاً. لكن الإمام قال لا في جوابه، لقد أخطأت؛ الشعار اليوم هو الحصول على الحكومة وإذا أردت أن تردّ إلينا فدك، يجب أن تعطينا المجتمع الإسلامي. «فعند ذلك عزم على قتله»، وبعد مدة وضع موسى بن جعفرٍ في السجن. طبعاً تكررت مثل هذه المواجهات الحادة بين الإمام موسى بن جعفر وحاكم ذلك الزمان -سواء كان هارون أو المهدي أو الهادي العباسي- وهذه إحدى المواجهات، وقد أُجبر هارون [على قتل الإمام].
الآن أنظروا لقد زجّ هارون الرشيد موسى بن جعفر في السجن وبقي الإمام سجينا مدة أربعة أعوام وقيل أربعة عشر عاماً؛ وفي النهاية لم يخرج الإمام من السجن بل مات فيه. ولو بقي الإمام حياً لمدة عشرين عاماً آخر لما خرج من السجن حسب الظاهر، لقد كان سجناً أبدياً. إذاً ما هو الشيء الذي جعل هارون يضع الإمام في السجن إلى الأبد ويدسّ له السّم فيه؟ ما هو؟ هذا الرجل الذي كان جزءًا كبيرًا من المجتمع الإسلامي في ذلك الزمان يكنّ له المحبّة. هذا الإنسان الذي كان تلامذته وتلامذة أبيه فقهاء ذلك الزمن. هذا الإنسان المحبوب بين عامة المسلمين بسبب نسبته مع النبي وآل النبي إضافةً إلى سائر الميزات التي يملكها. شخص كهذا لا يستطيع حاكم زمانه أن يسجنه بسهولة ومن دون سبب وجيه إلى الأبد ليقتله بعد ذلك، سيحسب حساباً ويخاف. لكن هارون كيفما فكر وجد أنّ قتل هذا الرجل أقل ضرراً على حكومته من بقاءه على قيد الحياة، لأنّ ضرره سيكون أكبر لو بقي على قيد الحياة. ثم يحضرون أناساً مأجورين -بعد شهادة الإمام ووفاته في الحبس- ليشهدوا بأنّ وفاته كانت طبيعية. نحن لم نقم بتسميمه، بل مات لوحده في الزنزانة، وذلك كي لا يقع وزر قتله عليه[1]. وهذه سيرة الإمام موسى بن جعفر أيضاً.[2]
- [1] بحار الأنوار، ج48، ص228.
- [2] سماحته: ثم ننتقل إلى مراحل الأئمة المتأخرة، ولا أريد أن أتحدث كثيرًا في هذا المجال بعد الآن، وأعتقد أن هذا يكفي لوصف حياة الأئمة. بالطبع هناك الكثير ليقال في هذا المجال. نفس الملاحظات التي أحضرتها، لم أقرأ أكثر من اثنتين أو ثلاثة منها، فهي نفسها تتطلب الكثير من الوقت. وأشعر أنه لا ينبغي عليهم قضاء الكثير من الوقت والبقاء في هذه الأمور حتى تكون إن شاء الله فرصة أو بطريقة ما تصبح موضوعًا للكتابة، أيها السادة، يرجى دراسة هذه القضايا بعناية أكبر، وأنا اطلب من الذين يفكرون في هذه القضايا لديهم أفكار وآراء. إنها قضية مهمة للغاية.