مواضيع

الرسالة الإلهية إلى فرعون

قول الله تعالى: <وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ 17 أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ 18 وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ 19 وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ 20 وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ>[1]

أقسم الله (جل جلاله) الكريم بأنه قد ابتلى فرعون وقومه الأقباط وامتحنهم ليظهروا على حقيقتهم كما هم عليه في باطنهم وقرارة أنفسهم ولتكون لله سبحانه وتعالى الحجة البالغة التامة عليهم، بأن بعث فيهم وأرسل إليهم رسولاً كريماً، وهو موسى بن عمران الكليم(ع) كريم النسب والحسب؛ لأنه من سلالة الأنبياء الكرام المطهرین(عليهم السلام)، فهو من نسل إبراهيم الخليل(ع) من أولاد يعقوب بن اسحاق «إسرائيل»(ع)، وهو كريم الطبع والصفات والخصال والسلوك، إذ يتحلى بالأخلاق الحسنة والخصال الحميدة ويعمل الخيرات والأعمال الصالحة التي ظهرت منه وثبتت له ولم يسبقه فيها أحد غيره، وهو كريم في قومه لشرف نسبه وكريم خصاله، وكريم عند الله تبارك وتعالى، بأن استحق عليه أنواعاً كثيرة من الإكرام له، مثل: النبوة والرسالة والتكليم والنعم الجسمية، وذلك لحسن طبعه وسلامة منطقه وفكره وعقيدته وجميل أخلاقه وحسن صفاته وحميد خصاله وصالح أعماله ونفعه إلى العباد وهدايته إليهم وإرشادهم لما فيه كمالهم وخيرهم وصلاحهم ومصلحتهم وسعادتهم الحقيقية الكاملة في الدارين الدنيا والآخرة، ودفاعه عن المظلومين والمستضعفين ونحو ذلك، وبحسب المنطق ومقتضى الحكمة وبحسب التجربة، فإن الله(عز وجل) لم يبعث نبياً إلا أن يكون كريماً في نفسه، ويقع في الذروة من أشراف قومه وكرامتهم.

وامتحان فرعون وقومه بإرسال موسى الكليم(ع) إليهم، بأن يبين لهم الحق والعدل والخير والفضيلة والصلاح والأعمال الصالحة وما شرّعه الله تبارك وتعالى إليهم من العبادات والسنن والأحكام، ودعاهم ليؤمنوا بالتوحيد ويعملوا بمقتضاه وأن يطيعوا رسوله فيما يأمرهم به وينهاهم عنه، ويبين لهم الباطل والظلم والشر والرذيلة والضلال والفساد والأعمال السيئة ونهاهم عن الكفر والضلال والمعصية لله سبحانه وتعالى ولرسوله الكريم(ع) ويقيم عليهم الحجة في جميع ذلك، قول الله تعالى: <رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>[2] وقول الله تعالى: <لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ>[3] وقد اختار فرعون وقومه الكفر على الإيمان والضلال على الهدى بعد إقامة الحجة البالغة عليهم، وعصوا ربهم وعتوا عن أمره واستكبروا على الله سبحانه وتعالى وعلى الحق وأهله استكباراً فأغرقهم في البحر أجمعين.

وفي الآية الشريفة المباركة: تسلية للمؤمنين والمصلحين والمستضعفين وإنذار وتحذير لكافة المشركين والظالمين والمستكبرين والمعاندين في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا.

ويعتبر الابتلاء والامتحان سنة إلهية تعم الأفراد والمجتمعات البشرية في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، قول الله تعالى: <أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ 2 وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ>[4] أي: أحسب الناس أن يتركوا بمجرد قولهم آمنا ثم لا يفتنون ولا يمتحنون بما يظهر به حقيقة ما في أنفسهم من الصدق والإخلاص أو الكذب والنفاق، ويقسم رب العزة والجلال بأن الناس لن يتركوا الآن وفي المستقبل بغير امتحان، وأنه قد امتحن الناس جميعاً: الأفراد والجماعات والأمم فيما مضى، فالامتحان والابتلاء سنة إلهية ثابتة جارية في جميع الأفراد وفي جميع الأمم في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، ليعلمن الله(عز وجل) المخلصين الذين صدقوا في إيمانهم وثبتوا عليه رغم المكاره، وليعلمن المنافقين الكاذبين الذين يظهرون الإيمان وهم كاذبون فيما أظهروه، والضعفاء الذين إذا أوذوا في الله جعلوا فتنة الناس كعذاب، فيجرون وراء كل مطمع ويخافون ويهربون من كل تهديد ووعيد، أي، امتحن الله الناس ليظهر علمه فيهم وما يعلمه من حقيقتهم الفعلية والأفعال التي يستحقون عليها الثواب والعقاب، لتكون له الحجة البالغة التامة عليهم.

وقيل: ابتلاهم بأن أمهلهم وأعطاهم الملك والسلطة والقوة والإمكانيات الضخمة والثروة العظيمة الواسعة والتمكن في الأرض ووسع عليهم في الرزق فغّرتهم، وكانت سبباً لطغيانهم وتمردهم على الحق وأهله واستكبارهم وجحودهم بالنعمة، فلم يؤدوا حقها ولم يشكروا المنعم بها عليهم واستخدموها في الإضلال والإفساد في الأرض، وتهافتوا على أنواع المعاصي والذنوب والآثام والظلم والجور والجرائم ونحو ذلك، فانتقم الله(عز وجل) منهم بأن سلبهم النعمة وأهلكهم بالغرق أجمعين ومحاهم من صفحة الوجود.

وكانت رسالة موسى الكليم(ع) إلى فرعون، تتضمن النقاط الرئيسية التالية:

1. <أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ>[5] أي: ارفعوا أيديكم عن عباد الله المؤمنين المستضعفين وهم بنو إسرائيل، بتحريرهم من العبودية والاسترقاق والاستضعاف والإذلال، ولا تعذبوهم بذبح الأولاد والذكور واستحياء الناس للخدمة والمتعة الجنسية، وباستخدامهم في الأعمال الشاقة والوضيعة، وامنحوهم حق السفر والهجرة من مصر إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين، التي هي موطن جدهم إسرائيل «يعقوب»(ع) قبل هجرته منها إلى أرض مصر على عهد حكومة ابنه يوسف الصديق(ع) العادلة في القرن الثالث عشر (13) قبل الميلاد، أي: قبل أكثر من أربعمائة سنة، حيث أمرهم الله سبحانه وتعالى بالعودة إليها معي واستيطانها من جديد، وهم عشيرتي وأنا زعيمهم وقائدهم والمقدم فيهم، وهم راغبون في الهجرة إليها معي.

ويعتمد هذا الطلب لموسى الكليم(ع) من فرعون الطاغية على الأسباب المنطقية والواقعية التالية:

أ.   <إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِين>[6] لأني رسول إليكم من رب العالمين، وهو الذي أمرني بذلك، وطاعته حق وواجب عليكم وعليهم.

ب. أني أمين من الله تبارك وتعالى على وحيه ورسالته، لا ألتمسكم منه شيئاً، ولا أزيد عليه ولا أنقص منه شيئاً، وأمين كذلك على مصلحتكم ومصلحتهم، غير مهتم في شيء من ذلك، ولا أخون في دعوى الرسالة ولا فيما عرضته عليكم من مطالب وقدمته إليكم من ضمانات، فلا أريد بتحرير بني إسرائيل الانقلاب عليكم والاستيلاء على السلطة والاستئثار بالسلطة والثروة والمقدرات وطرد الأقباط من أرضهم وديارهم ووطنهم والإضرار بمصالحكم، فإني أمين على مصالحكم ومصالح بني إسرائيل، على حد سواء، وقد أردت فقط العدالة وإعطاء كل ذي حقٍ حقه.

وهذا يدحض الاتهامات الباطلة التي ألصقها فرعون بولي الله الأعظم ورسوله الكريم، مثل: السحر والسعي إلى التفوق والاستيلاء على السلطة والثروة والمقدرات وغيرها، كما أن الرسالة من رب العالمين وما يتحلى به من الأمانة والصدق والوفاء وغير ذلك من الصفات الكريمة، توجب بحسب العقل والمنطق طاعته والانقياد له وتحقيق مطالبه الإصلاحية الدينية والسياسية والحقوقية.

وبحسب العقل والمنطق والحقوق، فإن استضعاف عباد الله وإذلالهم وتعذيبهم، يعدُّ استكباراً على الله (جل جلاله)، وظلماً للعباد، وليس لفرعون وقومه في ذلك أدنى حق، بل هو حرام ومرفوض بحكم العقل وفي جميع الأديان والشرائع الإلهية وعاقبته سيئة مذمومة في الدارين الدنيا والآخرة، فليس لفرعون ولا لغيره الحق في استعباد الناس وفرض الوصايا عليهم وإخضاعهم لإرادته وحكم الأمر الواقع بغير رضاهم وعلى خلاف إرادتهم ومصلحتهم.

والهجرة حق إنساني ثابت لبني إسرائيل وهي في مصلحتهم وهم راغبون فيها، فليس لفرعون الحق في منعهم منها وإجبارهم على البقاء في أرض مصر، خاضعين لإرادة فرعون وحكومته، ويستخدمهم في الأعمال الشاقة والوضيعة استهانة بهم وانتهاكاً لحقوقهم وللعدالة والمساواة ونحو ذلك، وعليه: فإذا منعهم من الهجرة فواجبي الشرعي والقومي هو مناهضتك ومناصرة بني إسرائيل حتى يحصلوا على كافة حقوقهم، ومنها: حقهم في الهجرة، طوعاً منك أو كرهاً، وقد وعدني ربي الكريم بأن ذلك حادث لا محالة فلا تقدر على منعه بأي حال من الأحوال.

ووصف الله سبحانه وتعالى لبني إسرائيل بـ<عِبَادَ اللَّهِ>[7] فيه استرحام لهم، ودليل على أن استضعافهم وإذلالهم وتعذيبهم فيه استكبار على الله(عز وجل)، وليس فيه لفرعون أي حق.

وقيل: المراد من قوله: <أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ>[8] نداء لهم، بمعنى: أدوا إليّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان بي وقبول دعوتي وطاعتي واتباع سبيلي، أي: أطيعوني فيما آمركم به من الإيمان والطاعة لله سبحانه وتعالى وأداء ما فرضه عليكم من الصلاة والصيام والحج والزكاة والعمل بالسنن والأحكام، وفيما أنهاكم عنه من الكفر والضلال والفسوق والعصيان والطغيان والعدوان، لأنكم عباد الله (جل جلاله)، وأنا أبلغكم عنه، وأمرني بتبليغ ما بلغته إليكم، وإقامة الحجة عليكم، فإن أطعتم كنتم من المهتدين الفائزين المصلحين السعداء، وإن عصيتم كنتم من الضالين الخاسرين الأشقياء.

2. <وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ>[9] أي: أدعوكم إلى الهدى والرشاد والإيمان بتوحيد الله سبحانه وتعالى وطاعته، وهو حق بيّن ثابت عليكم، يستند إلى الحجة والبرهان والدليل الصحيح، فلا تستعلوا وتتجبروا على الله سبحانه وتعالى بأي عمل لا ينسجم مع أصول العبودية المطلقة لله رب العالمين سبحانه وتعالى، والاستمرار في ادعاء الألوهية والربوبية وفي الشرك وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، والعلو على العباد بفرض الإرادة الإستكبارية عليهم وإخضاعهم لحكم الأمر الواقع بالقوة والعنف والإرهاب والتضليل ونحو ذلك، بغير رضاهم وعلى خلاف إرادتهم ومصلحتهم، وبتكذيب رسالته ورسوله إليكم، والاستهانة بي والإعراض عما آمركم به من الإيمان والطاعة، والإصرار على ما أنتم عليه من العناد والمكابرة والكفر والضلال والفسوق والعصيان والطغيان والعدوان والظلم والجور والاستضعاف لعباد الله وإذلالهم وتعذيبهم، فإن في تكذيب الرسول في رسالته، استعلاء وتجبر على من أرسله.

وقد جئتكم <بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ>[10] أي: بآيات كريمات، ومعجزات باهرات قاهرات، وفي مقدمتها: العصا التي تتحول إلى ثعبان حقيقي ضخم، واليد السمراء التي تتحول إلى بيضاء في غاية الحسن والجمال، وتشع نوراً بهياً أبهى من نور الشمس الطالعة يملأ المكان، وسائر الآيات التسع، وحجج ظاهرات بارزات، وبينات واضحات فاصلات، وأدلة وبراهين نيرة ساطعة قاطعة، يعترف بصحتها كل عاقل منصف صاحب منطق سليم، ولا سبيل إلى إنكارها، تثبت صدق نبوتي ورسالتي إليكم من رب العالمين، وعدالة قضيتي، وصحة دعوتي إليكم إلى التوحيد، وشرعية المطالب الإصلاحية، الدينية والسياسية والحقوقية التي تقدمت بها إليكم، وفي مقدمتها: تحرير بني إسرائيل ورفع اليد عنهم، والسماح لهم بالهجرة بحسب رغبتهم إلى أرض فلسطين، ولكنهم بدل الإيمان والتصديق به، كذبوه وهموا بقتله.

3. <وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ>[11] لقد هدد فرعونُ المتغطرسُ الطاغيةُ موسى الكليم(ع) وتوعده بالسجن والقتل بأشر القتلات وهو الرجم بالحجارة وتشويه السمعة في الرأي العام، كما هو دأب الفراعنة دائماً مع المعارضين لهم، فرد عليه موسى الكليم(ع) بكل ثقة وثبات: إني قد التجأت واستجرت واحتميت بالله(عز وجل) رب العالمين، الذي هو ربي وربكم على حد سواء وإني متكل عليه، وهو يعيذني ويعصمني منكم، وهو حارسي وحافظي من أن تقتلوني أو أن تنالوني بأذى مادي أو معنوي، ولأن الله(عز وجل) هو المدبر الوحيد للعالم ولأمري ولأمركم وهو المالك لأنفسنا وصفاتنا وأفعالنا، فلا نقدر على فعل شيء إلا بإذنه.

أي: لا تقدرون على قتلي وإلحاق الأذى والضرر بي إلا بإذنه، وقد وعدني بالسلامة منكم، فلن تقدروا على قتلي أو إلحاق الضرر والأذى بي مطلقاً.

وعليه: فهو لم يكن مبال بهم وبكيدهم وغير خائف بما كانوا يتوعدون به من القتل والأذى، وأنه يملك إرادة الثبات والصمود في وجههم حتى النفس الأخير، وهذا هو حال المؤمنين المجاهدين الصادقين في إيمانهم وجهادهم، ويعتبر هذا الحزم والعزم والثبات والروح الإيمانية القتالية، من أهم الأسباب الرئيسية التي تلهم المحبين والأتباع الثبات والاستقامة والاستعداد التام للبذل والتضحية والفداء؛ لأنهم يعلمون أن إمامهم وقائدهم يقاوم ويضحي حتى النفس الأخير فيقتدون به ويتحلون بأخلاقه وصفاته، كما يعجّل بانهيار الأعداء وتراجعهم، وهذا يدل على ضرورة تحلي القيادات بهذه الصفات من أجل النجاح والانتصار وتحقيق الأهداف.

4. <وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ>[12] أي: لقد بينت لكم الحق ودعوتكم إليه، وبينت لكم الباطل ونهيتكم عنه، وأتممت عليكم الحجة التامة البالغة، فلا عذر لكم في المخالفة، ومقتضى العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، ومن أجل مصلحتكم في دورة الحياة الكاملة وسعادتكم في الدارين الدنيا والآخرة، أن تؤمنوا بالتوحيد والنبوة والمعاد، وتطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه، وتتبعوا سبيلي وتقتدوا بي مطلقاً، فإن فعلتم فهو مرادي منكم ومقصودي وما أطمع فيه معكم، وإن لم تصدقوني ولم تقروا بنبوتي ورسالتي إليكم، وأبيتم إلا تكذيبي ومخالفتي والإصرار على العناد والمكابرة وعلى ما كنتم عليه من الكفر والضلال، فإني أطلب منكم الحد الأدنى بحسب العقل والمنطق والحقوق الطبيعية للإنسان، وهو أن تتركوني ومن آمن بي وشأننا، فلا تكونوا لنا ولا علينا، ولا تتعرضوا لنا بشركم وأذاكم، حتى يحكم الله سبحانه وتعالى بيننا وبينكم بالحق وهو أحكم الحاكمين، فقد دعوتكم إلى الخير والصلاح والفلاح، وأتممت عليكم الحجة في ذلك، وجادلتكم بالتي هي أحسن، فليس من المنطق والعدل أن يكون جزائي منكم أن تقابلوا ذلك بالشر والأذى، وهذا الخطاب المتوازن الحكيم، ينضج بالأدب الرفيع والعدل والإنصاف والحكمة والمحبة وإرادة الخير والإخلاص والوفاء والحرص التام على مصلحة المخاطب وسعادته في الدارين الدنيا والآخرة، وهذا هو مسلك المؤمنين المجاهدين والمصلحين الصادقين الشرفاء، والواثقين بعدالة قضيتهم، وشرعية مطالبهم، وقوة منطقهم وحجتهم، ولكن الفراعنة والمستكبرين والحكام المستبدين يقابلونهم بالتهديد والوعيد والقتل والسجن والتعذيب والتضييق والتشريد ونحو ذلك من الإنتهاكات والمظالم.

وقيل: كان موسى الكليم(ع) واثقاً من قدرته على التأثير في الناس، وجلبهم إلى ساحة الإيمان والطاعة، لو ترك وشأنه، وذلك بالنظر إلى ما في يديه من الآيات والمعجزات، وما يملكه من قوة المنطق والبيان، ولهذا رضى بأن يترك وشأنه، ولا يكوِّن فرعون الطاغية وحزبه المجرمون حاجزاً بينه وبين الناس، فلم يقبلوا منه وأصروا على قتله وإلحاق الأذى به وبالمؤمنين، فأخذهم الله(عز وجل) أخذ عزيز ومقتدر فأهلكهم جميعاً بإغراقهم في البحر ومحوهم من صفحة الوجود، عقاباً لهم بسبب جرائمهم ورحمة بالمؤمنين المستضعفين.

وما سبق يدل على أمور عديدة في غاية الأهمية، منها:

أ.   اتباع موسى الكليم(ع) وبني إسرائيل للمنهج السلمي الحضاري الذي يقوم على المنطق وصيانة الحقوق لجميع الأطراف، وهو منهج لازم لا يجوز عقلاً وشرعاً تخطيه واللجوء إلى القوة ما دام إليه سبيلاً.

ب. كذب النظام الفرعوني فيما ادعاه من أن هدف موسى الكليم وهارون(عليهم السلام) ومعهما بني إسرائيل إسقاط النظام الفرعوني والاستيلاء على السلطة وإقصاء أنصار فرعون والموالين له عن المناصب الرئيسية والوظائف العامة العليا، وطرد المواطنين الأصليين وهم الأقباط من أرضهم وديارهم ووطنهم بغية الاستئثار دونهم بالسلطة والثروة والمقدرات، كما أن المطالبة بحق الهجرة والشروع فيها يدل على نفس الأمر.

ج. لا يجوز الرضوخ لإرادة الطواغيت الضالين والفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين والمستكبرين، والقبول بالذل والهوان وفرض حكم الأمر الواقع، فيجب بحكم العقل والشرع الرفض لذلك ومقاومته والسعي لتحصيل الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير والحياة الكريمة واختيار نظام الحكم والحكومة وصيانة الحقوق الطبيعية والمكتسبة كافة، والتضحية في سبيل ذلك كله.

ولأن الطغاة في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا يخشون من بقاء الحق طليقاً، ويعيشون الخوف والعقد النفسية والهوس الأمني منه، لما يعرفونه عن أنفسهم من القيام على الباطل والظلم والبغي والعدوان والطغيان، فلم يترك فرعون الطاغية موسى الكليم(ع) والمؤمنين لحال سبيلهم، كما هو دأب الفراعنة والحكام المستبدين الظلمة والمستكبرين في العالم على طول التاريخ وعرض الجغرافيا مع المعارضين لهم، فهم يأخذونهم بالتهمة والظنة، ويضيقون عليهم بكل وسيلة وتحت كل عنوان مضلل، وباسم القانون والعدالة، ومن أجل المحافظة على الأمن والاستقرار وهيبة الدولة والمصالح الشعبية والمكاسب الوطنية ونحو ذلك من الأباطيل والتضليلات والمغالطات التي يريدون من وراءها تصفية الخصوم، والاستمرار في السلطة والإبقاء على الصلاحيات الواسعة والامتيازات الفخمة والمصالح الخاصة لأنفسهم، ونحو ذلك.


  • [1]. الدخان: 17-21
  • [2]. النساء: 165
  • [3]. الأنفال: 42
  • [4]. العنكبوت: 2-3
  • [5]. الدخان: 18
  • [6]. نفس المصدر
  • [7]. نفس المصدر
  • [8]. نفس المصدر
  • [9]. الدخان: 19
  • [10]. نفس المصدر
  • [11]. الدخان: 20
  • [12]. الدخان: 21
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى