رد موسى على اتهام فرعون وملئه
<وَقَالَ مُوسَىٰ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُون>
وقد رد موسى الكليم(ع) على تكذيب فرعون وملئه واتهامه بالسحر بقوله: <رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ>[1] أي: إن وجود الله سبحانه وتعالى وربوبيته ثابت ومقرر بحكم العقل والمنطق السليم، وهو محيط بخلقه قدرةً وعلماً، فهو الحق الحقيق وهو يعلم حالي ومطلع على سري وعلانيتي، وهو أعلم منكم بمن يستحق النبوة والاصطفاء للرسالة وهداية الناس، ومن المحال أن يسمح لأحد بأن يتقول عليه كذباً وزوراً، وأن يدعم من يتقول عليه بغير حق ويؤيده بالمعجزات؛ لأنه غني حكيم وقوي عزيز، فلا يرسل الكاذبين والسحرة وأمثالهم؛ لأنه غني عنهم وغير محتاج إليهم؛ ولأن إرسالهم مخالف للحكمة والصواب ولغاية خلق الإنسان وبعث الأنبياء والرسل الكرام(عليهم السلام) التي هي هداية الإنسان وإيصاله إلى كماله اللائق به والمقدر له بمقتضى الحكمة الإلهية البالغة، وإلى سعادته الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، ولا يترك من يتقول عليه بغير حق وشأنه، وهو القادر على فضحه وإهلاكه؛ لأن تركه فيه تغرير للناس ومخالف أيضاً للحكمة الإلهية وناقض لغاية خلق الإنسان، ولأن المعجزات النيرات الباهرات لا تكون إلا من عند الله(عز وجل) ومن المحال على الله سبحانه وتعالى أن يدعم ويؤيد بالمعجزات من يكذب عليه، وقد أتيت بالمعجزات فعلاً، فأنا محق، وما أدعيه من النبوة والرسالة صدق لا شك فيه ولا ريب، وأن الله سبحانه وتعالى قد اختارني للنبوة واصطفاني للرسالة وأرسلني بدين الحق والتوحيد إليكم، وأن ما أدعوكم إليه هو الهدى الحقيقي والرشاد الفعلي، وفيه صلاح أمركم ونجاتكم من المخازي والمخاوف والمهالك، وفيه سعادتكم الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، وأن ما أنتم عليه من الدين هو الضلال بعينه والسفاهة بحقيقتها، وفيه فساد أمركم وانحطاطكم المعرفي والتربوي والحضاري، وتخلفكم وهلاككم وشقاؤكم في الدارين الدنيا والآخرة.
وعبارة: <رَبِّي أَعْلَمُ بِمَن جَاءَ بِالْهُدَىٰ مِنْ عِندِهِ>[2] فيها إشارة إلى الاستغناء بالله ذي الجلال والإكرام والاكتفاء به عن جميع خلقه، أي: إذا كنت على الهدى عند الله فلا أبالي بتكذيبكم إياي، وسأمضي في طريقي، ولا أبالي بغضبكم وانتقامكم مني، قول الرسول الأعظم الاكرم(ص): «إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي»[3]، فالمهم هو رضا الله (جل جلاله)، ورضا غيره تابع لرضاه، فإذا رضي فلا يهم غضب غيره، سواء كانوا ملوكاً أم أناس عاديين، وأن رضا النفس الحقيقي وراحة الضمير، وغنى النفس الحقيقي وكمالها الفعلي يكمن في ذلك لا في سواه، قول الامام الحسين(ع): «ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟»[4].
وفيها توجيه لفرعون وملئه: بأن عليكم أن تنظروا فيما جئتكم به من المعجزات وتتدبروا فيها برؤية ومنطق سليم، لتعلموا حقيقتها ودلالتها على صدق نبوتي ورسالتي إليكم.
وتعرض لهم؛ لأنهم لم يفعلوا ذلك وإنما تعصبوا إلى ما وجدوا عليه آباءهم وأجدادهم من الدين وورثوه منهم واتبعوه بغير حجة ولا برهان، ورفضوا الدين الحق الذي قام عليه الدليل القاطع، والأولى بحكم العقل والفطرة هو الأخذ بدلالة المعجزات النيرات وحجتها بدل التعصب الأعمى للتراث والجمود عليه بدون حجة ولا برهان، ولكنكم للأسف الشديد لاتفقهون حجة ولا تريدون أن تعلموا حقائق الأمور؛ لأنكم لا تريدون أن تغيروا ما أنتم عليه وما تعودتم وتربيتم عليه من الدين، وأنتم غافلون عن حقيقة إنسانيتكم وما به كمالكم وسعادتكم الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، الذي يقتضي خضوعكم للعقل واتباع المنطق السليم لا للتعصب والجمود، وغافلين عن مصيركم الوجودي المحتوم في دورة الحياة الكاملة.
ثم إذا كنتم غير قابلين لنصحي إياكم وغير مبالين بما جئتكم به من المعجزات النيرات والبينات الواضحات والأدلة الساطعة القاطعة والبيان التام الجلي، وأبيتم إلا التمادي في غيكم والإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والتكذيب والمعاصي والجرائم والذنوب والطغيان والاستعلاء والفساد في الأرض فإن الله (جل جلاله) ربي وربكم الذي له الخلق والأمر أعلم بالمهتدي والضال منا ومن تكون له عاقبة الدار، أي: من تكون له العاقبة المحمودة في الدارين الدنيا والآخرة، نحن أم أنتم؟ الذي يوظف عقله ويخضع للمنطق السليم فيصدق بالمعجزات النيرات والبينات الواضحات ويؤمن بعقيدة التوحيد والمعاد ويصدق المرسلين ويتبعهم ويعمل الأعمال الصالحة، أو الذي يتجاهل عقله وضميره ويخالف المنطق السليم ويتعصب لدين آبائه وأجداده بغير حق ولا حجة صحيحة ولا برهان سليم ولا يذعن للمعجزات الإلهية النيرة ولا للبراهين الساطعة والبينات الواضحة، ويدأب على عبادة الطواغيت وطاعة الفراعنة والحكام المستبدين الظلمة وتقديس الأصنام ويكذب المرسلين ويعصيهم ويحارب دعواتهم ويساهم في إيذائهم وقتلهم ويناهض حركات الإصلاح والمصلحين والمطالببين بحقوق الإنسان ونحو ذلك، من الذنوب والمنكرات العظيمة المخالفة للعقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم والناقضة لكرامة الإنسان ومكانته الوجودية النوعية المتميزة بين الموجودات.
ولا شك: فإن الذي يتبع العقل والمنطق ويؤمن بالتوحيد والدين الحق ويتبع الرسل ويعمل الأعمال الحسنة الصالحة هو الذي تكون له العاقبة المحمودة في نهاية الأمر في الدارين الدنيا والآخرة، ويكون من السعداء الناجين، فالأرض لله(عز وجل) يورثها من يشاء من عباده، وقد كتب بحكمته وحتم أن يورثها عباده الصالحين، وقد كتب بحكمته وعزم بعدله وحتم أن الجنة والرضوان في الآخرة للعارفين به، المتقين المطيعين له، العاملين الأعمال الصالحة وليس لغيرهم، وأن الذي يتجاهل العقل ويخالف المنطق والضمير والفطرة والطبع الإنساني السليم ويتبع الطواغيت ويطيع الفراعنة والحكام المستبدين الظلمة ويعينهم على ظلمهم وفسادهم في الأرض وطغيانهم وعلوهم، ويعبد الأصنام، ويقدس الباطل تحت عنوان التراث ونحوه، لا يكون أبداً من المصلحين الفائزين عند الله، وتكون له العاقبة السيئة المذمومة ويكون من الأشقياء الهالكين في الدارين الدنيا والآخرة.
وبحكم العقل والمنطق والفطرة فإن العاقبة المحمودة الحسنة هي العاقبة التي يعتد بها العقلاء ويعملون من أجلها، ويحذرون العاقبة السيئة المذمومة ويعملون من أجل تجنبها والابتعاد عنها، والله يعلم أني على الحق والهدى والصواب وأنتم على الباطل والضلال والخطأ، وقد أرسلني إليكم بالهدى ودين الحق ووعدني بأن من صدقني وأخد بديني واتبعني وأطاعني فله العاقبة الحسنة المحمودة في الدارين الدنيا والآخرة، ومن كذبني وخالفني وعصاني فله العاقبة السيئة المذمومة والهلاك والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة، والدليل على ذلك المعجزات النيرات والبينات الواضحة والأدلة الساطعة القاطعة التي جئتكم بها من عنده، وعليه: فإني حريص على هدايتكم ونجاتكم ولا يضرني عنادكم وتكذيبكم إياي، ولا أكترث بتهديداتكم إياي بالقتل ونحوه، ثقة مني بربي وبوعده الصادق لي بحسن العاقبة والثواب الجزيل في الآخرة.
وقد صارت العاقبة الحسنة المحمودة والفوز والفلاح لموسى الكليم(ع) وأتباعه في الدارين الدنيا والآخرة وكانت العاقبة السيئة المذمومة والمؤلمة والخسارة البينة المعلومة، والشقاء والهلاك لفرعون وأتباعه في الدارين الدنيا والآخرة.
وقيل: <وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ>[5] تعني العاقبة الحسنة المحمودة لدار الدنيا وهي الجنة؛ لأن الدنيا خلقت من أجل الآخرة، ولقول الله تعالى: <وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ>[6]، وقيل: العاقبة الحسنة المحمودة في الحياة الدنيا نفسها، لقول الله تعالى: <قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ>[7] والجمع بينهما أتم وأفضل وأحسن الوجوه وهذه نتيجة حتمية وفق منطق العقل والحكمة والسنن الإلهية، فلا يمكن لظالم متجبر متجاوز للحق والعدل والخير والفضيلة إلى الباطل والظلم والجور والطغيان والفساد والشر والرذيلة أن يفلح ويفوز بحسن العاقبة وينجو من الهلاك والشقاء ويكون من السعداء في الدارين الدنيا والآخرة، بل لابد لظلمه وفساده وشره أن يرديه ويفضحه ويشقيه ويهلكه في الدارين الدنيا والآخرة، فالظلم والشر والفساد والأعمال القبيحة مقدمة تؤدي إلى الابتعاد عن ساحة القدس وعن الرحمة الإلهية وينتج عنها الهلاك والشقاء والوحشة في الدارين الدنيا والآخرة.
وفي المقابل، العدل والخير والصلاح والأعمال الصالحة مقدمة تؤدي إلى القرب من ساحة القدس ومن الرحمة الإلهية والرضوان العظيم وينتج عنها النجاة والسعادة والأنس في الدارين الدنيا والآخرة، تماماً كما يشتد النور أكثر كلما اقتربنا أكثر من مصدر النور، وتشتد الظلمة أكثر كلما ابتعدنا أكثر عن مصدر النور، وكلما كان الحجاب أكبر وأكثر كثافة كلما كانت الظلمة وراء الحجاب أكثر، وبينما يكون الجانب المواجه للمصدر من الحجاب مضيئاً ونيراً، يكون الجانب الآخر من الحجاب مظلماً ومعتماً، ولا يغير في هذه المعادلة ما نجده كثيراً من العذاب والألم والبؤس الذي يعاني منه المؤمنون في الظاهر في الحياة الدنيا، وما يتمتع به الكافرون والمنافقون والعصاة من النعيم واللذات الحسية في الظاهر في الحياة الدنيا، فإن القيمة الحقيقة والمعيار في الأمر هي الحالة الروحية والنفسية التي عليها الإنسان وأن لذة الإيمان والثقة بالله ذي الجلال والإكرام وبوعده تذيب ما يعانيه المؤمنون من العذاب والألم والبؤس في الظاهر وتحوله إلى أنس حقيقي ولذة روحية لا تنطفي، وفي المقابل فإن الكفر والخوف من المستقبل والمفاجئات تذيب ما يشعر به الكافرون من النعيم واللذات الحسية في الظاهر وتحوله إلى وحشة حقيقية وعذاب وألم روحي قاتل.
وقيل: إن عبارة: <إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ>[8] معناها: أن حبل الكذب قصير، وأن الكذب قد تختفي حقيقة كونه كذباً لمدة من الزمن، ولكن سرعان ما يفتضح أمره وتنكشف حقيقة كونه كذباً، وعليه: فانتظروا لتشهدوا من الصادق الذي تكون له العاقبة الحسنة المحمودة والانتصار، ومن الكاذب الذي تكون له العاقبة السيئة المذمومة والاندحار، وفي العبارة تعريض واضح بفرعون وملئه وقومه المعاندين للحق والمستكبرين على أهله والمكذبين بالرسل الكرام(عليهم السلام) بأنهم لن تكون لهم العاقبة الحسنة والمحمودة بل ستكون لهم حتماً العاقبة السيئة المذمومة؛ لأنهم تجاهلوا الحق وخالفوا المنطق السليم وعاندوا وأصروا واستكبروا وبنو سيرتهم وسنتهم في الحياة على الباطل والظلم والجور والطغيان والفساد في الأرض على خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم، وخالفوا السنن الإلهية وعاندوا النظام القائم عليها، وفيها إشارة إلى وجوب مقاومتهم والثورة عليهم وعدم الرضوخ إلى إرادتهم المنحرفة وإلى نزواتهم وأهوائهم الشيطانية ورغباتهم وشهواتهم الحيوانية، ولما يترتب على السكوت عليهم من الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان وانحطاط معرفي وتربوي وحضاري وانسلاخ إنساني وضياع حقيقة الإنسان.