مواضيع

استجابه الرب الرحيم لطلبات موسى وتطميناته

<قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ>

وقد أجاب الله تبارك وتعالى دعاء موسى الكليم(ع) وأعطاه جميع ما سأله، وقال له: <قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ>[1] وسنشد عضدك بأخيك ونقويك به، ونجعل لكما هيبة إلهية نورانية تبهران بها فرعون وتقهران جبروته وطغيانه، فلا يصلون إليكما بسوء أو أذى.

وأمره بأن يذهب مع أخيه ووزيره وشريكه في النبوة والرسالة إلى فرعون وملئه ويبلغوهم الرسالة الإلهية، ونهاهما عن الفتور والتقصير في ذكره أو في تبليغ الرسالة وتحمل المسؤولية، وأداء ما كلفا به، وأمرهما بأن يقصدا فرعون بالذات؛ لأنه رأس النظام الفرعوني والطغيان والتجبر والفساد في الأرض، وأوصاهما بأن يلينا له في القول، ويبلغاه الرسالة الإلهية في رفق دون فحش ولا صلف ولا غلظة في القول ولا فظاظة في الأفعال والتصرفات، بدون أن يخل ذلك بشيء من الوضوح والصراحة في إبلاغ الرسالة وكشف الحقائق الكونية والتاريخية والسياسية وغيرها، وبيانها على أحسن وأكمل وجه، لعله بحسن الكلام وطيب الخلق يلين قلبه ويصلح طبعه فيستمع منهما إلى آيات الله سبحانه وتعالى وبيناته، ويمعن النظر فيما يوعظ وينصح به، فيتذكر ما ينفعه فيأتيه، وما يضره فيتركه، ويخشى الله رب العالمين ويطيعه ويسلم إلى أمره ونهيه.

وهذا إرشاد إلهي شريف ينبغي أن يحتذى به في الدعوة إلى الله (جل جلاله) وفي الإصلاح؛ لأن اللين أفضل أثراً من العنف والشدة في رد النفس عن غيّها، ويعطي الإنسان فسحة للتفكير والتأمل والمراجعة وإدراك الحقائق كما هي عليه، وإدراك فائدة الموعظة والنصيحة، بعيداً عن الغضب والاستثارة التي تعتبر حجاباً يحجب العقل والقلب عن معرفة الأمور وإدراك الحقائق كما هي، ويهيأ النفس لقبول ما يعرض عليها من الحق والخير والعدل والفضيلة، وهو أليق بكرامة الإنسان ومكانته من الغلظة والقوة، فالشدة والقول الغليظ يحملان الإنسان عادة على النفور والتمرد والمقاومة، وعدم قبول ما يعرض عليه دفاعاً عن النفس وكبريائها.

إلا أن فرعون الطاغية لم يتأثر بحسن الكلام وطيب الخلق ولا بالبراهين العقلية القاطعة، ولم يصدق المعجزات النيرة الباهرة، ولم يتراجع عن الغي والضلال والفساد في الأرض، والعدوان على الناس، بل أصر واستكبر، مما يدل على أن اللين إنما يفيد ويعطي مفعوله الإيجابي في نفس الإنسان المعادي النفعي، فقلما ينفع معهم اللين وقد يحاولون أن يرموا الإنسان الفاضل الناصح لهم بأقبح النعوت وأسوء الصفات، ويتطاولوا على كرامته وحياته.

وعليه: لا ينبغي الجمود على أسلوب واحد مع جميع الأشخاص ومختلف الظروف، بل يجب الانتقال إلى المحاولة بأساليب أخرى حال فشل اللين، تبدأ بالقول البليغ في أنفسهم، قول الله تعالى: <أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا>[2] أي: المنافقين ونحوهم، وتنتهي بقتالهم دفاعاً عن الحق والحقوق وطلباً للإصلاح والعدل في الأرض.

وتعتبر الاستجابة الإلهية لطلب موسى الكليم(ع) بشأن أخيه هارون(ع) من أكبر فضائل موسى الكليم(ع) ودليل على مكانته ومنزلته عند الله (جل جلاله) وقرب منزلته منه، وعلى عظيم نصحه وإحسانه لأخيه هارون(ع)، بأن سأل ربه أن يجعلة نبياً مثله وشريكاً معه في الرسالة، وبمثل هذا السؤال تعرف المحبة والنصح للأهل والأخوان، كما تعتبر الاستجابة الإلهية كذلك دليلاً على أهمية المشاورة والقيادة الجماعية، وأن لابد لكل دعوة وحركة ثورية أو إصلاحية من أنصار مؤمنين بعدالة قضيتها وشرعيتها وواقعيتها، والتضحية بالنفس والنفيس من أجلها، وأن العلم والشجاعة والكفاءة لا تكفي وحدها لإثبات عدالة القضية والدفاع عنها، ما لم تقترن بوجود الأنصار والحاضنة الشعبية، وإقامة الحجة بالبرهان وحسن البيان مما يكشف عن أهمية الدعاية ووسائل الإعلام، وضرورة أن تتصف هذه الوسائل بالوضوح والنزاهة وتسعى لإحقاق الحق وبيانه والانتصار لأهله، وليس الانتصار للباطل وأهله والدفاع عنهم والتشهير بالحق وأهله ومحاربتهم والوقوف في وجههم مقابل المال أو تحت تأثير التعصب الأعمى القومي أو الديني أو الطائفي أو نحو ذلك.

وقد ثبت بالتجربة أن ما تتركه وسائل الإعلام المنحرفة من فساد ليس أقل مما تتركه وسائل الإعلام المستقيمة من صلاح، بل يزيد عليه كثيراً، كما تدل الاستجابة الإلهية لسؤال موسى الكليم(ع) بشأن أخيه هارون(ع) على خطورة الدكتاتورية والاستبداد والتفرد في القيادة على الكيانات والجماعات والمؤسسات الكبيرة والصغيرة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مثل: الدولة، والحزب، والنقابة، والنادي، والبنك، والمدرسة، والجامعة، ونحو ذلك، وهي من الأنانية وسوء الخلق وأسباب الفشل في القيادة والنهوض بالأمة أو الجماعة أو المؤسسة والوصول بها إلى تحقيق أهدافها، في الوقت الذي تؤكد فيه على ضروة الكفاءة والتأهيل للقيادة الناجحة.

وعبارة: <وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا>[3] دليل على أن نبوة هارون(ع) تابعة لنبوة موسى الكليم(ع)، وأن لموسى الكليم(ع) الإمامة والتقدم والزعامة على هارون(ع) رغم أنه يكبره بثلاث سنين، مما يدل على أن الإمامة والقيادة تدور مدار الفضيلة والكفاءة، وليس مدار السن وتقدم العمر قطعاً، وهذا حكم عقلي وشرعي في غاية القيام والوضوح.

وقد تضمنت الرسالة الإلهية التي حملها موسى الكليم وهارون(ع) إلى فرعون النقاط الرئيسية التالية:

•   أن يبلغوهم بأنهما رسولان من عند الله سبحانه وتعالى، وأنه رب العالمين، وأن فرعون عبد من عباده، وليس بإله ولا رب، ويجب عليه أن يسلم لله رب العالمين ويطيعه في أمره ونهيه.

•   لا يحق لفرعون أسر بني إسرائيل وسلب حريتهم وتعذيبهم باستخدامهم في الأعمال الشاقة، ويجب عليه أن يطلق سراحهم ويساوي بينهم وبين الأقباط في الحقوق والواجبات، وأن يعطيهم حقهم في حرية البقاء في مصر أو الهجرة منها إذا شاءوا إلى الأرض المقدسة فلسطين.

•   أن يخبروهم بأن لديهما البينة النيرة الواضحة والدليل القاطع على صدق نبوتهما ورسالتهما وعدالة قضيتهما ومطالبهما السياسية والحقوقية وأنهما مكلفان بتبليغ ما قام بتبليغه إليهم.

•   أن الأمن والسلام والسعادة الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة هي من نصيب كل من آمن بالله سبحانه وتعالى وصدق المرسلين واتبعهم وعمل صالحاً، وأن فرعون مقر على ملكه إن هو آمن بالله سبحانه وتعالى وأطاع الرسول، وهالك لا محالة مع أتباعه إن هو أصر على كفره وغيه وطغيانه وفساده في الأرض وعدوانه وعلوه على العباد.

وكان موسى الكليم وهارون(عليهم السلام) قد شكيا إلى الله(عز وجل) وأعربا عن خوفهما من أن يحمل فرعون جبروته وطغيانه وقسوة طبعه على الغضب والبطش بهما والتعجيل بقتلهما أو معاقبتهما قبل أن يتمكنا من إقامة الحجة والتبليغ بالرسالة، فقال لهما ربهما: <لَا تَخَافَا>[4] فلن يصيبكما أي شيء مما قلتما وخفتما منه، فإني معكما أسمع وأرى، وسأحفظكما من بغي فرعون وبطشه، وسأجعل لكما تسلطاً عليه وعلى ملئه وقومه، وسأجعل لكما هيبة ونوراً إلهياً، فلا يصلون إليكما بسوء أو بأذى، ولن يقدروا عليكما بالحجة والنزال وسوف تتمكنان من تبليغ الرسالة وبيانها وإقامة الحجة على أحسن وأكمل وأتم وجه، وأنكما بما أيدتكما به من المعجزات والبينات والحجج الدامغة ستكونان أنتما ومن اتبعكما الغالبين، وسيكون النصر حليفكم والغلبة والظهور لكم على عدوكم من جميع الوجوه: قيام الحجة والبرهان، وتمام البيان، وهلاك عدوكم، واستخلافكم في الأرض وأن ترثوا كل ما يتركه عدوكم وراءه بعد هلاكه من الأرض والعقار والثروة والمال والسلطة والمقدرات، وهذا وعد إلهي قاطع لا خلف فيه ولا تبديل له، وبشارة إلهية نيرة عظمى طمأن الله(عز وجل) بها قلب موسى الكليم(ع) وانشرحت لها نفسه الزكية الطاهرة، وأصبح راسخ العزم قوي الجنان ثابت اليقين والإيمان.

وقد أعطى الله (جل جلاله) ذلك لوليه الناصح موسى بن عمران(ع) في أول انطلاق الدعوة وكان وحيداً فريداً ولم يزل شريداً مطارداً؛ ليكون على بصيره تامة من أمره، فلم تزل الأحوال تتطور والأمور تنتقل، حتى أنجز الله(عز وجل) له ما وعده ومكّنه من البلاد والعباد وصارت له ولأتباعه الغلبة والظهور، وهذا يكشف عن أهمية البصيرة والتخطيط الاستراتيجي لنجاح الدعوة والعمل السياسي التغييري الثوري والإصلاحي، وأهمية الصبر والتحمل وطول النفس وتقديم التضحيات اللازمة والتحلي بالصدق وإخلاص النية من أجل تحصيل الظفر والفوز بالعناية والرعاية والتأييد الإلهي، والوصول إلى الأهداف والغايات الشرعية المرسومة بدقة ووضوح، وأن التحلي بالصدق وإخلاص النية والصبر والتحمل وطول النفس وتقديم التضحيات اللازمة لا تنفصل بأي حال من الأحوال عن اليقين والبصيرة، بل هما: اليقين والبصيرة، علة إلى تلك الحالات الفاضلة الراقية السامية، ويجب التأكيد على أن الوصول إلى الأهداف والغايات لا يأتي إلا بتهيئة الظروف وتوفير الأسباب اللازمة، وأنها تتحقق بالتدريج شيئاً فشيئاً وليس دفعة واحدة.

وأنه يجب على الأمة المستضعفة أن تنهض لنيل حريتها وحقوقها، ولا تيأس مهما بلغت من الضعف، وعليها أن تعمل من أجل تهيئة الظروف وتوفير الأسباب لتغيير ميزان القوى لمصلحتها، وأن تعلم بأن الله الكبير المتعال(عز وجل) معها وناصرها على عدوها طال الزمن أو قصر، كما حدث لبني إسرائيل إذ استنقدهم الله(عز وجل) من أسر فرعون وملئه وخلصهم من جبروتهم وطغيانهم، ومكنهم في الأرض وملكهم البلاد.

وأن تحذر الفوضى في التفكير، بأن تفكر في القضايا وتعالجها بشكل جزئي وعاطفي، وتضعف أمام الصعوبات والتحديات والعوائق التي تقبل بأن يفرض عليها حكم الأمر الواقع، وتكف عن تقديم التضحيات اللازمة، وأن تعلم بأن الأمة الذليلة التي تقبل بأن يفرض عليها حكم الأمر الواقع وتكف عن النضال وتقديم التضحيات الضرورية اللازمة لا يصلح أمر دينها ولا دنياها، وتبقى في الحضيض الأسفل تعاني من الظلم والتخلف والانحطاط والفساد إلى الأبد، أو حتى تنتفض وتنفض عن نفسها غبار المذلة، وتنهض في حزم وجزم وثبات خطى لنيل حريتها وتحصيل حقوقها الأساسية الطبيعية المكتسبة في الحياة، ولنعلم جميعاً أن الله تبارك وتعالى قد يقدر على أمة من الأمم أو شعب من الشعوب أو عبد من عباده بعض المشاق والمحن، لينالهم بعد ذلك سرور عظيم، أو يدفع عنهم شراً كثيراً، فلنحسن الظن بالله(عز وجل) ونثق به ونتوكل عليه ونفوض أمرنا ونسلم إليه لنكون من الفائزين، ولا نيأس ولا نضعف ولا نتراجع ولا نتخلى عن مسؤولياتنا وعن التكليف الإلهي الشريف فنكون من الخاسرين.


  • [1]. طه: 36
  • [2]. النساء: 63
  • [3]. مريم: 53
  • [4]. طه: 46
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟