مواضيع

تكذيب فرعون لموسى واتهامة بالسحر

<فَلَمَّا جَاءَهُم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ>

مضى موسى الكليم بمعية أخيه ووزيره وشريكه في الرسالة هارون(ع) يحملان رسالة ربهما إلى فرعون وملئه وقومه، فدخلا عليهم في قصر فرعون بعد عناء شديد، وكانا في هيئة متواضعة تشملهما السكينة والهيبة والوقار، وكان موسى الكليم(ع) يلبس جبة من صوف، وعصاه النورانية ذات الأسرار العظيمة في يده، مربوط خصره بشريط من خوص مفتول، نعله من جلد حمار وشراكها من ليف، وكان مع هذه الهيئة البسيطة المتواضعة يحمل روحاً ملائكية متألقة ومشدودة إلى الله خالقها ومربيها ذي الجلال والإكرام، ونفساً رحمانياً طيباً وقوة إلهية عظيمة وهيبة نورانية تشمل كيانه كله، تكاد جدران قصر فرعون تخرُّ لها ساجدة، وكان فرعون جالساً على عرشه مكللاً بأساور الذهب والفضة ونحوها، في كبرياء وتجبر، وقد حف به خدمه وجنوده وحشمه وخاصته.

فبلّغ موسى الكليم وهارون(عليهم السلام) رسالة ربهما إليهم وجاءهم موسى الكليم(ع) بما عنده من المعجزات النيرات الباهرات والبينات الواضحات والأدلة القاطعة الدالة على التوحيد والمعاد وصدق النبوة والرسالة التي يحملها من رب العالمين، بما لا يدع مجالاً للشك أو الريب أو التردد، حيث لا قصور ولا خفاء في الدلالة القاطعة على المطلوب، إلا أنهم لم يقبلوا منه ولم يصدقوه ورموه بالكذب واتهموه بالسحر والافتراء على رب العالمين، وبالمكر والخداع، وقالوا ظلماً وعلواً وعناداً حيث ظهر الحق المبين واستعلى بالحجة البالغة على الباطل البين <مَا هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى>[1].

أي: إنهم زعموا أن ما جاء به موسى الكليم(ع) من المعجزات النيرات الباهرات والخوارق للعادة، ماهي إلا مجرد سحر ليس أكثر، وأن موسى الكليم(ع) مجرد ساحر ولكنه أمهر السحرة وأعظمهم وأكثرهم معرفة بأسرار السحر ودقائقه وخباياه، وأنه اختلق دعوى النبوة والرسالة لأهداف سياسية خبيثة، وزعم أن ما جاء به من السحر هي معجزات ونسبه إلى الله سبحانه وتعالى كذباً وزوراً من أجل خداع الناس وتضليلهم؛ ليصدقوا أكذوبته.

أي: رموه ظلماً وعلواً بداء أنفسهم على قاعدة «كل من يرى الناس بعين طبعه»، لا سيما الأنانيون والانتهازيون والنفعيون، وكان ذلك منهم في غاية المكر والكيد والخداع وغلبة الشقاء وسلوكهم طريق الأشقياء الهالكين، حيث جعلوا وجه الشبه بين المعجزة وبين السحر بأن كليهما خارق للعادة، أساساً لتكذيبهم بالحق والتدليس عليه وإثارة الشبهة في وجهه عن علم وقصد. لكن العاقل البصير يدرك بسهولة الفرق بين الساحر والكذاب والنبي الصادق، فالساحر إنسان منحرف ومتكبر ومخادع يبحث عن الإثارة والبروز والمصالح الدنيوية، والنبي إنسان في غاية الاستقامة والسكينة والوقار والنضج والتواضع والزهد في الحياة الدنيا والبحث عن الحقيقة وبيانها وإثباتها بالدليل القاطع، فضلاً عن الفوارق الجوهرية بين السحر وبين المعجزة.

وكانت حجتهم في تكذيب موسى الكليم(ع) قولهم: <وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِين>[2] أي: لقد عاش آباؤهم وأجدادهم وماتوا على عبادة فرعون الطاغية الحقير وعبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولم يعرفوا عقيدة التوحيد ويتعبدوا بها، ولم يتبعوا الأنبياء ويطيعوهم في وقت من الأوقات.

وعليه: فإن عقيدة التوحيد النورانية وعقيدة النبوة بحسب زعمهم ومنطقهم الذي يقوم على الأهواء والتعصب الأعمى دين مبتدع وباطل وأحرى بالرفض والتكذيب، وأن عبادة فرعون الطاغية الحقير والأصنام التي لا تضر ولا تنفع دين حق ثابت يجب البقاء عليه والاستمرار أبد الدهر.

وهذا القول في الحقيقة بعيد كل البعد عن منطق العقل والفطرة والطبع الإنساني السليم ومخالف لكرامة الإنسان، وسبب إلى مذلته وهوانه وانحطاطه المعرفي والتربوي والحضاري، كما أنهم لم يتأملوا ويتفكروا في المعجزات والبينات والأدلة بموضوعية ونزاهة ولم يأخذوها بجدية وحزم، رغم خطورة ما ينبني عليها سلباً وإيجابياً في رسم واقع الإنسان وتقرير مصيره في الدارين الدنيا والآخرة، وهذا أيضاً مخالف للعقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم وناقض لكرامة الإنسان وهادم لقيمته ومكانته.

وعليه: فموقف فرعون وملئه مما جاءهم به موسى الكليم(ع) من المعجزات النيرات الباهرات والبينات الواضحات والأدلة النيرة القاطعة والبيان الشافي الواضح موقف غير إنساني وغير منطقي ولا يليق بكرامة الإنسان ومكانته في عالم الموجودات، كما أنهم لم يكونوا صادقين البتة في قولهم: <وَمَا سَمِعْنَا بِهَٰذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِين>[3]، فقد جاءهم يوسف الصديق قبل موسى الكليم(ع) ودعاهم إلى التوحيد وأقام الدليل على صدق نبوته ورسالته، وكان ذلك معروفاً عندهم، كما كانوا عارفين بنبوة نوح وهود وصالح وغيرهم، وقد رد عليهم حزقيل مؤمن آل فرعون وذكرهم بذلك في حواره معهم ونصحه لهم فقال: <وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا>[4] وقوله: <وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُم مِّثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ 30 مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعِبَادِ>[5]


  • [1]. القصص: 36
  • [2]. نفس المصدر
  • [3]. نفس المصدر
  • [4]. غافر: 34
  • [5]. غافر: 30-31
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى