مراوغة فرعون وتضليله
<وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ 51 أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ 52 فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ 53 فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ 54 فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ 55 فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ>
وأمام وقع المعجزات النيرات الباهرات، والبينات الإلهية الواضحات، والأدلة والبراهين العقلية الساطعة القاطعة، والبينات الموسوية الشافية الكافية البليغة الواضحة المؤثرة في النفس غاية التأثير، وأمام الابتلاءات والمصائب الشديدة التي نزلت بالأقباط وتركت آثاراً عميقة في نفوسهم، وعملت كلها على زعزعة أفكار الأقباط وعموم الناس واعتقاداتهم في فرعون، ووضعت نظامه وشرعيته أمام الاستفسارات والتساؤلات المشروعة والمنطقية، وفي المقابل: زيادة نفوذ موسى الكليم(ع) وقوته ومكانته واعتلاء شأنه.
مما جعل فرعون يخاف خوفاً جدياً من أن يميل الناس جميعهم إلى موسى الكليم(ع) ويصدقوا دعوته ويتبعوه وينصرفوا عن فرعون، مما يهدد النظام الفرعوني بالانهيار وملكه ومكانته ودولته بالزوال، ولأنه كان مصمماً على المقاومة والقتال من أجل نظامه وحكومته وملكه وهيبته ومكانته وامتيازاته الدينية والملكية إلى الرمق الأخير وعدم الاستسلام، فقد لجأ إلى المراوغة والسفسطة والخداع والتمويه والتضليل والمغالطات في مقابل الحقائق والمنطق السليم والحجج البالغة.
فجمع الناس وعقد مجلساً شعبياً عظيماً ضم الوجهاء والأشراف والأعيان وكبار القادة المدنيين والعسكرين، وخطب فيهم بصوت عال مسموع، فقال مستعلياً بباطله، مغروراً بملكه وسلطته وماله وجنوده: <يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ>[1] لا ينازعني فيه منازع ولا يخالفني مخالف وأتصرف في أرضها وثرواتها ومقدراتها كيف أشاء، وأفرض ما أشاء من قوانين وأتخذ ما أشاء من إجراءات وأعطي ما أشاء من تعليمات، وهذه الأنهار العظيمة: نهر النيل والأنهار المتفرعة منه، حيث كان نهر النيل كالبحر المترامي الأطراف، وكان يتشعب إلى فروع كثيرة تروي كل المناطق العامرة: الزراعية والسكنية في مصر، تجري بأمري وإرادتي ونظام تقسيمها وتوزيعها على المزارع والمساكن تحت سلطتي وبحسب تعليماتي، ومنها ما يجري تحت قصوري العالية الفخمة وفي وسط بساتيني الواسعة العظيمة، أفلا تبصرون ذلك وتستدلون به على ما أنا فيه من العظمة والشأن الرفيع، والقوة والسلطان وضعف موسى عن مقاومتي ومقارعتي ومجاراتي.
فقد ضحك على ذقون قومه ولعب بعقولهم وأحلامهم واستفضّ ضمائرهم، كما يفعل الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدون والمترفون والأنانيون المستغلون في كل عصر ومصر، بأن عقد مقارنة بين نفسه وبين موسى الكليم(ع) وفق معايير مادية بحتة، ليبدو من خلالها أنه متفوق على موسى الكليم(ع) ومفضل عنه، حيث لجأ إلى ما يتمتع به من الملك والسلطة، وما لديه من الثروة والقوة، وما كان عليه حال موسى الكليم(ع) من الفقر وضعف القوة المادية وقلة العدد والعتاد، ليثبت عظمته وعلو شأنه، غافلاً عن حقيقة كونه لم يخلق أو يوجد شيئاً من ذلك وإنما وضع يده عليها بالقوة المادية التي يمكن أن تزول وتذهب إلى غيره، وغافلاً عن قدرة الله(عز وجل) عليه وهي قدرة مطلقة لا طاقة له ولا لغيره عليها، وغافلاً عما يتمتع به موسى الكليم(ع) من خلال ما جاء به من معجزات عظيمة باهرة من عند رب العالمين، وأن موسى الكليم(ع) لا يفاخره ولا يباريه في شيء من القيم المادية ومتاع الحياة الفانية التي يمكن أن يحصل عليها عن طريق الرذيلة والحرام والجور على المحرومين وسرقة مقدرات الشعب، بل كان يدعو إلى القيم الروحية والإنسانية السامية، مثل: العلم والتقوى والخير والفضيلة والأعمال الصالحة والعمل من أجل الآخرة الباقية ونعيمها الدائم الذي لا يزول ولا يفنى.
وكان موسى الكليم(ع) يعمل من أجل إبطال المقاييس والمعايير والقيم المادية التي تمحق إنسانية الإنسان وتقوده إلى الشقاء الحقيقي والهلاك بدل النجاة والسعادة الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة ويقلل من شأنها، كما أن فرعون الطاغية كان غافلاً عن حقيقة كون ملكه وحكومته لمصر ونظامه فرض بحكم الأمر الواقع عن طريق القوة والعنف والإرهاب، ولم يأتِ بإرادة شعبية أو عن طريق الإقناع، فهو نظام وملك وحكومة يتنافى مع كرامة الإنسان وحقيقة كونه عاقلاً مختاراً ويقرر طريقه ومصيره في الحياة بنفسه، وأن الملك أمر زائل ويمكن أن يأتي بغيره وينازعه عليه وينتزعه منه ويلقي به في البحر لتأكله الأسماك أو في الصحراء لتأكله الوحوش أو يدفن في التراب ليتحول إلى جيفة ثم يتحلل ويصبح تراباً كما كان.
كما غفل فرعون عن حقيقة أنه في أمس الحاجة إلى الجنود لكي يدافعوا عنه، وإلى الأعوان ليقيم بهم حكومته ونظامه، وأنه بنى قصوره وشيّد الأهرام ونحوها بجهود شعبه وعرق جبينهم، فهو في الحقيقة ضعيف وفقير ولا ملك حقيقي له ولا قوة فعلية، وأن لا شرعية لنظامه وملكه وحكومته بحسب المنطق وحقوق الإنسان، وبناءً على قيمه المادية ومعاييرة الحسية، فقد توصل إلى نتيجة، مفادها: أنه خير من موسى الكليم(ع) فقال: <أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ>[2].
أي: افتحوا عيونكم وانظروا جيداً وتأملوا دقيقاً، لتعرفوا لمن العظمة والشأن الرفيع والمكانة العالية؟! لي أنا لما لي من الملك والنعيم المادي والألبسة الفاخرة والقصور العالية العامرة بالحشم والخدم والثروة والغبطة والسرور، أم لموسى مع ما هو عليه من الفقر والضعف وكونه شخصاً مغموراً من طبقة اجتماعية واطئة؟! فلا شك ولا ريب عندكم أني خير منه، ولم يذكر اسمه، وإنما قال: <أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَٰذَا>[3] تحقيراً له، والسبب: أني ملك عظيم ولي العزة والكرامة والغلبة وبيدي الثروة العظيمة والسلطة الواسعة المطلقة والقوة الضاربة التي أقر بها جميع خصومي وأعدائي، وموسى رجل فقير وضعيف ومغمور من طبقة اجتماعية واطئة، ممتهن في نفسه لا عز له ولا جاه ولا سلطة ولا مال ولا ثروة، رث الحال ليس لديه إلا عصاه ولباساً صوفياً خشناً، فلا خير فيه ولا أهلية له للزعامة والرئاسة.
أي: عظّم القيم المادية السيئة والمظاهر الحسنة الزائفة ورفع من شأنها على خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع الإنساني السليم، ليثبت من خلالها أنه العزيز المقتدر، وأن موسى الكليم(ع) الذي هو خليل الرحمن وكليمه والوجيه عنده وسليل الأنبياء والمرسلين الكرام(عليهم السلام) هو الذليل الحقير المهان!!
وهذه سنّة أهل الدنيا والطغاة المستبدين والمستكبرين الجبابرة أن لا يفكروا إلا في أنفسهم، ولا يعولون إلا على ما يملكون من القوة والثروة، ولا يقيمون وزناً للقيم الإنسانية السامية والمبادئ النبيلة والمصالح العامة، ولا يذعنون إلى الحق والمنطق والبراهين العقلية الساطعة القاطعة، ويتجاهلون المعجزات الإلهية النيرة الباهرة العظيمة، ومن خلال هذا المنظار السيء المتطرف، يصف فرعون نفسه وهو الطاغية المتجبر بالعظيم والخيرية، ويصف موسى الكليم(ع) بالحقير المهين بسبب فقره وضعف إمكانياته المادية، فالفضل عنده للقيم المادية، مثل: الملك والقوة والمال، على القيم الروحية والإنسانية، مثل: العلم والتقوى والمحبة والسلام.
ثم أشار فرعون اللئيم إلى مسألة أخرى، وهي: أن موسى الكليم(ع) مدان له بتربيته في بيته منذ أن كان طفلاً رضيعاً، وأن له عليه حق القصاص لجريمة قتله الرجل القبطي من قوم فرعون والموالي له، وأن موسى الكليم(ع) بالخروج على فرعون، قد خان حق التربية والرعاية، وأنه بهذه الخيانة بالإضافة إلى جريمة القتل الشنيعة، غير مؤهل ولا لائق ولا يستحق أن يحمل رسالة من إله عظيم، وهذه أمور بينة واضحة، لا يستطيع موسى الكليم(ع) أن يرد عليها ويدافع عن نفسه فيها، وهي المراد من قوله: <وَلَا يَكَادُ يُبِينُ>[4] مما يدل على عدم قناعته بما رد به عليه موسى الكليم(ع) في هاتين المسألتين.
وقيل المراد: لا يكاد يبين كلامه أو يفصح عما يريد قوله لثقل لسانه، وهذا القول غير مقبول لأنه خلاف الواقع الذي ظهر وتجلى في الحوار والسجال بين موسى الكليم(ع) وفرعون، وخلاف غاية الرسالة التي تقوم على وضوح وقوة البيان، وأن عبارة: <وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا>[5] لا تنفي فصاحته بل تثبتها؛ لأن كون هارون أفصح لساناً منه لا ينفي فصاحته بل يثبت فصاحته، وليس معلوماً أن هارون أفصح من موسى(ع) في بيان اللسان، بل المراد أنه غير محجوج لفرعون بالتربية والقتل الخطأ كما سبق بيانه.
وقيل: كانت عقدة في لسان موسى الكليم(ع) زالت بدعائه: <وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي>[6] واستجابة الله له بقوله: <قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ>[7] وأن فرعون قد عيره بما كان في لسانه قبل النبوة، إلا أن التعيير بعيب سابق لا فعلية حاضرة له ليس من الحكمة، وزوال هذا العيب يعد فضيلة لموسى الكليم(ع) ودهاء فرعون لا يسمح بأن يعير موسى(ع) بما يدل زواله فضيلة ظاهرة له وهو في مقام الاحتجاج عليه.
ثم عاد فرعون إلى فرض معاييره الحسية في تقييم الشخصية وإثبات مكانة الإنسان، فقال: <فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَب>[8] أي: إن كان رسولاً حقاً من رب العاليمن وسيداً وعظيماً فعلاً، فإنه يلزم عن ذلك أن يلقي عليه ربه مقاليد الملك والرئاسة، بأن يلقي عليه أسورة من ذهب يحليه بها، كما جرت العادة عند الأقوام المتحضرة، مثل: قوم فرعون نفسه، إذا اختاروا لهم رئيساً أو ملكاً وجعلوا له الملك والرئاسة والسيادة عليهم، طوقوه بطوق من ذهب وأسورة، وفي الحديث، قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): «ولقد دخل موسى بن عمران ومعه أخوه هارون(ع) على فرعون وعليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصي، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه، فقال: ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل فهلا ألقي عليهما أسورة من ذهب، إعظاماً للذهب وجمعه، واحتقاراً للصوف ولبسه»[9].
فقد جعل فرعون موسى الكليم وأاوه هارون(عليهم السلام) في معرض التفريع والتوبيخ والسخرية والتهكم والاستهزاء بسبب فقرهما وتواضعهما ولبسمها الصوف وحالهما الرث وعدم امتلاكهما الثروة وأدوات الزينة، غافلاً عن حقيقة كون السلطة والمال والثروة والقوة ونحوها من المظاهر الزائفة، أمور إضافية زائدة وخارجة عن ذات الإنسان، وأنها قابلة للتغير والزوال، فيتبدل فيها حال الإنسان من النقيض إلى النقيض، فينتقل من القوة إلى الضعف، ومن الغنى والثروة إلى الفقر والحرمان، ومن العز والسلطة إلى الذل والتشرد، ونحو ذلك، فلا تعرف قيمة الإنسان الحقيقية ومكانته بها، وإنما تعرف بأمور ثابتة وداخلة في ذاته لاتفارقه في حياته وبعد موته، مثل: العلم والتقوى وحسن الخلق والأعمال الصالحة ونحوها.
يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع): «ولو أراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقبان (نوع من الذهب) ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الأرض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء (لخضوع الناس لهم بحكم الاضطرار) وبطل الجزاء واضمحلت الأبناء، (أي: بالخضوع الاضطراري للأنبياء، لا يبقى محل للجزاء ولا حاجة لأخبار السماء) ولما وجب للقابلين أجور المبتلين ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين ولا لزمت الأسماء معانيها، ولكن الله سبحانه جعل رسله أولى قوة في عزائمهم وضعفة فيما ترى الأعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الأبصار والأسماع أذى، ولو كانت الأنبياء أهل قوة لا ترام، وعزة لا تضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرجال، لكان ذلك أهون على الخلق في الاعتبار، وأبعد لهم في الاستكبار، ولآمنوا عن رهبة قاهرة لهم، أو رغبة مائلة بهم، فكانت النيات مشتركة والحسنات مقتسمة، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون الإتباع لرسله والتصديق بكتبه والخشوع لوجهه والاستكانة لأمره والاستسلام لطاعته، أموراً له خاصة لاتشوبها من غيرها شائبة، وكلما كانت البلوى والاختبار أعظم، كانت المثوبة والجزاء أجزل»[10].
ولكم للأسف الشديد: جرت العادة عند الأقوام الضالة والفراعنة المتجبرين، وهي السمة الغالبة على عصرنا الراهن، على الاهتمام الزائد بالألقاب الجوفاء والمظاهر الحسية الخلابة الزائفة، مثل: القصور العالية والمباني الفخمة والملابس الفاخرة والمراكب المتميزة والحشية والأتباع والجنود والأنصار والسلطة والجاه والادعاءات الفارغة ونحوها، وتجاهل الحقائق والفضائل والمنطق السليم والصلاح الحقيقي للأحوال والأوضاع والكفاءات والمؤهلات الفعلية ونحو ذلك.
ثم لجأ فرعون إلى الاحتجاج بشيء آخر لا يعبر عن قناعة حقيقية، بل عن عناد وجدل عقيم، ورغبة في التضليل والخداع لقومه ومريديه، خيانة منه للمسؤولية وللثقة التي أولته إياها رعيته، فقال: <أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِين>[11] أي: جاء معه الملائكة متتابعين يقترن بعضهم ببعض، أو مقرونين به لا يفارقونه كما تفعل الحاشية مع الإنسان العظيم، ويعينونه على أمره ويؤيدونه، ويشهدون له بصدق نبوته ورسالته، وهذا القول منه: لا يدل على قناعة لديه، وإنما يدل على عناده ورغبته في الجدل العقيم بالباطل ليدحض به الحق تضليلاً لقومه لصرفهم عن الحق وليبقوا على ولائهم واتباعهم له؛ لأن وجود الملائكة ليس بمعجزة أعظم من تحول العصا إلى ثعبان عظيم يبتلع كل ما جاء به السحرة من السحر العظيم، وليس أعظم من تحول اليد السمراء إلى بيضاء تشع نوراً عظيماً يملأ الدنيا من غير علة أو مرض، فالذي يشك في معجزة العصا واليد لن يصدق وجود الملائكة، بل سيكون أسهل عليه أن يشك فيهم.
وعليه: فإن فرعون لم ينظر بموضوعية ونزاهة ومنطق سليم فيما جاء به موسى الكليم(ع) من عند رب العالمين من المعجزات النيرات العظيمة الباهرة والبينات الواضحات والأدلة والبراهين العقلية الساطعة القاطعة، وما دعا إليه من عقيدة التوحيد والنبوة والمعاد، وإنما تجاهل جميع ذلك وكأنه لم يكن، وانصرف إلى أمور جانبية تافهة من أجل التضليل والخداع، وأثبت الخيرية للثروة والقوة والملك، على حساب الحق والفضيلة والعقل والمنطق السليم والحقوق الإنسانية ونحو ذلك، وأوهم قومه بأن حال الرسل الإلهيين، ينبغي أن يكون كحال الملوك الجبارين وأن يحف بهم الخدم والحشم والجند، ونحو ذلك، متجاهلاً القيمة المعنوية العظيمة للاتصال بجبار السماوات والأرض، وما يلقونه من التأثير والدعم الإلهي، واتصالهم بعالم الغيب والملكوت، وما يتحلون به من العلم والفضيلة والاستقامة في السلوك والخيرية في الأفعال والأعمال الصالحة وخدمة الإنسانية وهدايتها والعمل على النهوض بها وإبعادها عن الانحلال والانحطاط والتخلف والعدوانية ونحو ذلك، ومتجاهلاً الغاية من بعث الأنبياء والرسل الكرام(عليهم السلام) التي هي الهداية التي تقوم على إحقاق القيم الروحية والإنسانية وإبطال القيم المادية والحيوانية، فارضاً قيمه الدنيوية الدينية، ونظراته المادية للكون والإنسان والحياة.
ولا يخفى ما في ذلك الأمر الذي دأب عليه الطواغيت الضالون والفراعنة المتجبرون والحكام المستبدون والمترفون المستغلون على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، إلا أن قومه الفاسقين أطاعوه فيما احتج به عليهم وغالطهم به، من الملك والثروة والقوة والقيم المادية والمظاهر الحسية الخلابة الزائفة، لا لأنها موافقة للعقل وتتمتع بقوة الحجة وسلامة البرهان، فهي هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، وليس وراءها حقيقة وليس عليها نور ولا هدى، وما فيها من التضليل والخداع بيّن وفي غاية الوضوح والجلاء، ولا تروّج إلا على السفهاء الحمقى: ضعفاء العقول والأحلام والمنطق.
فأي دليل يقبله العقل يدل على صدق فرعون في دعوى الألوهية والربوبية، وأن له شرعية ملك مصر وثرواتها والهيمنة على مقدراتها وفرض حكم الأمر الواقع عن طور الإنسانية والقائم على الاستخفاف بالعقول، أسلوب مستحكم لدى طريق القوة والعنف والإرهاب، وأي عاقل يصدق بطلان دعوى نبوة موسى الكليم(ع) لفقره وقلة أتباعه وعدم تجليه بأساور الذهب والملابس الفاخرة؟!
ولكن للأسف الشديد: فإن هذا الأسلوب الفرعوني المنحرف عن طور الإنسانية، والقائم على الاستخفاف بالعقول، أسلوب مستحكم لدى الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة، من أجل الاستمرار في وجودها، بطابعه غير الإنساني الذي لا يخضع لمنطق سليم، وتحقيق أهدافها الأنانية السخيفة المنحطة، حيث تسعى بشتى الأساليب والوسائل، وتستخدم كافة الإمكانيات المتاحة، مثل: وسائل التواصل الاجتماعي، والصحف والمجلات والقنوات الفضائية والفن والرياضة وغيرها، لتبقى الشعوب في مستويات متدنية من الوعي بالحقوق والواجبات، وغياب البصيرة بالمصير والغايات، ليطيعوهم ويسلموا إليهم، فيجعلوهم غرقى في حالة الجهل والغفلة عن الحقائق والحقوق والواجبات العامة الدينية والإنسانية والوطنية، وعن الغايات والأهداف ومجريات الوقائع والأحداث، وتمارس معهم عمليات غسل الأدمغة بشكل دائم ومتواصل، لكي لا تحدث فترة يقظة أو صحوة، وتغرس فيهم قيماً طاغوتية جاهلية، مثل: الطاعة العمياء لأولي الأمر، والتعصب للعادات والتقاليد والتراث، ونحو ذلك، وتعطي لهم موازين كاذبة منحطة؛ لأن الوعي والرشد الحضاري لدى الشعوب، يشكل أعظم خطر على هذه الأنظمة وبرامجها لمنطق سليم.
ولا تقبلها فطرة إنسان ولا طبع إنساني سليم، ويعتبر الوعي والرشد السياسي والحضاري، أعظم أعداء هذه الأنظمة والحكومات ولهذا فهي تحارب الوعي والفكر النير، وتسعى للقضاء عليهما قبل أن يتمكنا في المجتمع فيقضيا عليها، فوجودها ووجود الوعي والفكر النير، نقيضان لا يجتمعان.
وعليه: فإن أول واجبات دعاة الإصلاح والمطالبين بحقوق الإنسان، هو نشر الوعي والفكر النير، ومواجهة برامج الاستخفاف بالعقول التي تقوم عليها هذه الأنظمة الفاسدة والحكومات الظالمة بكل حزم وعزم، وقد كشف القرآن الكريم عن الأساس الذي يقوم عليه القبول بهذه المغالطات والشبهات، قول الله تعالى: <فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ>[12].
أي: نجح فرعون في الاستخفاف بعقول قومه وأحلامهم واستفزهم فأطاعوه فيما حملهم عليه من الباطل والمغالطات؛ لأنهم في الحقيقة والواقع، متصفين بالسفه والرعونة، خارجين عن طور العبودية وربقة الإنسانية وعن العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، وأنهم يجرون وراء أهوائهم الشيطانية الشريرة، ورغباتهم ونزواتهم الحيوانية المنحطة، ومصالحهم الدنيوية العامة الفانية التي لا يريدون أن يتنازلوا أو يتخلوا عنها طائعين، فليس لهم أساس متين يقفون عليه، ولا ركن شديد يأوون إليه.
أي: لأنهم فاسقون حمقى غير راشدين في تفكيرهم وتوجهاتهم في الحياة، فقد جاملوا فرعون وسايروه واستسلموا لطاعته وتابعوه في مثل هذه المغالطات الباطلة والخزعبلات السخيفة، وفيما ذهب إليه من الباطل وبدون حجة واضحة ولا برهان عقلي صحيح، وبدون أن يقيموا وزناً لإنسانيتهم وضمائرهم والحق والحقوق والقيم والمبادئ السامية والعقل والمنطق والوجدان، وغير مبالين بما يمكن أن يجري عليهم بعد الموت والرحيل من عالم الدنيا، فهم قد هيأوا بأيديهم أسباب ضلالهم، وليسوا معذورين أبداً فيما جرى وحصل لهم من التضليل والخداع.
وقيل: طلب منهم الخفة في مطاوعتهم له فيما دعاهم إليه، فاستجابوا له مسرعين غير مبالين ولا متريثين، كما هي العادة عند الأمم المتخلفة المنحطة فكرياً وروحياً وسلوكياً، حيث تطيع ملوكها وحكامها وأسيادها وتسايرهم على خلاف العقل والمنطق والحق والحقوق والقيم الإنسانية العالية والمبادئ السامية والفطرة والروح الإنسانية والطبع السليم والمصالح العامة الجوهرية ونحو ذلك.
وقيل: بسبب فسقهم قيض الله(عز وجل) لهم فرعون يزين لهم الشرك والفسوق والعصيان والأعمال السيئة والرذيلة، فهم فاسقون يتبعون قائداً فاسقاً مثلهم، ولو لم يكونوا فاسقين لما اتبعوا فرعون في مغالطاته ولما تمكن من إضلالهم وخداعهم.
وقد جرت العادة: أن الفراعنة والحكام المستبدين والقيادات العليا: المدنية والعسكرية، الذين أعمتهم السلطة والثروة والقوة عن رؤية الحقيقة، فلا يخضعون لعقل أو منطق، ولا يسمعون موعظة أو نصيحة صادقة من أحد، ويصرون على قراراتهم الخاطئة، ولا يتراجعون عنها في غياب المراقبة والمحاسبة، حتى يجبروا على التراجع بسبب فداحة الخسائر ونحوها، مما يجعل الاستمرار فيها أمراً مستحيلاً قول الله تعالى: <كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ 6 أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى>[13] أي: أن الإنسان إذا ملك السلطة والثروة والقوة فإنه يطغى، ما لم يوجد من يراقبه ويحاسبه ويأخذ على يده ويمنعه.
وكلما كانت علاقة القائد كشخص بالقرار أوثق، وكلما بذل في تنفيذه من المال والجهد والوقت أكثر، كلما كان التصميم على الاستمرار فيه أكثر، والتراجع عنه أبطأ وأصعب، وينغلق الباب أمام المراجعة الموضوعية النزيهة، ويضعف الاستعداد للاعتراف بخطأ الخيار أو القرار، ويظهر الميل إلى تحميل أطراف أخرى أو عوامل خارجة عن الإرادة والسيطرة المسؤولية عن الفشل أو تأخير الإنجاز ونحو ذلك، وقد يضطر القائد المستبد في ظل غياب المراقبة والمحاسبة، إلى الاعتراف ببعض الأخطاء الجزئية، ويعتبر ذلك أمراً طبيعياً في كل عمل بشري غير معصوم من الخطأ، ولكنه لا يعترف بخطأ القرار أو الخيار في نفسه أو أصله.
وبعض الفراعنة والحكام المستبدين يدعون العصمة في جميع قراراتهم ولا يعترفون حتى بالأخطاء الجزئية، مما يعني: ضخ المزيد من ثروة الشعب ومن الجهد والوقت والأنفس، أي: المزيد من الخسائر المادية والبشرية والمعنوية المتلاحقة، وتستمر الحالة النازفة حتى يضطر القائد المستبد في الأنظمة الدكتاتورية حيث تغيب المراقبة والمحاسبة إلى التراجع عن القرار أو الخيار كارهاً، لاستحالة الاستمرار فيه، ويحمل غيره أو العوامل الخارجة عن الإرادة والسيطرة المسؤولية الكاملة عن الفشل، ويظهر نفسه بأنه القائد المتميز الحريص على مصالح شعبه ومقدراته وصانع نهضته.
وقد ثبت بالتجربة أن العقل يكون مستسلماً للخيارات السياسية والاقتصادية والعسكرية وغيرها، إذا استرسل فيها الإنسان، ويختلق المعاذير والمبررات غير المنطقية وغير الواقعية لها، وأن الإنسان يكون أكثر ابتعاداً عن الدراسة والتقييم المنطقي الموضوعي، إذا كان راغباً في الشيء ومحباً له، فإنه يختاره، ثم يبحث له عن المبررات بحسب أهوائه.
أي: إن الخيار يكون ذاتياً بحسب ما ترغب النفس وتشتهي، وليس موضوعياً بحسب المنطق والمصلحة الموضوعية الفعلية، وقد يورط فيه آخرين أفراداً أو جماعات أو شعب أو أمة إذا كان قائداً في ظل نظام دكتاتوري تغيب فيه المراقبة والمحاسبة، ويكثر فيه التملق والمجاملة والمسايرة.
كما جرت العادة أيضاً: أن الموالين للفراعنة والحكام المستبدين، يطيعونهم في كل ما يأمرونهم به، مما هو مخالف للعقل والمنطق والفطرة والطبع السليم والكرامة الإنسانية والمصلحة العامة، بما في ذلك: محاربة الأولياء الصالحين والدعاة المصلحين والمطالبين بحقوق الإنسان وقتلهم بغير حق، وذلك: تحت تأثير التعصب والطمع في الفتات القليل والخوف من التغيير ومن عقاب الفراعنة والحكام، متجاهلين عدالة الحقوق وقضايا المعارضة، وما يأتون به من حقائق ومنطق سليم وأدلة وبراهين عقلية وحوادث ووقائع تدل على عدالة قضيتهم وصحة مطالبهم وعقلانيتها وواقعيتها، ومتجاهلين العواقب الوخيمة السيئة التي تنتظر الظالمين وأعوانهم والراضين بالظلم في الدارين الدنيا والآخرة.
وهذا الموقف يدل على خفة العقل، والخروج عن الفطرة والضمير والمنطق، وعدم التقيد بمنطق العقل ومنهجه السليم في التحقيق والتمحيص والبحث عن الحقيقة والعمل بمقتضاها، ومتجاهلين القيم الإنسانية العالية والمبادئ السامية كما كان حال قوم فرعون.
ولأنهم كانوا كذلك، فقد كانت عاقبتهم بعد كل ذلك الوعظ والنصح والإرشاد وإتمام الحجة أن أغضبوا الله (جل جلاله) عليهم، حتى استحكم عليهم غضبه، وحقت عليهم كلمة العذاب بسبب إفراطهم في العناد، وإصرارهم على الكفر وتكذيب الرسول الكريم موسى بن عمران الكليم(ع) وعلى الرذيلة والعصيان والظلم والطغيان والأعمال السيئة والجرائم والجنايات الشنيعة ونكث العهود والمواثيق المؤكدة، وعدم انتفاعهم بالمعجزات الإلهية النيرة الباهرة، والبينات الإلهية الواضحة، والأدلة والبراهين العقلية الساطعة القاطعة، والمواعظ المخلصة والنصائح الصادقة، مما أخرجهم عن رباط العبودية لله رب العالمين، وعن ربقة الإنسانية وروحها وطبعها السليم، وعن العقل والمنطق، وأصبحوا يشكلون خطراً جدياً على الإنسانية، ويعيقون نهضتها وسيرها نحو كمالها الحضاري ورشدها وتحقيق غاية وجودها.
فأهلكهم الله(عز وجل) أجمعين عن طريق الغرق في النيل العظيم، فأصبح نهر النيل الذي هو مصدر فخرهم وعظمتهم وثروتهم، وكان محل افتخار فرعون، بقوله: <وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي>[14] يعني: نهر النيل وتفرعاته، سبباً لهلاكهم واستئصال وجودهم وتطهير الأرض من رجسهم.
وقد اختار الله(عز وجل) لهم هذه العقوبة، ليكون لغيرهم من الفراعنة المتجبرين والحكام المستبدين وقوى الاستكبار العالمي عبرة، بأن يأتيهم الفناء والهلاك من حيث لا يحتسبون ومن حيث يظنون أنه مصدر حياتهم وقوتهم.
وبهذه العاقبة المأساوية التي لحقت بفرعون وقومه، أراح الله المؤمنين منهم وخلصهم من شرهم وأذاهم، وفتح الطريق أمام الإنسانية للهداية والنهوض وإقامة حضارة إنسانية سامية وشاملة ومتوازنة ومتطورة، تتجلى فيها إرادة الله (جل جلاله)، وتتحقق فيها خلافة الإنسان لله ذي الجلال والإكرام في الأرض، وتتجسّد صفات الكمال الإلهي: صفات الجمال وصفات الجلال فيها، وتتحقق غاية وجود الإنسان، وهي: العبادة الكاملة عبادة الفرد الكامل، وعبادة المجتمع الكامل.
وجعل الله(عز وجل) فرعون وقومه بهذه العاقبة المأساوية المذمومة، السابقين أو المتقدمين على من يأتي بعدهم من أئمة الضلال والمقتدين بهم الذين يعملون مثل عملهم إلى نار البرزخ وعذابه المهين.
وقيل: جعلهم الله(عز وجل) قدوة لكل من يأتي بعدهم من أئمة الضلال والمقتدين بهم في استحقاق مثل عقابهم المؤلم المهين، لإتيانهم مثل أعمالهم القبيحة وجرائمهم وجناياتهم الشنيعة، كما جعلهم الله(عز وجل) عبرة يعتبر بهم المعتبرون بعدهم، فلا يفعلون مثل فعلهم، لئلا يلاقوا مثل مصيرهم المشؤوم في الذل والهوان والهلاك واللعن المستمر من الناس طوال التاريخ ومن الملائكة في عالم الغيب ومن الله (جل جلاله)، حتى يرث الله(عز وجل) الأرض ومن عليها، ثم يدخلهم الله(عز وجل) إلى نار جهنم خالدين فيها وبئس القرار في الآخرة.
وقيل: جعلهم الله(عز وجل) قصة أو حديثاً عجيب الشأن يجري مجرى الأمثال، حيث يشبه غيرهم بهم في السوء والعاقبة المذمومة في جميع الأجيال والأمم بعدهم، وفي هنا تحذير إلهي شديد اللهجة، إلى جميع المعاندين والمستكبرين والطواغيت والفراعنة والحكام المستبدين والمترفين المستغلين، يأمرهم بالنظر في أحوالهم، والحذر الشديد من أن تكون لهم نفس عاقبتهم في الدارين الدنيا والآخرة.