مواضيع

رد موسى على اعتراض فرعون وتوبيخه

<قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ 20 فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ 21 وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ>

فرد موسى الكليم(ع) على المسألتين بالتالي:

–   إن قتله الرجل القبطي كان على وجه الخطأ وليس عمداً، بأن وكزه وكزة بغية تأديبه ومنع اعتدائه على الإسرائيلي المستضعف، فمات منها ولم يكن يعلم أنها ستؤدي إلى موته، أي: إنه قصد التأديب ومنع الظلم ولم يقصد القتل، وليس في ذلك مخالفة للشرائع والقوانين والأخلاق والعدالة؛ لأن العمد ركن من أركان الجناية عند المشرعين. وفي ظل الاستضعاف المتمكن من بني إسرائيل في مصر، والتعصب الطائفي الأعمى من النظام الملكي الفرعوني والأقباط الموالين للنظام ضد بني إسرائيل، فقد خشيت أن تعاملوني معاملة المجرم والقاتل المتعمد وتعاقبوني ظلماً بالقتل، ففررت من ظلمكم وليس من العدالة، وخرجت من مصر وتغربت عن وطني لسنوات عديدة، ولم أكن راغباً في تلك العاقبة الوخيمة، ولأن ما قمت به ليس جريمة، بل فضيلة لأنه كان بدافع الدفاع عن المظلومين المستضعفين ونصرتهم، ولأن رحمة الله (جل جلاله) لا تقسم بحسب أهواء الناس ومعايير الفراعنة والمترفين المادية المجحفة في الحياة فتعطى لعلماء المظاهر والألقاب الفارغة، وإنما تقسّم بحسب الاستحقاق الفعلي والكمال الروحي ومقتضى الحكمة الإلهية البالغة، فقد قدر ربي حسن نيتي ودوافعي حين قتلت الرجل القبطي الظالم عن طريق الخطأ، حيث قصدت التأديب ومنع الظلم وليس القتل، فقابل إحساني بأحسن منه، فوهبني الفهم والحكمة وإصابة النظر في حقائق الأمور، وإتقان الرأي في التدابير العملية في الحياة العامة والخاصة، والعلم بدينه وأحكامه وأوجه الخير والفضيلة، وأعطاني الإرادة والشجاعة للعمل بما علمني، وجعلني أحد أنبيائه المكرمين، وأرسلني إليك وإلى قومك وإلى الناس أجمعين، حيث وجدني أهلاً للنبوة والرسالة فهو أعلم حيث يجعل رسالته التي تقوم على الصدق والإخلاص والفضيلة والكمال الروحي والعمل الصالح، وليس على الثروة والسلطة والمظاهر المادية والألقاب الفارغة والتبجيل القائم على الرياء والمجاملة والتملق، وعليه: فمعرفتك بحالي وتقييمك لي بحسب معاييرك المادية المنحرفة لا تنفي نبوتي ورسالتي التي تقوم على معايير إنسانية وإلهية عادلة.

–   إن وجودي في بيتك وتربيتك إياي التي تعدها نعمة تمنّ بها عليّ وتقرعني بكفرانها ليست في الحقيقة وبحسب المنطق السليم وميزان القيم حجة لك عليّ، فعند التحقيق يتبين أنك في الحقيقة حاكم ظالم لشعبه، هضم حقوقهم وأذاقهم ألوان العذاب، وأن ما قمت به من أجلي لا يساوي شيئاً في قبال ما أسأت به لقومي من بني إسرائيل من ظلم واستعباد وهضم للحقوق، فلا منة لك عليّ فيما زعمت أنها نعمة. لقد كان السبب في وجودي في بيتك هو ظلمك وطغيانك وعدوانك وجورك البالغ على بني إسرائيل وهم قومي، فقد سخرتهم وجعلتهم لك ولقومك بمنزلة العبيد وأذقتهم فنون وألوان العذاب والذل والظلم والهوان، إذ كنت تقتل أبناءهم وتستحيي نساءهم وتستعبد الكبار منهم وتسترقهم وتسخرهم في الأعمال الشاقة ظلماً وقهراً وعدواناً على حقوقهم الطبيعية في الحياة، فخافت أمي على حياتي، فالقتني في اليمّ من أجل إعطائي فرصة للبقاء، ولو لم تستعبد بني إسرائيل ولم تذبح أبناءهم ولم تنتهك حقوقهم الطبيعية في الحياة، لما اضطرت أمي إلى المجازفة بوضعي في التابوت وإلقائي في النيل بحثاً عن فرصة ولو ضئيلة للإبقاء على حياتي، فالتقطني رجالك وأدخلت إلى بيتك، أي: إن ظلمك الفاحش وطغيانك وجورك البالغ هو الذي ساقني إليك وأنا طفل رضيع لأكون في كنفك وأعيش في قصرك وأكون رهين منّتك، ثم إنك أبقيت على حياتي وقمت على تربيتي ليس رأفةً بي وحرصاً عليّ كأحد أبناء بني إسرائيل، فسيرتك الظالمة فيهم القتل بغير ذنب، وإنما لتأخذني من أهلي وتتخذني لنفسك ولدٌ لحاجتك لأن يكون لك ولداً إذ لا ولد لك، فعشت غريباً عن أهلي وبعيداً عن حنان الأم ولطف الأب في بيتك، وأهلي يجرون أذيال الحزن عليّ ويندبون عليّ ليلاً ونهاراً، وهذا الظلم والإجحاف ببني إسرائيل مما يجب رفضه واستنكاره ومقاومته، على قاعدة: إذا كان الظلم قانوناً فالمقاومة واجب، وعليه: فلا وزن ولا قيمة لإيوائك إياي في بيتك وتربيتك لي في قبال ما أسأت به لقومي من بني إسرائيل.

المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى