مواضيع

خروج فرعون لتتبع بني إسرائيل

<فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ 57 وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ 58 كَذَٰلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ>

سارع فرعون بالخروج بخيله ورجاله في جيش عظيم وقوة ضاربة على غبط وحنق لمطاردة موسى الكليم(ع) وأصحابه من بني إسرائيل، وقيل: إنه أرسل في مقدمة الجيش ستمائة ألف مقاتل، ثم تبعهم هو في أكثر من مليون مقاتل: ضابط وجندي، وقيل: لم يتخلف أحد عن الخروج سوى العجزة وأهل الأعذار، والهدف هو القضاء على بني إسرائيل وإبادتهم عن آخرهم، لكنه في الحقيقة والواقع، كان خروجاً إلى الأبد وبدون رجعة مما كانوا يملكون وبه يتمتعون من جنات وبساتين زاهية، وأنهار مطردة وعيون جارية، ومسابح ومنتزهات، ومجالس رفيعة بهية، هي مجالس القادة والأمراء التي يحف بها الخدم والأتباع، ومجالس الفرح والسرور والنشاط والبهجة، ومنابر الخطابة التي تعمل لصالح النظام كوسائل إعلام ودعاية، ونحو ذلك، ومن كنوز مخبأة من الذهب والفضة والثروات العظيمة، وغير ذلك من مظاهر النعيم والترف والحياة والسلطة ورغيد العيش الذي كانوا يتمتعون به دهراً طويلاً وهم قائمون على الكفر والظلم والجور والفساد في الأرض والتيه في البلاد والتكبر على الحق والعباد.

وقد تركوه إلى الهلاك المحتم والخزي والعار في الدارين: الدنيا والآخرة، حيث مكر الله(عز وجل) الخفي بهم، جزاء كفرهم وطغيانهم واستكبارهم على الحق وأهله، ولفساد طباعهم وعنادهم المتأصل، وعدم استفادتهم من الحجج الباهرة والآيات الزاهرة، والأدلة والبراهين القاطعة، والبيان الواضح، والإرشادات النبوية والمواعظ الصادقة، وردهم دعوة موسى الكليم وأخيه ووزيره هارون(عليهم السلام) رسوليّ رب العالمين إليهم، وغيره من الجرائم والمنكرات.

وكان إخراج فرعون وقومه مثل ذلك الإخراج، بهدف توريث تلك البساتين والعيون والقصور والمواقع والمنابر والحكومة والمقدرات والمقام الكريم التي كانوا يتمتعون بها إلى بني إسرائيل المستضعفين الذين جعلهم فرعون وقومه من قبل عبيداً وأرقاء لهم، وسخروهم في الأعمال الشاقة.

وعبارة: <فَأَخْرَجْنَاهُمْ>[1] تدل على أن خروجهم كان من مكر الله(عز وجل) وحسن تدبيره، وذلك: بسبب كفر آل فرعون وعنادهم واستكبارهم على الحق والعباد والإفساد في الأرض والتيه في البلاد.

وعبارة: <وَأَوْرَثْنَاهَا>[2] تدل كذلك على التدبير الإلهي، حيث أهلك آل فرعون، وأبقى بني إسرائيل بعدهم، ليكون بنو إسرائيل وارثين لآل فرعون، جزاءً لبني إسرائيل على إيمانهم وصبرهم وطاعتهم لولي الله الأعظم ورسوله الكريم موسى الكليم(ع) مما يدل على أن الله(عز وجل)، لا يدع الظالمين وظلمهم، بل هو ينتقم منهم على أيدي المستضعفين المجاهدين المخلصين، أو على أيدي ظالمين مثلهم، حيث ينتقم الله (جل جلاله) بالظالم من الظالم، قول الله تعالى: <وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ>[3] أو بأي سبب كان من الأسباب الطبيعية أو الغيبية، ولو بعد حين من الزمن، ولهم في الآخرة أشد العذاب، وهذه سنة إلهية تاريخية عامة: هلاك المستكبرين، ونصرة المظلومين المجاهدين ولو بعد حين، فسبحان الله مالك الملك، مجري الفلك فالق الإصباح، ديان الدين رب العالمين، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء بطاعته، ويذل من يشاء بكفره ومعصيته.

وحول استخلاف بني إسرائيل بعد هلاك آل فرعون، قيل:

     إن موسى الكليم(ع) وبني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر بعد هلاك آل فرعون وسيطروا على السلطة وأنشأوا حكومتهم فيها، ومكثوا في مصر حاكمين مدة مديدة من الزمان.

–   إن بني إسرائيل انقسموا إلى جماعتين بعد هلاك آل فرعون: جماعة ذهبت مع موسى الكليم(ع) إلى بيت المقدس في فلسطين، وجماعة بقيت في مصر وسيطروا على الحكم فيها.

–   إن جميع بني إسرائيل ذهبوا إلى بيت المقدس في فلسطين وأقاموا حكومتهم فيها، وأن الاستخلاف، يعني: مجرد سقوط حكومة آل فرعون في مصر، وقيام حكومة بني إسرائيل في فلسطين.

–   إن بني إسرائيل ذهبوا جميعاً إلى بيت المقدس في فلسطين بعد هلاك آل فرعون، إلا أنهم رجعوا إلى مصر بعد حين، على زمن سليمان بن داوود(ع) وسيطروا على الحكم فيها.

يقول آية الله الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: «إلا أنه مع ملاحظة أن موسى(ع) نبي ثائر كبير، فمن البعيد جداً أن يترك هذه الأرض التي تهاوت أركان حكومتها وقد أصبحت مقاليد أمورها بيده فيذرها كلياً دون أن يخطط لها خطة ويتجه نحو فلسطين وبيت المقدس والصحاري الشاسعة، ولا سيما أن بني إسرائيل قد سكنوا مصر لسنين طوال، وتعودوا على محيطها، فبناءً على هذا لا يخرج الأمر من أحد حالتين: إما أن نقول: إن بني إسرائيل عادوا جميعاً إلى مصر وحكموا فيها، أو أن نقول: إن قسماً منهم بقوا في مصر بأمر موسى(ع) واستولوا على العرش وحكموا في مصر… وفي غير هاتين الحالتين لا يتجلى مفهوم لإخراج الفراعنة منها ووراثة بني إسرائيل لها»[4].


  • [1]. الشعراء: 57
  • [2]. الشعراء: 59
  • [3]. الأنعام: 129
  • [4]. تفسير الأمثل، ناصر مكارم الشيرازي، جزء 11، صفحة 245
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى