مواضيع

نجاة بني إسرائيل وهلاك فرعون وجنوده

<فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ 60 فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَىٰ إِنَّا لَمُدْرَكُونَ 61 قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ 62 فَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ 63 وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ 64 وَأَنْجَيْنَا مُوسَىٰ وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ 65 ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ 66 إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ 67 وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ>

فلما قرب فرعون الطاغية مع جيشه الجرار من بني إسرائيل عند وقت شروق الشمس وطلوعها، وقيل: لفظة مشرقين، يعني: حال كون بني إسرائيل راحلين أو متوجهين نحو المشرق إلى جهة سيناء ليذهبوا إلى الأرض المقدسة فلسطين، ورأى الجمعان: فرعون وجيشه، وموسى الكليم(ع) وبنو إسرائيل، كل منهما الآخر، خاف بنو إسرائيل وذعروا وأيقنوا بأنهم هالكون لا محالة، فجيش فرعون الجرار الذي لا طاقة لهم به قد خرج بقيادة فرعون الطاغية بكامل تجهيزاته بهدف إبادتهم والقضاء عليهم، وهم غاضبون عليهم ومتعطشون لسفك دمائهم، وقد قتلوا أطفالهم الأبرياء من قبل بدون رحمة لسنوات عديدة، فقالوا شاكين لموسى الكليم(ع): <إِنَّا لَمُدْرَكُونَ>[1] أي: سيدركنا جيش فرعون ويقضي علينا لا محالة؛ لأن البحر من أمامنا، والجيش الفرعوني الجرار الذي لا طاقة لنا به من خلفنا يريد الفتك بنا والقضاء علينا وإبادتنا، فلا فرصة لنا ولا أمل في النجاة والدلائل والقرائن كلها تدل على ذلك.

وفي هذه الحالة الصعبة جداً التي لا يمكن وصف مرارتها، وقد بلغت القلوب الحناجر، وربما تزعزع إيمان بعض بني إسرائيل من ضعفاء النفوس وفقدوا معنوياتهم وأنهارت قواهم، قال لهم موسى الكليم(ع) بكل ثقة واطمئنان: <كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ>[2] أي: ليس الأمر كما يظهر لكم وتظنون، بل هو على خلاف ذلك في الحقيقة والتدبير الإلهي ومكره، فلا تخافوا من فرعون وقومه ولا تحزنوا، فلن يدركونا ولن يتمكنوا من القضاء علينا وإبادتنا؛ لأن معي ربي القادر على كل شيء: بالهداية والحفظ والنصر، وقد وعدني الخلاص منهم، وأن يحفظنا وينصرنا على عدونا، وهو صادق لا يخلف الميعاد، فسوف يهديني ويرشدني لا محالة إلى طريق النجاة من إدراكهم، فقد تيقن بنو إسرائيل الهلاك بجهلهم، وتيقن موسى الكليم(ع) النجاة بعلمه بالله الرحمن الرحيم وقدرته على كل شيء وحكمته، وقد وعده بهلاك فرعون وقومه ونجاة بني إسرائيل، ولا يمكن أن يخلف الميعاد بأي حال من الأحوال، وأنه يطوي الطريق إليه بلطف الله ذي الجلال والإكرام وتحت عينه ورعايته.

وفي ظل ذلك التجاذب بين اطمئنان موسى الكليم(ع) وبين ذعر بني إسرائيل، أوحى الله تبارك وتعالى إلى موسى الكليم(ع) أن اضرب بعصاك البحر، وهو البحر الأحمر على خليج السويس، وقيل: هو نهر النيل؛ لأن النيل هو الأقرب إلى مكان سكن بني إسرائيل والفراعنة أيضاً، ويجب على بني إسرائيل عبور نهر النيل؛ لأنهم يسكنون في جهة غرب النيل، ويجب أن يتجهوا نحو الشرق للوصول إلى الأرض المقدسة فلسطين، ولأنه لا حاجة لبني إسرائيل إلى عبور البحر الأحمر لكي يصلوا إلى الأرض المقدسة فلسطين؛ لأن هناك منطقة يابسة يمكن العبور منها قبل حفر قناة السويس في العصر الحديث، ولأن لفظ (اليم) أكثر دلالة على النيل، لأن لفظ اليم استخدم في سورة طه في البحر الذي ألقت أم موسى فيه موسى الكليم(ع) من أجل الإبقاء على حياته والتقطه رجال فرعون منه، وبإجماع الباحثين هو النيل، والبحر الذي عبره بنو إسرائيل وغرق فيه فرعون وجنوده، مما يشعر بأنهما واحد وهو نهر النيل.

ففعل موسى الكليم(ع) ما أمره به رب العالمين، فإذا هم أمام مشهد عجيب جداً ومثير للدهشة ورائع أيضاً، تهللت له وجوه بني إسرائيل وانفتحت أساديرهم وعادت لهم نفوسهم والأمل في النجاة بل تيقنوا به بلطف الله وحسن تدبيره، إذ انشق البحر وظهر اثنا عشر طريقاً يابساً بعدد أسباط بني إسرائيل، وقام الماء على طرفي كل طريق: عن يمين الطريق وعن يساره، كالجبل العظيم الثابت في مقره، الشامخ في علوه الجليل في رسوخه وهيبته، فسلك كل سبط من بني إسرائيل طريقاً من الطرق الاثني عشر الممهدة، وأقبل فرعون مع جيشه الجرار، فلما انتهوا إلى البحر ورأوا الماء قد انحسر عن الأرض وظهرت طرقٌ سالكة ممهدة في البحر، لم يتعظوا بالآيات والبينات، فاقتحموا تلك الطرق، وهي نفس الطرق التي سلكها موسى الكليم(ع) مع بني إسرائيل، وساروا فيها آمنين مطمئنين، يريدون اللحاق ببني إسرائيل لإبادتهم والقضاء عليهم.

روي أن فرعون قال لأصحابه: ألا تعلمون أني ربكم الأعلى، فقد استجاب البحر لرغبتي وفتح الطريق أمامي لأصل إلى الخارجين على إرادتي وسلطتي الذين يرفضون الاعتراف بألوهيتي وربوبيتي، ومع ذلك لم يجرأ أحد من أصحابه على أن يدخل البحر، وامتنعت الخيل من الدخول إلى البحر لهول المشهد، فتقدم فرعون حتى جاء إلى البحر، فقال له منجمه: لا تدخل البحر، فعارضه فرعون ولم يقبل منه، وأقبل على فرس (ذكر الخيل) فامتنع من أن يدخل إلى البحر، فتمثل جبرائيل(ع) وهو على رمكة (أنثى الخيل) فتقدمه فدخل البحر، فنزل الفرس الذي كان عليه فرعون ودخل البحر يطلب الرمكة، ودخل أصحابه خلفه وهذا يدل على أن المعجزة لا تصنع الإيمان، وإنما الإيمان نور في القلب يسطع لسلامة الطبع والاستعداد الفعلي والإخلاص في طلب الحقيقة والبحث عنها والعمل بمقتضاها، فلما تكامل دخول فرعون وجيشه حتى آخر واحد منهم في داخل البحرة وتكامل خروج بني إسرائيل حتى آخر واحد منهم من داخل البحر إلى الضفة الأخرى (الشاطئ) أمر الله (عز وجل) الرياح فضربت البحر، فأقبل الماء ينطبق على فرعون وجيشه كما ينهال الجبل، فقال فرعون: <آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِين>[3] فلم يقبل منه حيث فات وقت التوبة، فقيل: <آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِين>[4] فأغرق الله (جل جلاله) فرعون وجيشه أجمعين ولم ينجُ منهم أحد أبداً، وأصبح البحر مقبرتهم أجمعين.

<وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ>[5] تدل على أن الله(عز وجل) قرّب فرعون وقومه من موسى الكليم(ع) وقومه في الطرق السالكة في البحر، لئلا ينجو أحد من قوم فرعون، وبذلك أنجى الله(عز وجل) موسى الكليم(ع) والذين معه من بني إسرائيل المستضعفين وأصبحوا أحراراً مكرمين، بأن أبقى الطرق السالكة في البحر على تلك الحالة والهيئة العجيبة، حيث الماء على جانبيها كالطود العظيم حتى عبروا وخرجوا أجمعين إلى الشاطئ من الضفة الأخرى، وأهلك فرعون وجيشه الجبابرة بأن أطبق البحر عليهم وهم في وسطه فأغرقهم أجمعين في لحظة واحدة.

فإن فرعون الطاغية الذي تجبر، وقال: <أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى>[6] ولي ملك مصر، وهذه الأنهار تجري من تحتي، وقد خرج في جيش جرار عظيم من أجل الانتقام من بني إسرائيل المستضعفين وإبادتهم والقضاء عليهم ظلماً وعدواناً، فأنتقم الله(عز وجل) منه ومن جنوده أشر انتقام وأغرقهم أجمعين ليكونوا عبرة وموعظة للذين من بعدهم من الطواغيت والفراعنة والحكام الظالمين المستبدين والمترفين المتعالين، بأن يتعرفوا جيداً على الحقائق الكونية والسنن الإلهية في الحياة، ويعلموا بأن الظلم لا يدوم، وأن يد الله(عز وجل) وقدرته تطالهم بالعذاب والانتقام على جرائمهم بحق المستضعفين والمظلومين.

وهكذا أصبح الأرقاء المستضعفون أحراراً، وهلك الجبابرة الطغاة، وانطوت صفحة من صفحات التاريخ، وفتحت صفحة أخرى، وورث المستضعفون السلطة والثورة، وتبين أن عصا موسى الكليم(ع) هي بحق وحقيقة: آية إنذار وعذاب عظيم للظالمين، وآية نجاة ورحمة للمؤمنين والأولياء الصالحين، وأنها معجزة ربانية عظيمة وخارقة لا توصف، قد عاينها الناس ورأوها رأي عين، وتدل على التوحيد وعظم القدرة الإلهية، وصدق النبوة والرسالة والمعاد وعدالة المطالب السياسية التي تقدم بها موسى الكليم(ع) إلى النظام الفرعوني، وبطلان ما كان عليه فرعون وقومه في الدين والسياسة لدى كل من تدبر فيها بموضوعية ونزاهة وحياد، إلا أن الترف والسلطة والأطماع والعناد والطبيعة الموغلة في السوء، أعمت عيون فرعون وملئه وقومه وبصائرهم عن العظة والاعتبار والإذعان للحق، فلم يستفيدوا من الآيات البينات والحجج الباهرات والمعجزات العظيمة والأدلة والبراهين المنطقية الساطعة القاطعة والمواعظ الصادقة، فلم يؤمنوا بالدين الحق، ولجوا في طغيانهم يعمهون، وذلك: لفساد قلوبهم وسوء طباعهم، كما هو دأب الطغاة المستكبرين والفراعنة المتجبرين والحكام الظلمة المستبدين والمترفين المتعالين وأعوانهم الطامعين والمتعصبين، حتى أهلكهم الله(عز وجل) أجمعين، بسبب كفرهم وعنادهم واستكبارهم على الحق والعباد، بعد أن حذرهم كثيراً وأمهلهم طويلاً.

فلا ينبغي الحزن والأسف عليهم؛ لأنهم يستحقون ما نزل بهم من العقوبة والنهاية المأساوية المؤلمة جداً جزاء أعمالهم وما كسبت أيديهم الآثمة، وليعلم الجميع بأن الله هو العزيز والمنتقم من أعدائه: أعداء الحق والفضيلة والإنسانية بعد أن يمهلهم ويقيم عليهم الحجة البالغة، فقدرته لا تحد ولا تقهر، وهو الرحيم بجميع عباده، فهو يمهل الكافرين المكذبين سنين طويلة ولا يعجل عليهم مما يدل على أن رحمته تشمل حتى المسيئين فهم خلقه وعباده، وهو الرحيم بأوليائه الصالحين وعباده المؤمنين، إذ يصبرهم ويربط على قلوبهم وينصرهم ويخلصهم من قبضة الجبارين والظالمين متى يشاء، فقد أهلك فرعون وقومه الجبارين، ونجى برحمته موسى الكليم(ع) وقومه المستضعفين، وعبارة: <الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ>[7] تدل على أن رحمة الله ذي الجلال والإكرام لا تأتي من منطق الضعف، بل لكمال ذاته وعظيم صفاته وأفعاله.


  • [1]. الشعراء: 61
  • [2]. الشعراء: 62
  • [3]. يونس: 90
  • [4]. يونس: 91
  • [5]. الشعراء: 64
  • [6]. النازعات: 24
  • [7]. الشعراء: 68
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى