إرسال موسى إلى فرعون وتأييده بالمعجزات
<وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ 23 إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّاب>
ذكر الله (جل جلاله) أنه أرسل موسى الكليم(ع) وأيده بتسع معجزات عظيمة باهرة، تدل على صدق نبوته ورسالته وأحقية ما أرسل به وعدالة قضيته ومطالبه السياسية الواقعية من النظام الفرعوني، وبطلان ماعليه الذين أُرسل إليهم: فرعون وملئه وقومه الأقباط من الشرك والظلم والاستبداد والمعصية وجحود النعمة الإلهية عليهم ونحو ذلك من الجرائم والذنوب.
والمعجزات التسع، هي: العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والطوفان والقحط ونقص الثمرات، وعزز ذلك: ببيان واضح مبين، ومنطق سليم، وأدلة وبراهين صحيحة وقاطعة الدلالة على المطلوب، ظاهرة وموجبة لتمام الإذعان، وقاهرة تتسلط على العقول والقلوب وتهيمن عليها، وذلك على يد موسى الكليم(ع)، وأضفى عليه سلطة غيبية قاهرة وهيبة ووقار تخضع لها النفوس وتنكس لها الرؤوس منعت فرعون رغم طغيانه وجبروته من قتله وإطفاء نور رسالته أو أن تمتد يده إليه بسوء، مما يدل على أن موسى الكليم(ع) كان يزاوج بين منطق العقل وبين الإعجاز الذي يدل على ارتباطه بالله ذي الجلال والإكرام وبعالم الغيب، وهذا هو دأب الأنبياء والأوصياء(عليهم السلام) دائماً.
وكانت الرسالة الربانية على يد موسى الكليم(ع) إلى فرعون وملئه وقومه وإلى بني إسرائيل وسائر الناس في زمانه، وقد خص الله (جل جلاله) بالذكر فرعون وهامان وقارون؛ لأنهم رؤساء المكذبين، والأصول التي ينتهي إليها كل فساد وفتنة وضلال، ولو آمن هؤلاء الثلاثة لآمن الجميع تقريباً، كما هي سنة المجتمعات البشرية، ففرعون هو رأس النظام والتجبر والطغيان، وصاحب الجيوش العظيمة الجرارة، وقد زعم الألوهية والربوبية بغير حق وتعالى على العباد.
وهامان وزير فرعون الأعظم وشيطانه المقرب والمخطط الاستراتيجي الذي يحمي عرشه والقائم على تنفيذ السياسة الفرعونية الشيطانية وشريك فرعون في جرائمة وطغيانه.
وقارون أغنى رجل في عصره وذو الخزائن العظيمة المليئة، ورمز الترف والبذخ والطغيان المالي، وصاحب التأثير الكبير في البساط الملكي الفرعوني، وقيل: كان يشغل منصبه وزير المالية والمسؤول عن تدبير الاقتصاد في الدولة الفرعونية، ورمز الأنانية والاستغلال والنفعية والخيانة؛ لأنه كان من بني إسرائيل فبغى عليهم واعتزلهم وأصبح يوالي فرعون ونظامه، ويساند فرعون في ظلمه وطغيانه ضد أبناء قومه وجلدته من بني إسرائيل من أجل المحافظة على مكانته لدى فرعون وزيادة ثروته؛ ولعداوته الشديدة وبغظه لموسى الكليم(ع) والمؤمنين من بني إسرائيل؛ حسداً منه إليهم لإيمانهم وغضباً عليهم لأنه يعلم بأن موسى الكليم(ع) على حق ودعوته صدق وعدل، ولكنه لا يريد أن يتبعه استنكاراً في نفسه على الحق وأهله، تماماً كما هو شأن إبليس مع آدم(ع)؛ ولأن اتباعه يتعارض مع دنياه ومصالحه الدنيوية العاجلة التي لا يريد أن يفرط فيها ولو كان ذلك على حساب آخرته.
مما يدل على أن المهم في الحكم على الأشخاص ليس انتماءهم الديني أو الطائفي أو العرقي الرسمي، وإنما على سلوكهم ومواقفهم وعلاقاتهم الاختيارية، ففي كل عصر ومصر، يجد الفراعنة المتجبرون والحكام المستبدون الظلمة من النفعيين والانتهازيين الأنانيين من جميع الطوائف والأعراق والأديان الذين يواسونهم ويدعمون سياساتهم الجائرة ضد أبناء جلدتهم، من أجل مصالحهم الشخصية الدنيوية، وهذا الولاء والدعم لا يدل في ميزان التقييم السياسي الموضعي على قبول النظام أو الحاكم بالتنوع والتعددية وإنما يدل على أنه المركز أو المحور الذي يجتمع حوله ويدور الفاسدون والنفعيون والأنانيون، بغض النظر عن انتمائهم الديني أو الطائفي أو العرقي، فهم لا يعرفون إلا أنفسهم ولا يقيمون وزناً للمبادئ والقيم والمصالح العامة، وإنما يدورون مع مصالحهم الشخصية الدنيوية حيثما دارت، ويدخلون معها في كل حانة ومخدع.
كما يدل على الدور الخبيث الذي تلعبه الطبقة الفاسدة من السياسيين والمترفين والنفعيين من رجال الأعمال وأصحاب الثروة والطامعين في المكانة والجاه والمناصب في مساندة ودعم الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة، ونشر الفساد في الأرض من أجل نزواتهم ونوازعهم الأنانية ومصالحهم الخاصة، مما يكشف عن حماقتهم وأنانيتهم المفرطة وعدم وطنيتهم وعدم اكتراثهم بالقيم السامية والمبادئ الإنسانية، حيث يقدمون مصالحهم الشخصية على جميع القيم والمبادئ والمصالح العامة: الوطنية أو القومية أو الدينية ونحو ذلك.
ويدل على ذلك: أن دعوة موسى الكليم(ع) ودعوات سائر الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين(عليهم السلام) والمؤمنين المصلحين في الأرض، تستهدف القضاء على الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة، وفضح الطبقة السياسية النفعية الفاسدة، والانتهازيين والمترفين المستغلين، الذين لا يهمهم سوى الحفاظ على مصالحهم وزيادة نفوذهم وثرواتهم، ويسعى الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحون والمؤمنون(عليهم السلام) إلى بناء مجتمع صالح يقوم على الدين الحق والصراط المستقيم، وعلى قواعد العدالة الكاملة والقيم السامية والمبادئ الإلهية، ويتمتع أهله بالأمن والسلام والاستقرار والتطور والتنمية الشاملة المستدامة، وذلك بقيادة حكومة شرعية رشيدة تعتمد على الدعم الشعبي لها.
ولأن هؤلاء المفسدين: الفراعنة والحكام المستبدين الظلمة والطبقة السياسية النفعية الفاسدة والمترفين المستغلين والانتهازيين ومن لف لفهم، وممثلهم في موضوع البحث: فرعون وهامان وقارون، فإنهم بعد أن رأوا بأم أعينهم المعجزات الباهرة من موسى الكليم(ع) لم يذعنوا للحق المبين، ولم يكتفوا بمجرد الإعراض والإنكار، بل ردوا بأسوء رد، إذ وصفوا موسى الكليم(ع) فيما جاء به من عند ربه جل وعلا بالسحر والكذب، وهو في الحقيقة وبحسب الشهادة والمنطق أطهر الخلق وأصدقهم في زمانه.
أي: إن ما جاء به ليس معجزة من عند رب العالمين تدل على التوحيد وصدق نبوته والرسالة التي جاء بها إليهم، وإنما هو من جنس السحر، وإن دعوى النبوة والرسالة دعوى كاذبة لا واقع ولا أساس لها من الصحة، وإن أهدافه سياسية انقلابية خبيثة، وهي: الانقلاب على النظام الملكي الفرعوني القائم، وعلى الدين الرسمي للدولة، وعلى التراث والثقافة الشعبية والتاريخ القومي، والسعي للإضرار بمصالح الشعب، وليس ذلك فحسب، بل السعي لطرد الأقباط من وطنهم وإخراجهم من أرضهم وأملاكهم، من أجل الاستئثار بالسلطة والثروة وفرض عقيدة التوحيد وبناء الحياة العامة والخاصة على أساسها، فسموا الحجة الباهرة والسلطان المبين سحراً وكذباً، والحجج والبراهين التي يأتي بها الأولياء الصالحون والمصلحون الشرفاء والمطالبون بحقوق الإنسان الذين يعارضون سياساتهم، ويرون فيهم خطراً على امتيازاتهم ومصالحهم غير المشروعة، إذ يقابلونها بمنطق القوة والمغالطات والاتهام، بدل مقابلة الدليل بالدليل والحجة بالحجة، لأن سلطتهم ومصالحهم تقوم على فرض الأمر الواقع بالقوة، والتدليس على الناس بالشبهات والمغالطات، وليس على الحقائق والمنطق والإرادة الشعبية.