إرادة فرعون قتل موسى
<وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ 26 وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ>
وأدرك فرعون وملؤه فشل سياستهم الإرهابية في إبطال دعوة موسى الكليم(ع) والقضاء على حركة بني إسرائيل المستضعفين التحررية، وأيقن بأن دعوة موسى الكليم(ع) والحركة التحررية لبني إسرائيل، هي كالزلزال المدمر الذي يضرب نظامه ودولته وحكومته وهيبته، فقال فرعون في يأس شديد وتجبر لملئه ومستشاريه: <ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ>[1] أي: إنه يحملهم المسؤولية في عدم قتله موسى الكليم(ع) فهو كان مدركاً لخطر موسى الكليم(ع) من البداية، وكان مقتنعاً بقتله، إلا أنهم نصحوا بتركه فقالوا: <أَرْجِهْ وَأَخَاهُ>[2] فتركه مراعاة منه لخواطرهم، ولولا ذلك لقتله وارتاح من شره بحسب زعمه، وأنه يرى الآن ضرورة المبادرة لقتله وعدم التراخي أو التأخر في ذلك.
وعليه: فهو يطلب منهم موافقته في قتله؛ لأنه ما دام موسى الكليم(ع) على قيد الحياة، فسيبقى يمثل خطراً وجودياً جدياً على النظام الفرعوني والدولة والحكومة والملك ومصالح الشعب، فالمؤمنون به والداعمون لحركته التحررية في ازدياد دائم، وحركته في تنامٍ مستمر، ويخشى أن ينتقل تأثيره من بني إسرائيل ليشمل الأقباط والموالين للنظام والملك؛ لأن منطق موسى الكليم(ع) منطق متين، وبيانه بيان واضح وساحر يسطو على العقول والقلوب مما يتيح له الفرصة الكبيرة لأن يخدع البسطاء والعوام من الناس بدرجة مخيفة، مؤكداً أنهم يملكون القوة والقدرة، وأنهم متمكنون من قتله والقضاء على حركته تماماً.
وقال مستهزءً: <وَلْيَدْعُ رَبَّهُ>[3] الذي يزعم أنه أرسله إلينا لينجيه من سخطه ويخلصه من قبضتي ويمنع عنه القتل إن قدر ربه على ذلك، أراد بذلك أن يقول: ليس لموسى الكليم(ع) رب حقيقي يستعين به فعلاً؛ لأني أنا ربكم الأعلى ولي ملك مصر وبيدي التدبير، وليس لغيري شيء من ذلك، وقيل: إنه قال ذلك تجلداً وللتمويه وإظهاراً لعدم مبالاته على خلاف الواقع وما كان يدور في نفسه من قلق وفزع وخوف شديد من موسى الكليم(ع) ومن دعائه عليه وعلى قومه، وذلك ليقينه بصدق موسى الكليم(ع) أو على الأقل: لاحتمال وجواز صدقه، لما رآه من شأنه وما جرى على يديه من الخوارق، فحمل مستشاريه المسؤولية لكي يخفي حقيقة ما كان يدور في نفسه مما يتنافى في قوله: <أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى>،[4] وكان المستشارون يمنعون فرعون من الإقدام على قتل موسى الكليم(ع) ولم يذكر القرآن الكريم الأسباب التي حملتهم على ذلك، إلا أن علماء التفسير قد ذكروا أسباباً عديدة محتملة قد استفادوا من مجموع الآيات النازلة في الموضوع، ومن السياقات للآيات الشريفة، والتحليل المنطقي والواقعي للأحداث، ونحو ذلك.
ومن الأسباب التي ذكرها علماء التفسير، التالي:
• لكي لا يظن الناس عجز النظام الفرعوني عن معارضة موسى الكليم(ع) بالحجة والبرهان، فعاجله بالقتل ليقينه بصدقه وخطر دعوته، ويكفي نفسه أعباء مواجهته ويرتاح من شره، ولا شك فإن وجود مثل هذا الظن لدى الناس، مما يلحق الضرر بالنظام ويلطخ سمعة الملك.
• لكي لا يتعاطف الناس مع موسى الكليم(ع) تحت عنوان المظلومية؛ لأن الناس يميلون غالباً بحسب طبيعتهم الإنسانية وفطرتهم إلى المظلوم، وقد يتحول إلى رمز محاط بهالة من القدسية، مما يزيد في عدد أتباعه والمؤمنين بدعوته والمناصرين لحركته التحررية، وتتحول حركته إلى تيار شعبي كبير تصعب السيطرة عليه، وقد يشمل التعاطف معه العديد من الأقباط الموالين للنظام إلى جانب بني إسرائيل، مما يلحق الضرر البالغ بالنظام.
• الخوف من الانتقام الإلهي، بأن يثأر رب موسى(ع) لقتله، وهذا مبني على جواز صدقه لما رأوه من شأنه وما جاء به من الخوارق، وقد ذكرهم بذلك مؤمن آل فرعون كما سيأتي بعد قليل، فيصيبهم الهلاك، أو أن يدعو عليهم بسحره لكونه أمهر السحرة وأعظمهم خبرة في فنون السحر واطلاعاً على دقائقه وأسراره وخباياه، وأكثرهم خطراً على الإطلاق، مما يجعل من قتله أمراً غير ميسورٍ ولا مأمون العواقب، ولولا هذا الخوف لما ترددوا في قتله ساعة واحدة، فالنظام الفرعوني تعود سفك الدماء لأتفه الأسباب.
• الانتظار لنتائج المبارزة بين موسى الكليم(ع) وبين السحرة؛ لأنهم كانوا يأملون انتصار السحرة، فيفتضح أمره ويكتشف كذبه ويقضى على دعوته بهذا الأسلوب الأسهل والأقل كلفة: مادياً وبشرياً ومعنوياً، وعليه فإن حماس فرعون لقتل موسى الكليم(ع) بناء على صحة هذا السبب المحتمل، جاء بعد المبارزة التاريخية الفاصلة، وما حققه موسى الكليم(ع) من الانتصار الساحق على السحرة، وإذعان السحرة إلى الحق واعترافهم بالهزيمة وإعلان إيمانهم بكل وضوح وبدون لبس أمام الجماهير الأمر الذي يترتب عليه عواقب وخيمة، مما أصاب فرعون وملأه بالخيبة والخسران.
• وقيل: إن المستشارين أوهموا فرعون بأن موسى الكليم(ع) ليس هو الشخص الذي أخبره المنجمون بأنه يقضي على نظامه وملكه وعليه شخصياً، وخوفوه من ذلك وحذروه منه، بل هو مجرد ساحر يمتهن السحر بمهارة فائقة لا نظير لها.
• وقيل أيضاً: إن بعض الحاشية والمستشارين كانوا يرغبون في بقاء خطر موسى الكليم(ع) على النظام والملك قائماً حباً لموسى الكليم(ع) كما هو حال مؤمن آل فرعون، أو ليبقى بال فرعون مشغولاً بخطره، فيشعر بالحاجة إليهم لمواجهته، وليأمنوا رقابة فرعون على أفعالهم، مما يقويهم ويرسخ نفوذهم في البلاط.
ثم ذكر فرعون المبررات الخارجية الواقعية لإرادته قتل موسى الكليم(ع) ويجعل من قتله عملاً موافقاً للحكمة وللسياسة الواقعية الرشيدة بزعمه، وقد ذكر سببين: الأول ذي طابع ديني ومعنوي، والثاني ذي طابع مادي دنيوي.فقال: <إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ>[5] أي: إني أخاف إن لم أقتله ونتخلص منه، أن يظهر دينه وينتشر بين الناس وينفذ إلى أعماق قلوبهم، فيبدل دينكم الذي أنتم عليه لقرون عديدة، وهو: عبادتكم إياي لأني ربكم الأعلى، وعبادة الأصنام التي هي الوسيلة للتقرب إلى واجب الوجود الذي هو إله الآلهة ورب الأرباب، وهو الدين الذي يمثل هويتكم الدينية والوطنية، ويحفظ مصالحكم ووحدتكم الدينية والوطنية، ويدخلكم بدلاً عنه في دين التوحيد، الذي يدعو إليه ويقيم الحجة والدليل بزعمه عليه، ويشرحه ببيان واضح لا لبس فيه ولا غموض، وبإسلوب ساحر مؤثر في النفوس، ويسعى بكل جهد لتشييد الحياة: الخاصة والعامة على أساسه.
وبذلك: فقد أعرب فرعون عن تخوفه الشديد من أن يبدل موسى الكليم(ع) الدين الرسمي للنظام الفرعوني، وهو الدين الذي يكتسب به فرعون صفة الألوهية ويزعم أنه الرب الأعلى الذي له ملك مصر وتدبيرها، وبيده أرزاق الناس ومصائرهم، ونحو ذلك، مما يعني أنه يخاف من أن يفقد مكانته ومنزلته وهيبته بين الناس، ويضيع ملكه ويخسر كل ما كان يتمتع به من الامتيازات، وهذا يكشف فن الأسلوب الاستكباري الخبيث لدى الأنظمة الدكتاتورية والحكومات المستبدة الظالمة في ارتداء لباس الدين واستخدام اسمه، وتبني شعاراته، من أجل تخدير الناس وتجهيلهم وترسيخ سلطتهم، وحمل الناس على تجاهل سلبيات سياساتهم ومواقفهم بإضفاء الصبغة الدينية عليها كذباً ونفاقاً، واستعدائهم على المعارضة والحركات الإصلاحية والتحررية وتحريضهم عليها.
ومن المدهش والعجيب: أن يوجد أشخاص يصدقون أطروحات الفراعنة السخيفة المخالفة للعقل والمنطق، والتي تقوم على المغالطات والقلب للحقائق والواقع، ويكذبون أطروحات الأولياء الصالحين والمصلحين الشرفاء والمطالبين بالحرية وحقوق الإنسان، التي تقوم على الحقائق الفعلية وتعتمد على البراهين والمنطق السليم، وصدق الله تعالى إذ يقول: <فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ>[6] ويأتي ذلك تملقاً لفرعون، أو بسبب التعصب المحض للدين الموروث والقومية ونحو ذلك، واتباعاً للهوى، وغفلةً عن غاية وجود الإنسان ومصيره، مما يعد سبباً للهلاك، قول الله تعالى: <وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِمْ مُقْتَدُون 23 قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُون 24 فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين>[7]
ثم ذكر فرعون سبباً آخر لإرادته قتل موسى الكليم(ع) وهو قوله: <أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ>[8] أي: إن موسى الكليم(ع) إن فشل في تبديل دينكم بدين التوحيد، وهذا هو المتوقع منكم لما تتمتعون به من وطنية وإخلاص للنظام والملك والتراث، إلا أن نجاحه في إفساد دنياكم أمرٌ محتومٌ إن بقي على قيد الحياة، وذلك بأن ينتشر دينه ويكثر أتباعه ومناصروه وتقوى شوكتهم في المستقبل، وتصعب مجاهدتهم والقضاء عليهم، وتجر مواجهتهم إلى إراقة الكثير من الدماء، ثم يعلنون التمرد على النظام والدولة والملك، ويحرضون على الثورة ضدنا، فيقع بين الناس الخلاف والفتنة والتحارب والتنازع وتتفرق الصفوف وتتمزق الوحدة الوطنية، ويفقد الناس الشعور بالأمن والاستقرار وتضطرب الأوضاع الأمنية وتتضرر المصالح الحيوية للناس، ويقضي على النظام والدولة، وينتشر القتل في صفوف القادة والأتباع الموالين للنظام والملك من الأقباط وغيرهم، ويشيع الخوف والقلق في أطراف البلاد.
انظر إلى منطق الفراعنة السخيف: يزعمون أن الأولياء الصالحين من الأنبياء المرسلين والأوصياء(عليهم السلام) والفقهاء العدول (رضوان الله تعالى عليهم) الذين يدعون بالحجة والدليل والبرهان إلى الدين الحق، ويبينون الحقائق ويشرحونها للناس، ويدعون إلى عبادة الله ذي الجلال والإكرام وتحرير الإنسان من عبادة الإنسان، ويعملون من أجل الإصلاح والتنمية الشاملة المستدامة، يحرفون الدين الحق، ويفسدون في الأرض، وأن فرعون الطاغية الذي يزعم الألوهية والربوبية ويقول للناس: <أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى>[9] كذباً وبغير حق وبدون حجة أو دليل، والذين معه من شرار الخلق من السياسيين الانتهازيين، والمترفين المستغلين الأنانيين، بما هم عليه من ضعف المنطق والسفه والسقوط الأخلاقي والطغيان والظلم الفاحش والجور ونحو ذلك، هم الذين يقيمون الدين الحق ويصلحون في الأرض وينصحون الناس، ومع هذه المفارقة العجيبة يوجد من يصدقهم ويتبعهم ويكذب الأولياء الصالحين ويعاديهم ويحاربهم بكل قوة ووسيلة !!
وبهذا: فقد حذر فرعون ملأه وقومه من دعوى موسى الكليم(ع) من جهة دينهم، ومن جهة دنياهم، ليخلص من ذلك إلى القول: بأن الحكمة والمصلحة الوطنية والسياسية الواقعية الرشيدة، تقتضي كلها الإسراع في قتل موسى الكليم(ع) وعدم التراخي أو التردد أو التأخير في ذلك.
ويمتاز الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدون الظلمة دائماً بالهوس الأمني والخوف الشديد من المعارضة والمعارضين، والمبالغة في المخاوف والإجراءات التحرزية والانتقام من المعارضين ودعاة الإصلاح والمطالبين بحقوق الإنسان، إلى درجة نشر الخوف والرعب بين الناس، ويفقد الناس الشعور بالراحة والأمن والاستقرار، وتعطل حركة التنمية والتطور في الحياة، وينشر الجهل ويكرس التخلف والتبعية في الدولة والمجتمع.
إلا أن موسى الكليم(ع) لم يكترث بتهديدات فرعون ووعيده، ورد على مقولة فرعون الشنيعة التي أوجبها له طغيانه وجبروته، واعتمد فيها على قوته واقتداره، واستظهر بعض المفسرين حضور موسى الكليم(ع) المجلس، فقال بقاطعية واطمئنان يستمدان أصولهما وجذورهما من قوة الإيمان والثقة بالله(عز وجل) واعتماده المطلق عليه: <إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ>[10] أي: استجرت واعتصمت واحتميت بالله ربي وربكم، أي: ورب فرعون نفسه ورب ملئه وقومه، فهم جميعاً خاضعون إلى إرادته وسلطانه وحكمه نافذ فيهم كما هو نافذ في غيرهم وفي جميع الأمور، فلا يملكون أن يفعلوا شيئاً كبيراً أو صغيراً بدون إذنه وعلى خلاف إرادته، فلا يستطيع فرعون أو أي شخص آخر لا يرى إلا نفسه، ويشاركه في صفة التكبر على الحق وأهله، ومتجبر على الخلق ومتعالٍ على العباد ولا يراعي حرمة أو حق لأحد من الناس، ولا يؤمن بيوم الحساب، فهو مستعد لأن يرتكب أية جريمة شنيعة من أجل رغباته ونزواته الشخصية ومصالحه، ويرى في نصيحة الأصدقاء المقربين ضعفاً أو تراجعاً، ويواجه كل دعوة صالحة ويحارب الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين(عليهم السلام) والفقهاء العدول والمصلحين الشرفاء والمطالبين بالحقوق ونحوهم، ويرى نفسه حراً طليقاً، ولا يرى لنفسه حدوداً يقف عندها لأنه غافل عن الله ذي الجلال والإكرام، ولا يؤمن بيوم الحساب، فهو لا يؤمن بالرقيب عليه، ولا بما يردعه عن الفعل القبيح والعمل السيء، ويتمتع بصلاحيات مطلقة، ولا يخاف المحاسبة والعقاب على جرائمه، مما يحمله على الشر والفساد.
يقول الشيخ محمد جواد مغنية: «تعوذ موسى بالله ممن جمع بين التكبر وعدم الخوف من الله وحسابه وعقابه؛ لأن أرذل الخلق على الإطلاق من جمع بين هاتين الرذيلتين».[11]
والواقع: أن كل من يجمع بين هاتين الصفتين: التكبر وعدم الإيمان بيوم الحساب، هو في الحقيقة إنسان سافل في غاية الخطورة على العباد، ولا يؤمن شره أبداً ما دام قادراً عليه، وتنبغي الاستعاذة بالله(عز وجل) منه، ومن شره وكيده، واستعاذة موسى الكليم(ع) تدل في الحقيقة والواقع على ثباته وصموده العظيم أمام تهديدات فرعون الاستكبارية ووعيده، وأن الجمع بين الصفتين الرذيلتين القبيحتين: التكبر وعدم الإيمان عملياً بيوم الحساب، هو الداء العضال الذي يصيب الحكام المستبدين الظلمة والمترفين المستغلين في ظل ما يملكون من الثروة والسلطة وأسباب القوة، الذين يمارسون سلطاتهم المطلقة ونفوذهم، في غياب الرقابة الغيبية والشعبية، وغياب المحاسبة، والأمن من العقاب على جرائمهم، فكل الذين يملكون الثروة والسلطة وأسباب القوة، وليست عليهم رقابة شعبية ومحاسبة قانونية ويأمنون من العقاب، فإنهم يتمادون كثيراً في جرائمهم وخياناتهم ضد الوطن والمواطنين والإنسانية، ولا استثناء في ذلك وكلما ملكوا من أسباب القوة أكثر، كان خطرهم أكبر، وشرهم أعم، وحتى الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، وهم يملكون الثروة والسلطة وأسباب القوة، ولا توجد عليهم رقابة شعبية ومحاسبة قانونية ويأمنون من العقوبة الدنيوية على أعمالهم وأخطائهم، فإن ذلك من شأنه أن يدفعهم إلى الخطأ، وقديماً قيل: «من أمن العقوبة أساء الأدب».
وعبارة: <إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ>[12] تدل على أن عمدة ما يدفع به الشر، هو العوذ بالله(عز وجل) وحده؛ لأنه وحده المستقل بالتأثير في الوجود ولا مؤثر في الوجود بغير إذنه وعلى خلاف إرادته التكوينية؛ لأن غيره يستمد وجوده وصفاته وقدرته وأفعاله منه، ولا يستقل تكويناً في شيء من ذلك عنه، وعبر بالرب: بمناسبته لطلب الحفظ؛ لأن الرب هو الخالق المالك المدبر في العالم، ولا مدبر في الحقيقة وبشكل مستقل عنه، وعبارة: <بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ>[13] تدل على اشتراكهم جميعاً معه في الخضوع لإرادة وتدبير رب العالمين الذي هو الرب الحقيقي الوحيد، وفي العبارة مقابلة مع عبارة فرعون الاستعلائية <وَلْيَدْعُ رَبَّهُ>[14] حيث خص ربوبيته تعالى بموسى الكليم(ع) بزعم أنه فوق أن يكون له رب، فأراد موسى الكليم(ع) أن يذكره مع ملئه، بأن ربوبية رب العالمين تشملهم، وأن حكمه نافذ فيهم، وعليه: فهو قادر على أن يقيه شرهم وغائلتهم.
وعبارة: <مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ>[15] المراد بها: فرعون، إلّا أنه لم يسمه لإرادة التعميم لكل من يحمل هذه الصفة القبيحة، وعبارة: <لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ>[16] فيها إشارة إلى موجب شره وطغيانه وفساده في الأرض.
وقد قيض الله (جل جلاله) لموسى الكليم(ع) من الأسباب ما دفع به عنه شر فرعون الطاغية وملئه، ويخلص بني إسرائيل ويحررهم من قبضة فرعون واسترقاق الأقباط لهم، وينجيهم من إرادة إبادتهم والقضاء عليهم، ويهلك فرعون وملأه وجنوده أجمعين، ويستخلف بني إسرائيل المستضعفين في الأرض، ويورثهم الثروة والسلطة والديار وكل ما خلفه آل فرعون وراءهم من أسباب النعيم.
- [1]. غافر: 26
- [2]. الأعراف: 111 – الشعراء: 36
- [3]. غافر: 26
- [4]. النازعات: 24
- [5]. غافر: 26
- [6]. الزخرف: 54
- [7]. الزخرف: 23-25
- [8]. غافر: 26
- [9]. النازعات: 24
- [10]. غافر: 27
- [11]. تفسير الكاشف، محمد جواد مغنية، جزء 6، صفحة 448
- [12]. غافر: 27
- [13]. نفس المصدر
- [14]. غافر: 26
- [15]. غافر: 27
- [16]. نفس المصدر