المفارقة العجيبة بين دعوتين: دعوة مؤمن آل فرعون ودعوة قومه
<وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ 38 يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ 39 مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَىٰ إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَاب 40 وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41 تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ 42 لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ 43 فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ 44 فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ 45 النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ>
تمادى فرعون الطاغية وقومه الجهلة في الغي والطغيان والضلال والفساد، إلا أن مؤمن آل فرعون لم ينخدع، وحاول فرعون أن يحرف الموضوع عن وجهته عن طريق طرح مشروع البرج بتمويه فرعون ومغالطاته الشيطانية الخبيثة، ولم يلتفت إليها ولم ينشغل بها كما ينشغل البلهاء والحمقى الساذجون بألاعيب الطواغيت والحكام المستبدين، وتابع كلامه ونصيحته لقومه ورغبهم في أن يقبلوا دعوته لهم بإتباع سبيل الهدى والرشاد وحثهم على الإيمان بالتوحيد والنبوة والرسالة والمعاد، وحثهم على العمل من أجل الآخرة ونهاهم عن الاغترار بالدنيا الفانية، وبما في أيديهم من الملك والثروة والقوة، فقال: <يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ>[1].
أي: اتبعوني فيما أقول وأنصح لكم به واقتدوا بي في الإيمان بالتوحيد والدين الحق، واتباع موسى(ع) كما تبعته عن قناعة تامة ويقين يستند إلى الدليل العقلي المستقيم، فإن فعلتم ذلك فقد سلكتم سبيل العقل والوجدان والهدى والرشاد الذي فيه إصابة الحق، ويوصلكم إلى الخير والصلاح وإلى كمالكم الإنساني المقرر لكم، وإلى سعادتكم الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، ويحقق غاية وجودكم في الحياة، وفي هذا الطريق:
أ. عليكم أن تعلموا بأن الحياة الدنيا دار متاع ويتمتع فيها الإنسان ويتنعم قليلاً ثم تنقطع وتضمحل وتزول فهي إلى فناء حتماً، وهذا معلوم بالبداهية والوجدان، وهي مقدمته للآخرة التي هي الغاية والنهاية والمقر؛ لأنها دائمة لا تنقطع ولا تزول، والدنيا وسيلة ومجرد طريق عبور إلى الآخرة وليست ذات قيمة في نفسها، وعليه فنعيم الدنيا الفانية بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليل، ونعيم الدنيا مشوب بالألم وصنوف المنغصات، ونعيم الآخرة نقي من الألم ومن جميع الشوائب والمنغصات، فلا قياس نعيم الدنيا الفانية بنعيم الآخرة الباقية في ميزان العقل والمنطق.
والركون إلى الدنيا هو أصل كل شر وإثم، وجالب لسخط الله (جل جلاله) وغضبه وانتقامه وعقابه، ولا يناسب كرامة الإنسان ومكانتها المتميزة حيث تنتهي حياة الإنسان بصيرورته تراباً مثله في ذلك مثل سائر الحيوانات والنباتات، والذي يليق بكرامته أن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، منعماً في جنات الخلد، فهذا ما يليق بالإنسان ويحقق غاية وجوده، فلا ينبغي للإنسان العاقل أن يغتر بالحياة الدنيا وينخدع بما خلق من أجله، وأن يؤثر الآخرة على الدنيا وأن يعمل من أجلها عملاً يسعده فيها ليكون من الناصحين المفلحين الفائزين. وفي نهج البلاغة قول أمير المؤمنين(ع): «ما يصنع بالدنيا من خلق للآخرة، وما يصنع بالمال من عمّا قليل يسلبه وتبقى عليه تبعته وحسابه؟»[2]
فقد بدأ مؤمن آل فرعون بذم الدنيا وتحقير شأنها، ثم ثنى بمدح الآخرة وعظم شأنها كأنه يقول لهم: لنفترض أننا تركنا الحق وراء ظهورنا ولم نكترث به، وانتصرنا على موسى الكليم(ع) وبني إسرائيل وفرضنا عليهم حكم الأمر الواقع بأساليب السياسة الشيطانية الخبيثة والحيل والخداع والقوة والعنف والإرهاب ونحو ذلك، – تحقيق ذلك غير مضمون ولكن لنفرض أنه حدث – فماذا بعد؟! إن أيام حياتنا في هذه الحياة الدنيا معدودة ثم تنتهي وتذهب لذتها ويذهب معها الملك والقصور والثروة والقوة والنعيم، ثم ننزل في قبر مظلم موحش لا أنيس لنا فيه، ونصير تراباً في التراب، ثم نبعث في يوم القيامة ونقف بين يدي الله(عز وجل) بلا حول لنا ولا قوة من أجل الحساب والجزاء، ولأننا كفرنا بالله ذي الجلال والإكرام وباليوم الآخر، وكذبنا رسله، وظلمنا وطغينا وأفسدنا في الأرض وعملنا الأعمال السيئة، فسوف يكون مصيرنا حتماً إلى النار، فما قيمة الحياة الدنيا الفانية بالنسبة إلى هذا المصير الأسود في الآخرة الباقية في ميزان العقل والفطرة؟ الجواب لا شيء.
وهذه الأطروحة تدل على نفاذ بصيرة مؤمن آل فرعون وتمكنه من المعارف الإلهية الحقة وحكمته وقوة منطقه، فالإيمان بالآخرة هو المستند الواقعي الذي يستند إليه سلوك طريق الهدى والرشاد والتدين بدين الحق، ولولاه لكان الدين الحق مجرد نظرية تفتقر إلى الأساس الواقعي للعمل بها وتطبيقها في الحياة، ولهذا بدأ مؤمن آل فرعون بالتأكيد على الإيمان باليوم الآخر، ثم ثنى على الحساب والجزاء في ذلك اليوم العظيم والمصيري في دورة الحياة الكاملة للإنسان.
ب. إن القضية ليست مجرد فناء الدنيا وزوالها، وإنما حتمية البعث والحساب والجزاء في يوم القيامة، ففي الآخرة يحاسب الله(عز وجل) الإنسان على عقيدته وأعماله، ويجازى على السيئات بمثلها وعلى الحسنات بأحسن منها، فكل من يعمل عملاً سيئاً من أعمال القلوب أو الجوارح مثل: الكفر والشرك والنفاق والطغيان والعصيان، فإن الذي يصيبه ويعيش به من الجزاء في الآخرة يشاكل في السوء ما أتى به من الأعمال السيئة في عالم الدنيا، فلا يجزى في الآخرة إلا جزاءً موافقاً في السوء لعمله السيء، فيجازى على أعماله السيئة بما يسوءه ويغمه ويحزنه، وبقدر إساءته وما يستحقه من العقاب كمّاً ونوعاً بلا زيادة مطلقاً؛ لأن الله سبحانه وتعالى عادل لا يظلم أحداً من عباده مهما كانت إساءته وظلمه؛ لأنه غني عن الظلم، والظلم قبيح ودليل على النقص والفقر، وإنما يحتاج إلى الظلم الضعيف، والله(عز وجل) قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، فلا حاجة له إلى الظلم في جزاء عباده العاصين، وقد يعفو الله تبارك وتعالى عن العاصين تكرماً منه ورحمة، بشرط أن يكون العبد ممن يليق به العفو، أي ليس من الذين استولى عليهم الشيطان مثل الفراعنة المتجبرين وأعوانهم الذين تورطوا في الظلم معهم وسفك الدماء بغير حق، وعليه ينبغي للعامل أن يتقي تبعة أعماله في دار الجزاء.
وفي المقابل من يعمل عملاً صالحاً من أعمال القلوب والجوارح مثل: الإيمان بالتوحيد والمعاد والنبوة والتحلي بالصدق والوفاء والأمانة ويؤدي الفرائض والمستحبات ونحو ذلك، أي يجمع بين الإيمان الحق والعمل الصالح، فإن الله تبارك وتعالى يتفضل عليه برحمته ويدخله الجنة، ويرزق فيها رزقاً حسناً وافراً بلا حد ولا عد ولا حساب، فلا يحصى لكثرته واستمراره وديمومته وعدم انقطاعه، أي: يعطي المؤمنين بموازنة عمله الصالح أضعافاً مضاعفة وما لا تبلغه أعماله، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في طيبه وحسنه وجماله وكماله ونقائه وصفائه من الألم والشوائب والمنغصات، ولا تبعة عليه فيه ولا محاسبة ولا عتاب ولا شيء من نحو ذلك، يعطى إياه فضلاً من الله تبارك وتعالى ورحمة.
وعليه: ففي كلام مؤمن آل فرعون مقارنة ومقابلة بين جزاء الأعمال السيئة وبين جزاء الأعمال الحسنة، وأن جزاء الأعمال السيئة بمثلها وبلا زيادة على المستحق، أي: له حساب وتقدير عدلاً منه تعالى، أما جزاء الأعمال الحسنة فهو زائد على المستحق أضعافاً مضاعفة، وليس له حساب ولا تقدير في الكثرة والنوع، تفضلاً من الله تبارك وتعالى وكرماً ورحمة، كما نخلص من كلام مؤمن آل فرعون إلى أن الدين الحق، إيمان عن يقين يستند إلى الدليل والبرهان، وعمل صالح في عالم الدنيا، وحساب وجزاء في عالم البقاء (الآخرة)، مما يعزز الشعور بالمسؤولية الفكرية والعملية في الحياة وعدم التصرف بدون رؤية وتفكير، وعبارة <وَهُوَ مُؤْمِنٌ>[3]، فيها إيماء إلى أن الجنة محرمة على الكافرين المكذبين بالأنبياء والرسل(عليهم السلام) المخالفين لهم فيما جاءوا به من عند الله سبحانه وتعالى.
لم يلتزم فرعون وملؤه وقومه الصمت إزاء كلام مؤمن آل فرعون وهم يسمعون منه ما يسفه أحلامهم، ولكنهم عجزوا عن أن يناظروه ويقابلوا حجته بحجة مثلها، فجادلوه بالباطل ودعوه إلى الشرك وتكذيب الرسول الكريم موسى الكليم(ع) ورغبوه ورهبوه، فليس لهم منطق غير منطق التعصب الأعمى والأهواء والشهوات والعنف والإرهاب لفض ضمير الإنسان وإرغامه على مجاراتهم والسير معهم في طريق الغي والفساد والضلال، فعاتبهم عتاب الحريص عليهم المحب لهم، ولامهم بلطف على دعوتهم له إلى الكفر والضلال، بينما هو يدعوهم إلى الهدى والإيمان، وعقد مقارنة واضحة عجيبة بين دعوته لهم، وهي دعوة حق وخير ومنطق سليم، وبين دعوتهم له، وهي دعوة شر وباطل وتعصب أعمى وضلال، فقال: <وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ 41 تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ>[4].
أي: ما لي أدعوكم بما قلت ونصحت لكم إلى الخير الذي فيه الهدى والنجاة من عذاب الهلاك والاستئصال في عالم الدنيا، ومن عذاب النار في عالم الآخرة، بأن أدعوكم إلى الإيمان بالتوحيد والإيمان بأنبياء الله تبارك وتعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر وهذا يقود حتماً إلى النجاة والسعادة الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة، وأنتم تصرون على الضلال وتدعونني إلى ما فيه الهلاك والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة، ويؤدي بي إلى الخلود في عذاب جهنم في عالم الآخرة بأن تدعوني إلى أن أكفر بالله ذي الجلال والإكرام وربوبيته، وإشراك غيره معه في الطاعة والعبادة، وأكذب بأنبيائه ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، وذلك بدون علم ولا حجة صحيحة ولا دليل أو برهان مستقيم بل تعصباً وطمعاً في الدنيا وخوفاً عليها، فأجانب الحق والصدق والعدل والصواب، وأخالف العقل والمنطق والفطرة والوجدان وأفتري على الله(عز وجل) الكذب.
وهذه من أعظم الذنوب وأقبحها ويقود إلى الشقاء والهلاك في الدارين الدنيا والآخرة، فهو انحراف وضلال واضح لا لبس فيه ولا غموض، وطريق وعر ومظلم ومحفوف بالمخاطر ويؤدي إلى سوء العاقبة والمصير، لا يسلكه عاقل أبداً، فأنتم تقابلون النصح بالغش والخير بالشر والإحسان بالإساءة، وهذا خلاف العقل والمنطق والفطرة والطبع السليم، وفي قول مؤمن آل فرعون إشعار بأن إدعاء الألوهية والربوبية ونفيهما يجب أن يستندا إلى دليل يقين لا شك فيه ولا ريب، وذلك لما يترتب عليهما من مسؤوليات وتبعات خطيرة ومصيرية في الدارين الدنيا والآخرة في حالتي النفي والإثبات.
ثم أشار إلى استجماع الله سبحانه وتعالى لكمال صفات الألوهية، صفات الجمال وصفات الجلال، فقال: <وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ>[5]، أي: له القوة والقدرة المطلقة وله الغلبة كلها على غيره، فهو غالب دائماً غير مغلوب على شيء مما يعزم عليه، وهو ينصر رسله وعباده المؤمنين المجاهدين في سبيله، المتمكن من المجازاة: العقاب لكل من يعصيه والثواب لكل من يطيعه، والغفّار لمن آمن به وأسلم له لكنه أسرف على نفسه بارتكاب المعاصي والذنوب الصغيرة والكبيرة الظاهرة والباطنة وتجرأ على ساخطه، ثم تراجع وندم عما صدر منه من المعاصي والذنوب وتاب إلى ربه توبة نصوحة وأناب، فيتوب عليه بعفوه ويصفح عنه ويكفر عنه سيئاته برحمته ويرفع عنه ما كان يستحقه من العقوبات الدنيوية والأخروية بكرمه.
وعليه: فإن الله(عز وجل) ينفع الذين يؤمنون به ويعبدونه ويطيعونه في الدارين الدنيا والآخرة، أما فرعون والحكام فليس بيدهم شيء من الأمر على وجه الحقيقة والواقع، فهم لا يملكون لأنفسهم ولا لغيرهم نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً ولا جزاءً في الدارين الدنيا والآخرة.
ثم خلص إلى نتيجه عقلية حاسمة فقال: <لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ>[6]، أي: لا شك أن الأمر ليس كما تزعمون وأن الحق الواضح الصريح أن ما تدعونني إليه من الشرك بالله سبحانه وتعالى لا شأن له ولا قيمة له البتة ولا أساس صحيح له في حكم العقل والمنطق ولا حجة عليه ولا دليل له ولا برهان، فهو واجد البطلان أبداً لا ينقطع بطلانه، ولا يمكن أن ينقلب حقاً بأي حال من الأحوال وبأي وجه من الوجوه، ولا في أي ظرف من الظروف، وهو ضار بإنسانية الإنسان ومكانته وكرامته وكماله ولا فائدة منه، وهو الطريق إلى الشقاء والهلاك في الدارين الدنيا والآخرة، ولا يصح الرجوع إليه والأخذ به مطلقاً، ولا يستحق الدعوة إليه والحث على اللجوء إليه؛ لأنه ليس بشيء في الدارين الدنيا والآخرة.
أضف إلى ذلك أن الذين تدعونني لأشركهم مع الله سبحانه وتعالى في الطاعة والعبادة، يتبرأون من الذين اتبعوهم في الآخرة ويكفرون بعبادتهم، قول الله تعالى: <ذَلِكُمُ اللَّـهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ١٣ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ>[7]، وأما ما أدعوكم إليه من التوحيد والإيمان بالآخرة ونحوه فإن له أساس متين من العقل والمنطق والوجدان، وقد جاء به الأنبياء والمرسلون والأوصياء(عليهم السلام) المبعوثون من الله تبارك وتعالى، وجاءوا عليه بما يؤيده من المعجزات الباهرات والبينات الواضحات والأدلة والبراهين المنيرة القاطعة، وهو نافع للإنسان والطريق إلى نجاته وسعادته الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة.
وعليه: فليس للشرك ودعوى الألوهية والربوبية لغير الله سبحانه وتعالى مصداقية أو واقعية في الدارين الدنيا والآخرة، وليس للأصنام وكل من ترفع إليه الأيدي والأكف بالدعاء سوى الله(عز وجل) القدرة على الاستجابة للداعي، فلا يقدر على أن يصنع له شيئاً مما يطلبه أو يدفع عنه شر ما يخافه، أو ينفعه بشيء من وجوه النفع.
وفي المقابل: للتوحيد كل المصداقية والواقعية في الفكر والعمل، فالله وحده القادر على أن يجيب دعاء داعيه، وبيده أن ينفعه بكل أوجه النفع وأن يدفع عنه كل أوجه الشر في الدارين الدنيا والآخرة، وإليه المرجع والمنتهى في الأمور كلها بلا استثناء أبداً.
فمن الحكمة والموافق للمنطق والفطرة أن تنتهزوا الفرصة وتبادروا إلى التوبة والتراجع عما أنتم عليه من الكفر والشرك والتكذيب بالرسل، الذي هو سبب الهلاك والشقاء في الدارين وإلا فإن مصيركم غير مأسوف عليكم إلى الضياع، ويلحق بكم الهلاك الذي لحق بالأمم السابقة التي كفرت وكذبت الرسل(عليهم السلام) وتكونوا أنتم الظالمين لأنفسكم بسوء اختياركم.
ثم أكد مؤمن آل فرعون على العودة إلى الله بعد الموت بالبعث للحساب والجزاء، فقال: <وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ>[8]، أي: إليه يرجع الخلائق بعد الموت للحساب والجزاء وليس إلى فرعون أو سواه، وسيجازي بالحق كل على حسب عقيدته وعمله، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وهذا أمر حتمي لا مفر منه بحكم العقل والمنطق ومقتضى الحكمة والعدل الإلهي، وأن المسرفين المستكثرين من المعاصي والذنوب والمتجاوزين حد الحكمة والاعتدال والخارجين عن طور العبودية لله ذي الجلال والإكرام بالكفر والشرك والنفاق وسفك الدماء المحرمة وبغير حقها وغير ذلك من المعاصي، هم الناقصون في كمال إنسانيتهم والأشقياء الهالكون وهم أصحاب نار جهنم الذين يصيرون إليها والمعذبون فيها في الآخرة.
وعليه: يجب العبودية إلى الله ذي الجلال والإكرام واتباع سبيله سبيل الهدى والرشاد والتزام حد العبودية إلى الله ذي الجلال والإكرام؛ لأن ذلك هو حكم العقل والمنطق وفيه خيرنا وصلاحنا وكمالنا الإنساني المقدر لنا وسعادتنا الحقيقية في الدارين الدنيا والآخرة.
ثم حذر قومه من عواقب ما نصح به إليهم ونبههم، فقال: <فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ>[9]، أي: أن ما قلت لكم هي حقائق يقينية ثابتة بالدليل والبرهان القطعي، وليست أوهام أو ظنون، وستعلمون حقيقتها، ولكن بعد فوات الأوان عندما تعاينون المصائب والأهوال الشديدة حين ينزل بكم العذاب الإلهي ويعمكم في الدارين الدنيا والآخرة، حيث ينغلق أمامكم باب التوبة بعد نزول العذاب بساحتكم في عالم الدنيا والآخرة، وينغلق أمامكم الطريق للرجوع إلى عالم الدنيا لاستدراك ما فات، قول الله تعالى: <وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ٣٦ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أولَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ>[10].
عندئذ: سترون مغبة مخالفة ما قلته ونصحت به لكم وستشاهدون بأم أعينكم عواقب رد ما قلته لكم وعدم تصديقه، وستعلمون حينها صدقي وأني قد بالغت في نصحكم وتذكيركم، ولكن بدون فائدة، إذ ختم الله(عز وجل) على قلوبكم بسبب إفراطكم في العناد والتعصب والإصرار على المعاصي والذنوب، وستعلمون في المقابل: أن الذين يخالفوني الرأي ويدعونكم إلى الشرك والتكذيب بالرسول الكريم(ع) رغم كل ما جاءكم به من المعجزات والبينات هم في الحقيقة من الغاشين لكم وغير الحريصين على مصلحتكم وسعادتكم ولا يريدون لكم الخير بل يريدون لكم الشر والهلاك، ويقودونكم إليه من أجل مصالحهم الخاصة.
وفي مقولة مؤمن آل فرعون تعرض واضح بأن سبيل فرعون وملئه هو سبيل فساد وضلال وشر وهلاك، وليس كما يزعم بأن ما يشير به على قومه هو عين الهدى والصلاح والرشاد، قوله: <مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ>[11] وهذه حقيقة واقعية يدركها كل عاقل منصف لم تمنعه عن إدراكها صور وأحكامه المسبقة ورغباته الشهوانيه المنحرفة، فقد فضح العبد المؤمن الناصح إدعاءته وأبطل مقولته بالدليل والبرهان، وحذر قومه من أن يقعوا فريسة لأكاذيبه وخداعه ومكره ومغالطاته تحت تأثير الجهل والسذاجة والتملق أو الخوف والطمع أو نحو ذلك.
وفي كلام مؤمن آل فرعون تصريح واضح بإيمانه، فقد أزال الحجب والأستار وكشف عن هويته الدينية كما هي بدون تغليف، وأعلن أنه يؤمن بعقيدة التوحيد ويصدق بنبوة موسى الكليم(ع) وبرسالته وبعدالة قضيته ومطالبه السياسية والحقوقية من النظام الفرعوني، وانفصل علناً وبدون مواربة عن دين الطاغوت الملوث بالشرك والطغيان والفساد وعن نظامه الفاسد وحكومته المستبدة الظالمة، ووقف لوحده لا يملك إلا نفسه وعقيدته إزاء كفرهم وضلالهم وانحرافهم وجبروتهم وبطشهم الشديد غير مكترث ولا مبالٍ بجمعهم وقوتهم وإرهابهم، فلم يعد يسلك مسلك التقية ولم يعد يتحمل الصمت والكتمان والاختفاء؛ لأن الأمر جداً خطير، فحياة ولي الله الأعظم في خطر جدي محدق، وكذلك قومه في خطر شديد إن هم تورطوا في قتل ولي الله الأعظم(ع)، فلا مجال إذن للصمت والاختفاء، ولابد من الكلام بصراحة ووضوح لإنقاذ ولي الله الأعظم من القتل، وإنقاذ قومه من الهلاك، وهذا هو فعل الإيمان الحقيقي في الإنسان المؤمن بشدة إلى الله ذي الجلال والإكرام، ولا يلتفت إلى سواه أو إلى العقبات والتضحيات.
ثم قال: اعلموا أني حين كشفت عن إيماني ونصحت لكم، فإني قد عرَّضت حياتي للخطر إلا أني لم أكترث؛ لأني أقوم بتكليفي الإلهي وأنصح إلى قومي وأقودهم إلى طريق الهدى والخير والصلاح والنجاة والسعادة في الدارين الدنيا والآخرة، وأبعدهم عن طريق الضلال والشر والفساد والهلاك والشقاء في الدارين الدنيا والآخرة، وقد توكلت على الله ربي(عز وجل) وفوضت إليه أمري كله؛ ليجلب لي ما ينفعني في أمر ديني ودنياي وآخرتي، ويدفع عني السوء والضرر في أمر ديني ودنياي وآخرتي، وأسلمت لما يكتب لي ويقضي عليّ بحكمته ورحمته، فهو أرحم بي وأنظر لي من نفسي، واعتصمت به من شيطان مريد وجبار عنيد، فالأمر كله له وبيده وليس لي ولا لغيري في الحقيقة من الأمر شيء مستقل عنه، فلا يتصرف أحد إلا بإذنه ووفق مشيئته، وهو بصير بعباده ومحيط بهم علماً وقدرة، فلا يخفى عليه شيء من أحوالهم الظاهرة والباطنة ويعلم ما يسرون وما يعلنون، ولا يعجزه شيء ويعلم ما يستحقون من الثواب والعقاب وما يعطيهم وما يمنعهم في الدنيا والآخرة، فهو يمنعني من عدوي ويكفيني شره وما يكيدني ويريدني به من السوء، وإن سلّطه عليّ فلحكمة منه في ذلك ومن أجل صلاحي وسعادتي الأبدية عنده في الآخرة، فهو أرحم بي وأنظر إلي من نفسي.
قال ابن عربي في الفتوحات إن: «(أفوض) مأخوذة من فاض الإناء إذا امتلأ ولم يقع للمزيد. فإذا حمل المؤمن أكثر مما في وسعه ورجع في الزائد الفائض إلى الله تعالى فيتلقى سبحانه الزائد من المؤمن ويخفف عنه وهو(عز وجل) العليم البصير بمن آمن به وتوكل عليه»[12] وفي الحديث الشريف: «المفوض أمره إلى الله في راحة الأبد والعيش الدائم الرغد»[13] والتفويض لا يعني أن يترك العبد الجد والعمل وإنما يعني التدبير والتخطيط والاستمرار في العمل بجد، فيبذل كل جهده وما في وسعه بعزم راسخ وهمة عالية، ولا يخشى الصعوبات والعوائق وإنما يسعى لتذليلها والتغلب عليها وقهرها، ويقدم ما يلزم من التضحيات بأريحية ونفس مطمئنة فيما اطمئن إليه واختاره لنفسه، ثم يسلم الأمر إلى الله (جل جلاله) ليتكفل هو النتائج.
والتفويض مرتبة فوق التوكل، والتسليم مرتبة فوق التفويض، وعليه: فلأن البعث في يوم القيامة حق لا ريب فيه ولأن الجزاء: الثواب والعقاب يوم القيامة حتم لا مفر منه، ولأن الأمر كله بيد الله(عز وجل) وليس لأحد في الحقيقة من الأمر شيء مستقل عنه، فإني لا أستوحش من وحدتي ولا أرهب كثرتكم ولا أخشى تهديداتكم وإرهابكم لي، ولا أطمع في شيء مما تغرونني به من دنياكم الفانية، وأوكل أمري كله إلى الله ذي الجلال والإكرام ذي القدرة المطلقة والرحمة الواسعة والمحيط بكل شيء علماً، وأضع نفسي بين يديه وفي تصرفه وأرضى بقدره وقضائه وأسلم لجميع ما يكتبه علي ويحدثه بي بكل طمأنينة وسرور.