مواضيع

تكذيب فرعون وملئه لموسى واستهزائهم بالآيات

<لَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ 46 فَلَمَّا جَاءَهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ 47 وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ 48 وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ 49 فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُون>

لقد أرسل الله تبارك وتعالى عبده ورسوله الكريم موسى بن عمران الكليم(ع) بتسع آيات مفصلات، وهي: العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والقحط ونقص الثمرات، بالتفصيل والتعريفات المذكورة في الأبحاث السابقة، إلى فرعون وملئه من أشراف قومه وخاصتهم ومستشاريه وأعضاء حكومته وقادة جيشه وشرطته ونحوهم الذي يملأون العيون مهابة لحسن مظهرهم وما عليهم من الزينة وآثار السلطة والنعمة.

فلما دخل عليهم قصر فرعون، ومعه أخوه ووزيره وشريكه في الرسالة هارون(ع) وذلك بعد صبر وعناء شديدين، وعرفهم بنفسه وبأخيه، بأنهما رسولا رب العالمين إليهم وإلى قومهم الأقباط، بالإضافة إلى بني إسرائيل وعامة الناس في زمانهم، بشيراً ونذيراً بين يديه عذاب شديد، ودعاهم إلى الإقرار بربوبية رب العالمين وتوحيده وطاعته وعبادته وحده لا شريك له ونفي الأضداد عنه، ونهاهم مطلقاً عن القول بربوبية غيره وعبادته وطاعته بشكل مستقل عنه، وأظهر لهم المعجزات العظيمة النيرة الدالة على دعواه وتثبت صدق نبوته ورسالته بشكل قاطع لا يترك مجالاً للشك أو الريب والتردد.

إلا أنهم لم يقبلوا منه وكذبوه، وقابلوا ما جاءهم به من الحقائق والمعجزات والبينات والأدلة أول ما رأوها ووعوها، بالتهكم والسخرية والاستخفاف والاستهزاء وضحكوا منه، بدل أن ينظروا فيها وفيما دعاهم إليه من عقيدة التوحيد والمعاد والنبوة بجدية تتناسب مع عظمة المعجزات النيرات التي جاءهم بها والبينات الواضحات والأدلة الساطعة القاطعة في دلالتها على صدق نبوته ورسالته وعدالة قضيته ومطالبه الدينية والسياسية والحقوقية، وفي قيمتها المعرفية والتربوية والحضارية، كما هو دأب الجهال المستكبرين المتعالين على الحق والمنطق والقيم والمبادئ الإنسانية والحقوق، من الطواغيت الضالين، والفراعنة المتجبرين، والحكام المستبدين الظلمة، والمترفين المستغلين، والانتهازيين الأنانيين الفاسدين ونحوهم، أمام الحجج الواضحة والمنطق المتين والحقائق الساطعة التي يأتي بها المصلحون والقادة الحقيقيون، فيأخذونها بسخرية وتهكم واستهزاء، وذلك: تحت تأثير الغرور والشعور الزائف بالسلطة والقوة والعظمة وعلو الشأن، والاستعلاء على الخلق والاستكبار على الحق وأهله والقيم الإنسانية النبيلة والمبادئ السامية، ورؤيتهم الجامحة لأنفسهم: بأنهم فوق المبادئ والقيم والقانون والعباد، وفوق أن ينقادوا لصاحب دعوة حق أو فضيلة أو أن يحاسبوا، ونحو ذلك من الأفكار والمشاعر النزقة، ومن أجل مصالحهم الدنيوية السخيفة والأنانية، وليفهموا الآخرين: بأن دعوات المصلحين والقادة الحقيقيين ومطالبهم، باطلة وسخيفة لا تستحق أنظار الناس إليها، لئلا يتأثروا بها وينقلبوا عليهم، بدل أن يأخذوها بجدية وعزم، ويبحثوا فيها كما ينبغي، ليصلوا إلى الحقيقة ويعرفوها ويعملوا بمقتضاها، بمقتضى العقل والمنطق والفطرة الإنسانية والطبع السليم وكرامة الإنسان.

والخلاصة: أن ضعاف العقول وعديمي الضمير، إذا تربعوا على كرسي الحكم وتولوا المناصب القيادية العليا وتمكنوا منها، فسيكون هذا منطقهم ومنهجهم وأسلوبهم في العمل، فهم لا يخضعون لسلطان العقل والحجة والمنطق، وإنما تهمهم أنفسهم وأهواءهم ومصالحهم؛ لأنهم خرجوا عن طور العبودية وربقة الإنسانية السامية.

وهكذا كان حال فرعون وملئه في مواقفهم الاستعلائية من رسالة موسى الكليم(ع) وما دعاهم إليه من الإيمان، وما جاءهم به من المعجزات والبينات والأدلة والبراهين العقلية النيرة الساطعة، التي كان ينبغي عليهم بحكم الكرامة الإنسانية والفطرة والطبع السليم والمنطق الصائب، أن يخضعوا لها ويعملوا بمقتضاها، إلا أنهم لم يفعلوا وفعلوا النقيض؛ كذبوا موسى الكليم(ع) وسخروا منه ومن رسالته، وقتلوا السحرة الذين أعلنوا إيمانهم، واضطهدوا المؤمنين من بني إسرائيل وعذبوهم وعزموا على قتل موسى الكليم(ع) نفسه.

ومع ذلك: لم ييأس الكليم(ع) منهم واستمر في العمل على هدايتهم، ولم يعجّل عليهم رب العالمين جبّار السماوات والأرض بالعقوبة وأمهلهم كثيراً.

في البداية: خاطب عقولهم بالمنطق، وجاءهم بالمعجزات النيرات والبينات الواضحات، بالإضافة إلى الأدلة العقلية التي تكفّل بها موسى الكليم(ع)، وكانت آيات ومعجزات نيرة باهرة بالغة الدلالة على الحقيقة وعظيمة، وكل واحدة منها تتميز على أختها (مثيلتها وشريكتها) بميزة تجعلها أعظم منها وضوحاً وأكبر دلالة.

وقيل: إذا ضمت التالية إلى السابقة، إزداد الوضوح وعظمت الحجة وكبرت الدلالة.

وقيل: كل واحدة منها، يحكم من يراها بأنها أكبر من سابقتها ومثيلتها، وكلها آيات ومعجزات تامة وكاملة في إعجازها وبالغة الدلالة على حقيقة الرسالة وصدق النبوة من غير نقص ولا قصور فيها أو في دلالتها، لئلا يبقى لأحد منهم عذر ولا تبقى له حجة، ولينزلوا عن دابة الغرور التي ركبوها، ويتخلوا عن العجب والأنانية والاستعلاء والتكبر على الحق وأهله.

إلا أنهم لم يستفيدوا من ذلك شيئاً، ولم يستجيبوا للحق ويخضعوا ويتبعوا كما هو المفروض في الإنسان بما هو عاقل كريم، بل رفضوا الحق وكذبوا الرسول الكريم(ع) ووصفوه بأقبح الصفات وقرعوه بأغلظ الكلمات، فوصفوه بالكذب والخداع والتضليل والسحر ونحو ذلك من داء أنفسهم.

ومع ذلك: لم يعجل عليهم جبار السماوات والأرض بالعقوبة، بل أمهلهم كثيراً وأعطاهم فرصاً جديدة مصحوبة بأساليب التنبيه والتحذير والوعظ، فأخذهم بآيات العذاب، آية بعد آية على فترات من الزمن مثل: الطوفان ونقص الثمرات والقمل والجراد والدم وأخواتها، لعلهم يتعظون بما ينزل عليهم من العذاب، فيعودوا إلى عقولهم وإلى رشدهم ويرجعوا بالتوبة عن غيهم وعنادهم واستكبارهم وكفرهم وتكذيبهم الرسول الكريم(ع) وعن المعاصي والظلم والطغيان والأعمال السيئة والجرائم الشنيعة والفساد في الأرض ويزول شرهم، ويأخذوا بالهدى والرشاد وقبول الرسالة والصلاح في الأرض وتظهر خيرتهم وأعمالهم الصالحة.

لأن الإنسان السوي قد يعاند أو يتجاهل الحق أو يعصي ويعمل الذنوب في الحالات والأوضاع الاعتيادية، ولكن إذا نزلت عليه الشدة والبلاء والمصائب، اتعظ وتراجع وتاب بحسب فطرته، لكن فرعون الطاغية وملأه المفسدين، لم يتراجعوا وما أغنت عنهم الآيات والنذر، وإنما راوغوا، فقالوا لموسى الكليم(ع) مستغيثين به من العذاب ومعاهدين لله(عز وجل): <وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ>[1] أي: لم يعترفوا له بالنبوة، وإنما وصفوه عناداً منهم وتهكماً واستهزاءً به، ولم يقولوا: أدع لنا ربنا، وإنما قالوا: أدع لنا ربك، كأنهم لا يعترفون بربوبية الله (جل جلاله) لهم، وذلك رغم حاجتهم الماسة إلى مساعدته إياهم وأنهم في مقام الاستغاثة به، فلم يتخلوا عن غرورهم وعنادهم حتى وهم في حال المسكنة، مما يدل على فرط غرورهم وجهالتهم.

وقيل: كانوا يسمّون العلماء المهرة سحرة، وكانوا يوقرون السحرة ويعظمونهم لمكانتهم ودورهم الديني والعلمي والاجتماعي في الحياة العامة، فليس في الوصف ما يدل على الندم أو السخرية والتهكم والاستهزاء والاستخفاف، بل خاطبوه بما يخاطبون به علماءهم مدحاً له، وتضرعوا إليه: أن أدع لنا ربك الذي بعثك إلينا نبياً ورسولاً، واسأله بما عهد إليك من النبوة والرسالة والمكانة العالية المرموقة عنده، وبما خصك به من الفضائل والمناصب واستجابة الدعاء، أو بما عهد إليك وأخبرتنا به، أنه يكشف العذاب عمن آمن واهتدى، بأن يكشف عنا العذاب ويزيل آثاره السيئة عنا، فإن فعل ذلك بنا، فإننا سنكون من المهتدين المؤمنين بنبوتك ورسالتك وبما دعوتنا إليه من التوحيد والفضيلة والعمل الصالح، ونتبعك فيما تأمرنا وتنهانا عنه، ونستجيب لمطالبك منا: السياسية والحقوقية، ونقيم العدالة والمساواة بين المواطنين: الأقباط وبني إسرائيل في الحقوق والواجبات، ونعطي الإسرائيليين الحق في حرية الإقامة في مصر والهجرة منها، ونحو ذلك.

أي: عاهدوا موسى الكليم(ع) بأن يتوبوا إن كشف عنهم العذاب، وهو عهد قد بيّتوا النية على نقضه وخلافه، فدعا لهم موسى الكليم(ع) وكشف الله(عز وجل) عنهم العذاب برحمته وعنايته وبفضل دعاء موسى الكليم(ع) فلم يفوا بوعدهم ونقضوا عهدهم، تكرر ذلك مرات عديدة، وفي كل مرة ينسون كل شيء ويغدرون، ويستمرون على ما كانوا عليه من الكفر وتكذيب الرسول الكريم(ع) والرذيلة والأعمال السيئة والجرائم والجنايات الشنيعة، ويجعلون موسى الكليم(ع) والمؤمنين غرضاً لسهام غدرهم وطعنهم.

ومن جانبه: يتجاهل موسى الكليم(ع) ما يكون منهم من سخرية واستهزاء وتهم وتعبيرات لاذعة، رحمةً بهم وحرصاً منه على هدايتهم ونجاتهم من العذاب وحصولهم على السعادة في الدارين الدنيا والآخرة، ويستمر في السعي لهدايتهم ولا ييأس بسبب عنادهم وتعصبهم ويدعو لهم، ويقابلون ذلك منه، بالعودة إلى السخرية والاستهزاء والتهكم والتحقير ونقض العهود: <يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون>[2] وتوهماً منهم بأن ما نزل بهم من العذاب والشدة في كل مرة، لا يعود إليهم مرة أخرى، رغم تكرار نزول العذاب عليهم مرات عديدة، مما يدل على حمقهم وضعف عقولهم وأحلامهم وسخافة منطقهم وغفلتهم عن السنن الإلهية الحاكمة في الكون والحياة، وجهلهم بغاية وجود الإنسان ومقتضى الحكمة الإلهية البالغة والرحمة الإلهية الواسعة بالمؤمنين الصالحين، وهذا هو حال كل إنسان يغرق في أهوائه وتغلب نفسه الأمارة بالسوء على عقله وقلبه وضميره، وفي مقدمة هؤلاء: الطواغيت والفراعنة والحكام المستبدون والمترفون الفاسدون والانتهازيون الأنانيون.


  • [1]. الزخرف: 49
  • [2]. البقرة: 9
المصدر
كتاب اللامنطق في الفكر والسلوك – الجزء الثاني | أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى