مواضيع

تحقين فكرة ضرورة التراجع أمام أمريكا

في هذه الفترة الزمنية، تقتضي سياسات الاستكبار وخصوصاً السياسات الأمريكية نشر فكر معين بين شعبنا، بين نخبة المجتمع أولاً، وبعد ذلك إشاعته تدريجياً بين الرأي العام، يريدون نشر وبث فكر خاص بين الرأي العام. السياسة التي يقصدونها هي أن يتظاهروا بأن الشعب الإيراني على مفترق طريقين ولا سبيل أمامه سوى اختيار أحد هذين الطريقين. والطريقان هما إما أن يتصالحوا مع أمريكا أو يبقوا دائماً تحت ضغوط أمريكا ويتحملوا المشكلات الناجمة عن هذه الضغوط. على الشعب الإيراني أن يختار أحد هذين الخيارين. هذا ما يريدونه. طبعاً التصالح مع أمريكا لا يعني التصالح مع أية دولة أخرى. لأن أمريكا لها ثروة وأجهزة إعلامية واسعة وأسلحة خطيرة وإمكانيات كبيرة فإن التكيف والتصالح مع الحكومة الأمريكية يعني القبول بما تفرضه هذه الحكومة. هذه هي طبيعة التوافق مع أمريكا. وهكذا هو الحال في كل مكان. البلدان الأخرى أيضاً التي تتفق مع أمريكا في خصوص أية قضية، معنى ذلك أن تتراجع عن مواقفها لصالح الطرف المقابل من دون أن يتراجع الطرف المقابل تراجعاً يذكر لصالحهم. في هذا الاتفاق النووي الأخير، مع أننا أيّدنا هذا الاتفاق وأعلنا أننا نؤيد القائمين عليه ونقبل بهم، لكن المسألة كانت على نفس المنوال هنا أيضاً. قال لي وزير خارجيتنا المحترم في بعض الحالات بأننا هنا مثلاً لم نستطيع مراعاة الخطوط الحمراء. وهذا هو معنى ذلك، أي عندما يكون الطرف المقابل حكومة مثل الحكومة الأمريكية لها وسائل إعلام وقدرات وإمكانيات وأموال ودبلوماسية ناشطة وعوامل متنوعة في أطراف العالم، فإن الدول والحكومات التي تضغط عليهم سيكونون في قبضتها وتحت تصرفها، والتصالح معها يعني غض النظر عن بعض الأمور التي يصرّ عليها المرء. هذا مفترق طريقين طبقاً لما تروم أمريكا نشره وبثه في أذهان شعبنا، مفترق طريقين لا مناص منه، وثنائية لا محيص منها: إمّا أن نتنازل أمام أمريكا وإراداتها في الكثير من الأمور والحالات، أو نتحمّل ضغوط أمريكا وتهديداتها والأضرار الناتجة عن مخالفة أمريكا. يريدون أن تصبح هذه الفكرة خطاباً بين نخب المجتمع وتنتقل تدريجياً إلى كل الشعب والرأي العام. يروّجون لهذه الفكرة داخل البلاد وخارجها وينشرونها بأشكال مختلفة وعبارات متنوعة في وسائل التواصل والإعلام العامة في العالم. يعيّنون أشخاصاً ليستطيعوا نشر هذه الفكرة بين أبناء شعبنا. طبعاً ثمة في الداخل كما قلنا أفراد يوافقون هذه الفكرة وقد قبلوها، ويسعون إقناع الآخرين بها.

دققوا جيداً لأستطيع أن أوضح. أبيّن كلام الطرف المقابل ثم أقول ما يقتضيه الحق والحقيقة. كلام الطرف المقابل يعني كلام الأجهزة الإعلامية والأجهزة الصانعة للأفكار والتيارات، والتي تقول إن لإيران إمكانيات اقتصادية كبيرة وقد كان الهدف من الاتفاق النووي أن يسطيع بلد إيران الاستفادة من هذه الإمكانيات والطاقات الكامنة، طيب، حصل هذا الاتفاق، لكن هذا الاتفاق لا يكفي وهناك قضايا أخرى يجب أن يتخذ فيها الشعب الإيراني والحكومة الإيرانية والمسؤولون الإيرانيون القرار، ويعملوا. مثلاً، ثمة اليوم في منطقة غرب آسيا -أي نفس هذه المنطقة التي يسمّيها الغربيون الشرق الأوسط- فوضى واضطرابات كثيرة، طيّب، هذه مشكلة لكل المنطقة، وإذا كنتم تريدون أن يتخلص بلدكم من هذه المشكلة فيجب أن تحاولوا أن تخمد هذه الاضطرابات. ماذا نفعل؟ نتعاون مع أمريكا ونبادلها الأفكار ونتداول معها ونجتمع معها ونجلس ونتحاور ونختار نموذجاً طبقاً لرغبة الأمريكيين أو بما يتطابق والاتفاق مع الأمريكيين. هذه أيضاً مسألة أخرى.

أو: لدينا مشكلات أخرى وخلافات كثيرة مع أمريكا، ويجب أن نحل هذه الاختلافات وينبغي لهذه الاختلافات أن تنتهي. وفي حلّ هذه الاختلافات لنفترض أن الشعب الإيراني قد يضطر لغض النظر عن مبادئه وأصوله وخطوطه الحمراء، فليكن، أما الطرف المقابل فلا يتنازل عن أصوله وقيمه، ولكن إذا اقتضت الضرورة فيجب علينا نحن أن نتنازل لنعالج المشكلات، وليستطيع البلد في نهاية المطاف الاستفادة من إمكانياته ويتحول مثلاً إلى اقتصاد بارز. هذا هو كلامهم. وعلى ذلك تم الاتفاق في خصوص الملف النووي، وجعلنا اسم ذلك برجام، ويجب أن يكون هناك برجام آخر حول قضايا المنطقة، وبرجام آخر بخصوص دستور البلاد، وبرجام الثاني والثالث والرابع وإلى آخره حتى نستطيع العيش براحة. هذا منطق يحاولون نقله إلى نخبة المجتمع، ومن نخبة المجتمع إلى الرأي العام للمجتمع. ما معنى هذا الكلام؟ معناه أن تصرف الجمهورية الإسلامية الإيرانية النظر في أمور أساسية تلتزم بها بحكم الإسلام وبحكم ما يميز نظام الجمهورية الإسلامية، يجب أن تغض الطرف عن قضية فلسطين، وعن دعم المقاومة في المنطقة، وعن دعم المظلومين في المنطقة -مثل شعب فلسطين، وأهالي غزة، وشعب اليمن، وشعب البحرين- ولا تدعمهم ولا تسندهم سياسياً، وينبغي على نظام الجمهورية الإسلامية أن يعدّل ويغيّر من مطاليبه وإراداته ليقترب مما يريد الطرفُ المقابل أي أمريكا تحقيقه. معنى هذا الكلام هو كما أن بعض بلدان وحكومات المنطقة تصالحت اليوم مع الكيان الصهيوني على الرغم من حكم الإسلام وعلى الرغم من إرادة شعوبهم، وتركت قضية فلسطين لصالح قضايا أخرى، ينبغي للجمهورية الإسلامية أيضاً أن تعمل على هذا النحو. ومعناه كما أن بعض الحكومات العربية اليوم تمدّ يد الصداقة بكل وقاحة نحو العدو الصهيوني يجب على الجمهورية الإسلامية أيضاً أن تتصالح مع العدو الصهيوني.

وبالطبع فإن القضية لن تنتهي عند هذا الحد. معنى ما يطرح في ذلك التحليل السياسي للأعداء هو أن تصرف الجمهورية الإسلامية النظر عن أدواتها الدفاعية إذا رغبت أمريكا في ذلك. تلاحظون أية ضجّة يثيرونها في العالم حول قضية الصواريخ ولماذا تمتلك الجمهورية الإسلامية صواريخ، ولماذا تمتلك صواريخ بعيدة المدى، ولماذا تصيب صواريخ الجمهورية الإسلامية أهدافها بدقة، ولماذا تقومون باختبارات، ولماذا تقومون بتمارين عسكرية، ولماذا ولماذا ولماذا؟ أما الأمريكان فيطلقون مناورات بين الحين والآخر بالاشتراك مع أحد بلدان المنطقة في منطقة الخليج الفارسي التي تبعد آلاف الكيلومترات عن بلدهم -والحال أنهم ليست لهم أية مسؤولية هنا- بينما عندما تجري الجمهورية الإسلامية مناورات في دارها وفي بيئتها وفي حريمها الأمني فيرتفع الضجيج أنْ لماذا أجريتم مناورات، ولماذا عملتم وبادرتم، ولماذا قامت قواتكم البحرية والجوية بهذه الأعمال؟ معنى تحليل العدو هو أن نصرف النظر عن كل هذا. والقضية فوق حتى هذا المستوى. سوف يجرّون الموضوع تدريجياً إلى لماذا تشكلت قوات القدس أساساً؟ ولماذا تأسّس الحرس الثوري، ولماذا يجب أن تتطابق السياسات الداخلية للجمهورية الإسلامية الإيرانية مع الإسلام بحسب دستور البلاد؟ سوف تصل الأمور إلى هذا الحد. عندما تتراجعون أمام العدو وأنتم قادرون على الصمود والوقوف -وسأتحدث عن هذا لاحقاً- سيتقدم العدو -فالعدو لا يتوقف- وتصل به الأمور رويداً رويداً إلى أن ما تقولونه من إن حكومة الجمهورية الإسلامية ومجلس الشورى الإسلامي والسلطة القضائية يجب أن تكون طبقاً لأحكام الإسلام والشريعة الإسلامية، هذا الكلام بخلاف الحرية، والليبرالية لا توافق هذا الشيء. تصل الأمور شيئاً فشيئاً إلى هذه الحدود. إذا تراجعنا فإن التراجع سوف يفضي إلى هذه المحطات بأنْ يقولوا ما هو دور مجلس صيانة الدستور في المجتمع، ولماذا ينبغي لمجلس صيانة الدستور أن يرفض القرارات بسبب معارضتها للشريعة؟ هنا الكلام. هذا هو الشيء الذي ذكرته مراراً وقلتُ إنه تغيير مضمون الجمهورية الإسلامية. قد يبقى شكل الجمهورية الإسلامية على حاله لكنه سيفرغ بالكامل من محتواه ومضمونه. هذا ما يريده العدو. طبقاً لهذا التحليل الذي يريده الأعداء والذي يشيعونه وينشرونه في أذهان النخبة وبين الرأي العام للشعب، إذا أرادت الجمهورية الإسلامية وشعب إيران التخلص من شرور أمريكا فيجب عليها التخلي عن مضمون الجمهورية الإسلامية، والتخلي عن الإسلام وعن المفاهيم الإسلامية وعن أمنها.[1]


  • [1] خطاب سماجته بمناسبة بداية العام الهجري الشمسي بتاريخ 20-3-2016م
المصدر
كتاب الثورة الإسلامية في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى