الإخلاص والعمل لله
إنّ العمل الذي قام به الإمام يا أعزائي وهو أعظم عمل شهده تاريخنا المعاصر كان بفضل إخلاصه.
فلولا الإخلاص لما كانت حتّى شخصية الإمام الصلبة وجوهره المتين قادرة على السير قُدُماً بكل هذه المهام؛ فقد اجتث حكومة فاسدة ومتسلطة، كانت تحظى بدعم جميع القوى الاستكبارية من جذورها، وأنقذ الشعب من شرّها، وأسّس على أنقاضها حكومة إلهية، فقضى بذلك على الفساد المتفشي في المجتمع وأنهى تغلغل الأعادي، وهيمنة أمريكا التي أذلّت وأهانت الشعب الإيراني على مدى القرنين السالفين، وأبقته يعيش في حالة من التخلّف، وليس هذا بالأمر اليسير.
وبعد انتصار الثورة أضرمت الحرب، واستمرت ثماني سنوات، اصطفّت فيها كافّة القوى العالمية إلى جانب الجبهة المقابلة لنا، فأنهاها بانتصار الشعب الإيراني، وأفشل جميع ما دُبّر من مؤامرات، ولم يكن ليتحقق كل هذا لولا بركة ما كان يتصف به الإمام من إخلاص.
وحين رحيله عن هذه الدنيا شيعّه تسعة ملايين إنسان في شوارع طهران، ليوارى الثرى في مرقده ومقامه الأبدي، هذا كله كان بفضل الإخلاص….. فما معنى الإخلاص؟ لو كان لديكم إخلاص الإمام ومادة الإخلاص متوفرة فيكم ـ، ولو كان لدينا ولدى المسؤولين، لمُنيت جميع مؤامرات العدو اليوم بالفشل، السلاح الذي يعجز عن مواجهته أي عدو مادي، هو سلاح الإيمان الخالص والعمل المخلص.
الإخلاص معناه باختصار أن يؤدي المرء العمل للّه وحبّاً بأداء الواجب، وألا يعمل من أجل أهوائه النفسية ولكسب المال والمنال والثروة والجاه وحُكم التاريخ، وما شابه ذلك من الحوافز النفسية المنبعثة من الرغبة في إشباع صفات ذميمة كالحسد والحرص والطمع؛ بل أن يكون دافع العمل للّه ولأداء الواجب، هذا هو معنى الإخلاص.
عمل كهذا يكلل بالنجاح، ويكون قاطعاً كحد الحسام، يُزيح من طريقه كل المعوّقات، كان الإمام مجهزاً بهذا السلاح، وقد صرّح مراراً عديدة أنه لا يتغاضى عن أقرب المقربين إليه فيما لو خطا خطوة واحدة مخالفة للحق.
وهكذا كان حقّاً؛ إذ برهن في المواقف الحساسة أنّ الشيء المهم بالنسبة له هو أداء الواجب، وهو ما أثبته في العلن وفي الخفاء، في كبير الأعمال وفي صغيرها، حتى غدا سلوك الإمام هذا درساً لتلاميذه ومريديه وأبنائه، فحققوا بهذا السلاح تلك المعاجز في الجبهات أيام الحرب، ولا ريب في أنّ بعضكم كان في تلك الميادين وشهد تلك المواقف عن كثب، وسمعتم ببعضها الآخر، ونحن اليوم بحاجة إلى ذلك السلاح بالذات[1].
أنت تعلم أنّ الإخلاص هو نوعٌ من الكمال، فكلّما تجاوز الإنسان الدّوافع الشخصيّة ووصل إلى الدّوافع السامية كّلما اقترب أكثر من الإخلاص… فما هو عكس الإخلاص؟ أي أنّ الإنسان يعمل لدوافع شخصيّةٍ – أنانيّةٍ – أو دوافع مادّيّةٍ، أو دوافع روحيّةٍ لا قيمة لها.
بعض الدّوافع ليست مادّيّةً فقط – بالمعنى الحرفيّ – وملموسةً؛ لكنّها بدون أيّ قيمةٍ. على سبيل المثال؛ رؤية الوجاهة في عيون النّاس ليس مادّيّاً بمعنى محدّدٍ؛ ولكنّه أمرٌ بدون قيمةٍ يفعله البعض بسبب هذه الدّوافع الّتي لا تتوافق مع الدّافع الإلهيّ، الطّريق الصّحيح والصّراط المستقيم، وهذا بالطّبع نقيض الإخلاص. لذلك؛ كلّما تباعد المرء عن حالة الأنانيّة وحبّ النّفس، زاد «الإخلاص». كيف يمكن تحقيق ذلك؟ حسناً؛ هو نوعٌ من الكمال، مثل جميع الأعمال الأخرى الّتي يكون فيها النّضال البشريّ شرطًا ويتطلّب الكفاح، هنا الأمر هو نفسه، يجب على الإنسان أن يرتقي قليلاً. أحياناً ترى في مكانٍ يشعر فيه شخصٌ أنّه إذا قلتُ هذه الكلمة، فقد يكون ذلك منطقيّاً بالنّسبة لي، في حين هو لا يؤمن بها. حسناً؛ الشّخص غير المخلص سيقول هذه الكلمة، أمّا الشّخص الّذي يكون من أهل الإخلاص، أيّ الّذي يريد أن تكون أفعاله نقيّةً للأغراض السّامية – أي في نهاية المطاف من أجل الله عزّ وجلّ – لن يقول هذا. هذا، في الواقع، نوعٌ من الكمال. بغضّ النّظر عن الأشياء غير ذات الأهمّيّة، يتطلّب الأمر الممارسة، مثل أيّ شيءٍ آخر، بالنّسبة لك، هو سهلٌ جدّاً، لأنّك شابٌّ، وأنت نورانيٌّ وقريب من الفطرة الإلهيّة، العمل الجادّ أسهل بالنّسبة لأيّ شابٍّ منه بالنّسبة لكبار السّنّ والّذين بلغوا سنّ الشّيخوخة، يمكنك أن تقوم بهذه الأشياء[2].
قيل إنه لو كان المرء يتطلع في ساحة الجهاد في سبيل الله إلى غاية شخصية كأن يطلب الغنيمة ويقتل، فلن يعدّ شهيداً في سبيل الله، شرط الشهادة وشرط الجهاد في سبيل الله هو أن يكون تحركه في سبيل الله ولله؛ بمعنى أن يتحلى بالإخلاص. إذا أثرت الدوافع الشخصية والمحفزات الفئوية والعائلية وحالات الخجل من الأصدقاء في مسيرتنا وحركتنا لكان هذا الإخلاص مشوباً وغير نقي ولوقعت لنا مشاكل. عدم الإخلاص سيفصح عن نفسه في موضع من المواضع[3].
الركيزة الأساسية التي يقوم عليها العمل التعبوي هي الإخلاص، وأما صفة الجندي المجهول، فهي من الأوصاف التي أطلقها الإمام الخميني في مقولته: «إنّ مدرسة التعبئة هي مدرسة الشاهدين والشهداء المجهولين». تعبير «الجندي المجهول» هنا يشير الى أن التعبوي لا يسعى وراء الجاه والشهرة. قال الشاعر: «في معتقدنا تجرّد العنقاء يبقى منقوصاً؛ ويبقى حبيس التسمية من لا يرنو نحو المحتوی»؛ أي أنهم قد عملوا لوجه الله. وهذا مردّه إلى روح الثقة بالله واليقين أن الأجر لا يضيع عنده. أنتم تعبدون الله في الخلوات وتناجونه بما في ضمائركم، ولا أحد يعلم بذلك، ولكنكم على ثقة بأنه تبارك وتعالى يرى، ويحسب لكم هذا العمل عبادة، والكرام الكاتبون لا يتركون هذه العبادة تذهب سدى وكأنّها لم تكن، كلا طبعاً؛ بل يسجّلونها في كتاب أعماله عبادة، ويلقاها يوم <فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةݫݫٍ خَيرا يَرَهُ>[4]. وهكذا الحال تماماً في سائر الأعمال الاجتماعية؛ فأنت قد تقوم بعمل لوجه الله، أو تتخذ قراراً تريد به وجه الله، ولا يعلم بذلك أحد، وأنت لا تتباهى بعملك هذا أمام أحد، غير أنه تبارك وتعالى يعلمه ويكتبه لك، ومردّ هذا العمل هو الثقة بالله وحسن الظن به. حتّى لو افترضنا أن الآخرين لم يعلموا بما تفعله، فما هو مقدار الأجر الذي يقدّمه لنا الآخرون؟ وما مدى أهمية هذه الأجور الدنيوية في مقابل الأجر الإلهي؟ هكذا يفكّر التعبوي. ولذلك يخلص في عمله ويجعل عمله خالصاً لله، إنّ الإخلاص صفة من الصفات، فإن توفّر الإخلاص فسوف تتبدّد عند ذاك كلّ صور الأنانية وحبّ الذات وما شابه ذلك؛ وستزول دواعي اكتناز الثروة لذاتها، ومدّ يد الاستجداء إلى هذا وذاك؛ إذ أن كلّ هذه الممارسات ناجمة عن الشرك، وأقصد هنا الشرك الخفي. وحينما يكون هناك إخلاص فلن يكون هناك شرك؛ لأن هذه الخصال ستتلاشى وتزول[5].
من المحتمل أنّ الطلبة الذين أقدموا على هذا العمل[6] إيماناً وإدراكاً منهم بوجوب هذا العمل، لم يدركوا آثاره العميقة والمختلفة الدرجات في ذلك اليوم، ولكنّ الباري تعالى جعل بركاته العظيمة في هذا العمل الذي كان عن إيمان وإخلاص، واللّه سبحانه وتعالى جعل الآثار والبركات العظيمة في الأعمال الخالصة له دائماً.
اعلموا أيّها الأعزّة أنّ اللّه يبارك في كلّ عمل خالص له، وأنّ كلّ عمل يقوم على أساس الحسابات المادّية فهو متزلزل وإن ترتّب عليه نتائج مؤقّتة، وفي أكثر الأحيان لا توصل إلى شيء بخلاف العمل الخالص للّه «مَن كانَ لِله، اللهُ كانَ لَه»[7].[8].
كيف يمكن بلوغ أرقى المراتب المعنوية في عهد الشباب! نعم؛ وقد جرّبتم أنتم ما تحمله فترة الشباب، في جبهة الحرب.
وما قول الإمام حين أمر بقراءة وصايا الشهداء، إلاّ لهذا السبب.
وبما أنني كنت أقرأ هذه الوصايا ولازلت أقرأها متى ما وقعت بيدي، أدركت سبب تأكيده على هذا الأمر؛ إنّها تتضمن أحياناً آفاقاً من العرفان الحقيقي الأصيل، بمعنى أنّ العرفاء الذين لديهم من العلوم الدينية والعلوم الظاهرية ما يؤهلهم للعروج والتكامل، ويجعلهم أكثر نقاءً لا السالك الذي لا يحمل شيئاً من علوم الدين وتتسنّى لهم بعد أربعين أو خمسين سنة من المجاهدة أي في سن السبعين أو الثمانين المشاهدة والإدراك، هذه المرتبة يستطيع أن يبلغها شاب بفضل ما يبذله من تضحية مخلصة، خلال بضعة أشهر، يا له من أمر عجيب! لاحظوا كيف تنهمر النعمة الإلهية على القلوب المخلصة بلا حساب[9].
التأثير المتقابل للبصيرة والإخلاص
الإخلاص وهذه البصيرة يؤثران على بعضهما، كلما زادت بصيرتكم كلما اقتربت بكم من الإخلاص في العمل، وكلما عملتم بإخلاص أكبر زاد الله تعالى من بصيرتكم. <اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ>.. الله وليكم.. كلما اقتربتم من الله أكثر كلما زادت بصيرتكم ورأيتم الحقائق أكثر. إذا توفر النور استطاع المرء مشاهدة الواقع والحقائق، وحين لا يتوفر النور لا يستطيع المرء مشاهدة الواقع. <وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ>، حينما يعمي الطغيان أعين الإنسان، وحينما تعمي أهواء النفس – وهي الطاغوت الحقيقي والأسوأ من فرعون في داخلنا – أعيننا، وحينما تعمي أعيننا نزعات الجاه والحسد وحب الدنيا وعبادة الأهواء والغرق في الشهوات، فلن نستطيع مشاهدة الواقع[10].
- [1]. بيانات سماحته أمام مجموعة من قوات التعبئة بتاريخ 26-11-1997م
- [2]. بيانات سماحته بمناسبة ولادة فاطمة الزهراء بتاريخ 10-10-1998م
- [3]. بيانات سماحته أمام مجموعة من قوات التعبئة بتاريخ 24-10-2010م
- [4]. الزلزلة: 7
- [5]. بيانات سماحته أمام قوات تعبئة منطقة كرمانشاه بتاريخ 14-10-2011م
- [6]. الهجوم على وكر التجسس الأمريكي، أي السفارة الأمريكية في إيران
- [7]. بحار الأنوار، ج 18: 412، كتاب الصلاة.
- [8]. بيانات سماحته أمام الطلبة والجامعيين بمناسبة يوم مقارعة الاستكبار العالمي بتاريخ 3-11-1993م
- [9]. بیانات سماحته أمام قادة ومسؤولي الحرس الثوري بتاريخ 17-9-1997م
- [10]. بيانات سماحته أمام قوات التعبئة بمناسبة عيد الغدير ويوم التعبئة بتاريخ 25-11-2010م
تعليق واحد