مواضيع

الإخلاص العملي وتأدية الوظائف بدقّة

هذا التعبير يماثل في مضمونه الإخلاص السياسي والإخلاص العلمي، ومعناه أنّ من يمارس عملاً ما يجب أن يستشعر نوعاً من الإخلاص تجاه عمله، ويعتبر ذاته مسؤولاً إزاءه، وهذه المسؤولية تختلف عن المسؤولية أمام رب العمل؛ لأن هذه بالإضافة إلى ما تحمله من صفة شرعية وإنسانية، تجعل الإنسان يشعر ذاتياً بوجوب إتقان العمل وأدائه على أتمّ وأقوى وأفضل ما يمكن؛ في حال وجود الرقابة أو انعدامها على حدٍ سواء، هذا هو معنى الإخلاص في العمل.

الشرع الإسلامي الذي يعتبر العمل عبادة وفضيلة، يلزم من يتعهد بإنجاز عمل ما أن يؤديه على خير وجه، وهذا الكلام ينطبق على قاعة الدرس، وعلى الحقل وعلى المصنع، وعلى جهاز الخياطة والعمل المنزلي، وإذا كان العامل بأية صورة من صور العمل الذي يعد التعليم والتربية من أنواعه القيّمة أيضاً مخلصاً في عمله، فمن الطبيعي أن ينجز ذلك العمل على أفضل وجه، وهذا بمثابة مفتاح المشاكل التي يعانيها البلد.

فلو أنّ أحدكم ابتاع جهازاً وأخذه إلى داره، وبعد فترة وجيزة عطب الجهاز وكان السبب يعزى إلى عدم إتقان صنعه، فسيؤدي هذا إلى فقدان الثقة بالعمل.

ولكن لو كان هناك إخلاص في العمل لانقشع مثل هذا الشعور، ومن يرسل ولده إلى المدرسة وهو يخشى عليه من نمط التربية التي يتلقاها وما سيؤول إليه أمره، لم يتولد لديه مثل هذا الشعور فيما لو كان هناك إخلاص في العمل.

حينما يؤدي جميع العاملين أعمالهم بإخلاص، ويشعرون وهم يؤدون مهامّهم حتى وان لم يكن رب العمل موجوداً أنّ اللّه ناظر إليهم، والكرام الكاتبين والملائكة المقربين شاهدون على أعمالهم، وأنّ أي جهد يبذل في سبيل إتقان العمل موضع ثناء الكرام الكاتبين، وتدوّن لكم في سجل عملكم.

إلاّ أنّ أمثال هذه القيم لا تدخل في حساباتنا البشرية، وكثيراً ما نغفل عنها ولا نلتفت إليها، أمّا في المعايير الإلهية فالأمر يختلف عن ذلك.

فلو أنكم استثمرتم حتى آخر دقيقة من الدرس ولم تدعوها تذهب هدراً، وأنفقتم وقتكم وجهدكم حقّاً في تعليم الأطفال، أو في المصنع، أو في المزرعة، أو في العمل الذي تزاولونه في الدار، أو في أي موضع آخر، والدقّة التي تمارسونها حتى أثناء غرس الإبرة في القماش، تدوّن كلها في سجل أعمالكم، وهذا السجل لا تنحصر فائدته في يوم القيامة فقط؛ بل إنّ له أثره حتى في دار الدنيا.

أي أنّ الدقّة وإتقان العمل تبني مجتمعاً عزيزاً شامخاً ومتطوراً لا يعرف الخنوع أمام العدو، ولا يحتاج إلى لئام خلق اللّه وأعداء الإنسانية، ويجلب لبلده ولمجتمعه الفخر وحسن الصيت على الصعيد العالمي، وهذا كله يتعلّق بالحياة الدنيا، أما في الآخرة فهناك البرزخ والقيامة وثواب اللّه الذي يؤتيه جزاءً لهذه الأعمال.

هذه هي وصيّتنا لكم.

ومع فائق شكري وتقديري لقطاع العمل ولقطاع التعليم والتربية، فإني أطلب منهما ذلك، وأرجو لهما النجاح المتواصل إن شاء اللّه في إتقان عملهم.

أؤكد على مسؤولي كلا القطاعين أن لا ينغمسوا في خضمّ المشاكل اليومية الموجودة في هذين القطاعين، وأن يفكروا فيما هو أبعد من ذلك، ألا وهو تحسين أوضاع هذين القطاعين.

إنّ شعبنا يتمتع بكفاءة عالية، وكنا منذ سنوات متمادية نؤكد على ما تتصف به الشخصية الإيرانية من كفاءة، وكان البعض يتصور أننا نتحدث بمثل هذا الكلام انطلاقا من حبّنا لأبناء شعبنا وبلدنا، بينما كانت أقوالنا مستقاة من إحصائيات وأرقام، ومن حسن الحظ أنّ أخباراً وتقارير موثقة قد نشرت في السنوات الأخيرة وتناهت إلى أسماع أبناء الشعب، وقد شاهدتم أمثلة لها، ففي هذه المسابقات العالمية التي تُنظّم باسم الأولمبياد لاحظتم أنّ شبابنا مع أنهم في بداية الطريق إلاّ أنهم سبقوا شبّان أكثر الدول الأخرى، وتَفَوّق بعض مَنْ مثّلوا بلدنا في المسابقات العالمية وفي المباريات العلمية، وفي العروض الصناعية الكبرى والمعقّدة، وفي الصناعات الدقيقة تَفَوّقنا على المشاركين من الدول الأخرى، وهذه هي الكفاءة العالية.

ومن جهة أخرى؛ إذا أعطي مَن هو أكثر الناس كفاءة مِعولاً، وأرغم على أداء عمل غير علمي، فإنّه لا يمكنه أن يبدع، ولكن حينما فسح المجال، وتحرر البلد والحمد للّه من سلطة الأجانب ازدهرت الأوضاع تدريجياً.

وحينما تتحسن أوضاع التربية، والتعليم، والبحوث، والجامعات، والمدارس، وتلقى هذه المؤسسات التشجيع من الحكومة والمسؤولين، تزدهر الطاقات، وقد لاحظتم أنها ازدهرت فعلاً.

وبالنظر لوجود هذه الكفاءات العالية يجب أن يكون لدينا في مجال العمل عمالاً مَهَرة، ولابدّ أن يكون لدينا إبداع في العمل، ويجب أن تكون أجواء العمل لدينا مؤلّفة من مجموعة من الطاقات الفاعلة ذات الخبرة والاقتدار، وعلى المسؤولين أن يهيّئوا أسباب الإبداع والابتكار، ويطوروها يوماً بعد آخر[1].

ضرورة رعاية الإخلاص العملي في الأعمال الكلية والجزئية

يجب على كلّ شخصٍ في هذا المسار العامّ، نفس الشّيء الّذي يفعله عندما يوكل إليه عملٌ ما؛ أي أن يعمل بشكلٍ جيّدٍ وصحيحٍ ودقيقٍ. «رَحِمَ اللهُ امرَأً عَمِلَ عَمَلاً فَأَتقَنَه»، فقد روي رحم الله من عمل عملاً –يدويّاً كان أو فكريّاً – فأداه بإحكامٍ وإتقان. لنفترض على سبيل المثال؛ أنّ عاملًا معيّنًا في شركة «إيران خودرو» لم يعتبر أنّه من الضّروري إحكام شدّ مسمارٍ معيّنٍ نصف دورةٍ أخرى – وهي مهمّة صغيرةٌ جدًا بالنّسبة له – لكن تأثيره هو أنّه على بعد بضعة كيلومترات من تحرّك السّيّارة، فجأةً يرى أنّها اختلّت؛ لأنّه لم يلتزم بمبدأ «أتقنه» في هذا المجال. صاحب السّيّارة المسكين هذا سيعاني من آلاف المشاكل؛ لأنّ العامل كان عليه التّحرّك لثانيةٍ واحدةٍ ولم يفعل ذلك. هذا هو الإتقان.

في روايةٍ أنّ أمير المؤمنين عليّ (ع) كان يسير في السّوق، فلمّا وصل إلى الخيّاطين قال: أيّها الخيّاطون! اتّقوا الله، قوموا بخياطة الدّرزات قريبةً من بعضها، واجعلوا الغرزة صغيرةً، واختاروا الخيوط بحزمٍ. ما هي أهمّية الخياطة الآن؟ خذ درزة هذا اللّباس على سبيل المثال؛ بعد بضعة أشهرٍ يتضعضع، ثمّ نخيطه مرّةً أخرى؛ هذا مثال. ابدأ من هنا واذهب إلى تفصيل ثياب الثّورة على جسد هذه الأمّة، فكم كان هذا العمل دقيقًا وتقويّاً! وكم كان الإمام عظيماً وتقيّاً![2]

مركز العالم

يجب علينا نحن الّذين نعمل في ركنٍ معيّنٍ من النّظام أن نتعامل مع هذه الوظيفة بجدّيّةٍ ونؤدّيها؛ أن نعتبرها نفس تلك المهمّة الهامّة الّتي أوكلت إلينا، وأن نكيّف أنفسنا مع هذا العمل، لا ينبغي أن نعتقد أنّنا نقوم بذلك كما كنّا منذ عدّة سنوات على سبيل المثال، في مدينةٍ معيّنةٍ، كلّا؛ ما هو الفرق حقّاً؟ على الجبهة، يُطلب من المرء أن يمسك طرف النّقّالة وينقل الجرحى، وآخر يُطلب منه أن يرمي آر.بي.جي، وغيرهما يُطلب منه أن اذهب وارصد، وكلّما رأيت شخصًا قادمًا، أخبرنا بذلك.

لذلك؛ كلّ شخصٍ يقوم بوظيفةً ما. إذا لم يُفعل أيّ منها، ستفشل الجبهة. لا نستطيع أن نقول أنّ هذا ما أمرونا به؛ اذهب واحمل الجرحى! في الواقع؛ أهمّيّة حمل الجريح في مكانه ليست أقلّ أهمّيّةً من رمي آر.بي.جي.

في الجمهوريّة الإسلاميّة، أينما كنت، اعتبر نفسك هناك في مركز العالم، واعلم أنّ كل شيءٍ يتوقّف عليك[3].

التوسعة الاقتصادية مرتهنة على تحقق ثقافة الإخلاص العملي

لدينا فعلاً ملعبٌ للعمل في مجال الثّقافة العامّة. إذا أردنا أن نبدأ التّنمية الاقتصاديّة في المجتمع بالمعنى الحقيقيّ للكلمة، فنحن بحاجةٍ إلى جهودٍ ثقافيّةٍ، وطالما لم يكن لدى عالِمنا وباحثنا ثقافة العمل وضمير العمل وحبّ العمل، كما هو الحال في الثّقافة السّليمة، وهي المظهر الأسمى للثّقافة الإسلاميّة، فإنّ وجود هذا الباحث أو العالِم سيكون عديم الفائدة. لنفترض أنّنا قمنا بتدريب باحثين عظماء، وقمنا على سبيل المثال؛ بتزويدهم بمختبراتٍ مهمّةٍ، ستصبح هذه مهمّةً شخصيّةً.

هؤلاء العلماء العظماء الّذين نراهم في العالم، بمن فيهم أولئك الّذين نشأوا بيننا منذ قرون؛ مثل ابن سينا ​​والخوارزميّ والخيام وغيرهم، وصولاً إلى أولئك الّذين نشأوا في أوروبا في القرون الأخيرة؛ مثل أولئك العلماء العظام في الكيمياء والعلوم الطّبيعيّة وعلم الفلك، وما إلى ذلك. عندما ننظر إلى حياة هؤلاء، نرى أنّهم نسوا أنفسهم حقًا في الحياة، وهم يضعون الحياة الشّخصيّة والرّاحة والمال والمصلحة الذّاتيّة في المرتبة الثّانية؛ أقلّه لم تكن هذه الأمور مركزيّةً بنظرهم إن لم نقل أنّهم نسوها.

بعضهم نسي نفسه حقًا وعاش في فقرٍ وسكنٍ متواضع لصالح البحث والعلم والعمل والتّقدّم، فيما ركّز آخرون على البحث والعلم والعمل والتّقدّم على الأقلّ، ولم يركّزوا على الحياة الشّخصيّة، وعوضاً من ذلك وضعوها على الهامش.

كيف نحيي نحن هذه الرّوح بين باحثي بلدنا أو في بيئة العمل الإداريّ؟ يرتبط العمل الإداريّ مباشرةً بالتّنمية الاقتصاديّة. إذا أعطيت خططاً اقتصاديّةً لمجموعةٍ من البيروقراطيّات الخاطئة والمشوّهة، والخالية من ضمير العمل، ومن العلم والوعي بضرورة جودة العمل، فإنّها ستدمّرها ولن تؤتي ثمارها. كيف يمكننا ضخّ وعي وضمير العمل في مجمّع إداراتنا الّذي يشكّل الجزء الأكبر من هيكل نظامنا؟ أو كيف نتبع نصيحة الإسلام في مجال الإنتاج والبناء وتهيئة بيئات ورش العمل الجادّ في المصانع، والتي تقول: «رحم اللّه من عمل شیئاً فأتقنه»، لنضعها موضع التّنفيذ ولنحقن العامل بالإتقان وسلامة العمل والقوّة للإنتاج؛ بحيث عندما تخرج سيّارتنا من المصنع، بعد شهرٍ على سبيل المثال؛ لن تختلّ، أو ينحلّ أحد براغيها، بينما الإنتاج في الجزء الآخر من العالم ليس كذلك. أو ما يجب القيام به حتّى لا يفشل هذا الشّخص في عمله؛ في حين أنّ الآخرين متحمّسون للعمل ويحاولون بجدٍّ أكبر؟ كيف يمكننا النّظر إلى روح العمل والجدّيّة في العمل وضمير العمل ومتابعة العمل وصحّة العمل في خطط التّنمية الاقتصاديّة لدينا دون صقل الثّقافة العامّة للمجتمع وحقنهم بثقافة العمل وضمير العمل والمعلومات المتعلقة بالعمل؟ لذا؛ كما ترون، عدنا إلى قضيّة الثّقافة.

إذا لم نعمل على الثّقافة العامّة فسنبقى في التّنمية الاقتصاديّة؛ هذا فقط إذا ركّزنا على التّنمية الاقتصاديّة أيضاً. طبعاً؛ في المجتمع الإسلاميّ ليس هذا هو المحور. التّنمية الاقتصاديّة هي أداة، ومع ذلك، أينما نتحرّك نرى أنّنا نصل إلى الثّقافة وأنّ الطّرق تنتهي في الواقع إلى الثّقافة. عليكم أن تعملوا من أجل الثّقافة.[4]

الإخلاص العملي من النقاط الإيجابية للغرب

عندما بدأ الأوروبيّون الغزو الثّقافيّ لبلدنا، لم يأتوا لنشر روح تثمين الوقت، وروح الشّجاعة والمخاطرة في القضايا، أو الفضول العلميّ، في أمّتنا، أو أنّهم حاولوا من خلال الدّعاية والبحث أن يجعلوا الأمّة الإيرانيّة أمّة بضمير عملٍ أو ضميرٍ علميٍّ. إنّهم لا يفعلون هذه الأشياء! لقد جلبوا قضيّة التّحرّش الجنسيّ إلى بلادنا[5].

الإخلاص العملي؛ أي التعهد في قبال الوظيفة

افترضوا أنّ أفراد مجتمع ما يُدركون أهمية أوقاتهم، ولكنك حينما تدخل إلى هذا المجتمع فسوف لا تدرك بسرعة أنّ أبناء ذلك المجتمع هل يعرفون أهمّية الوقت أم لا؟ إلاّ أن تأثير معرفة أهمية الوقت على مصير ومستقبل المجتمع أمر في غاية الأهمية.

الإخلاص العملي ومعرفة الوقت في المجتمع مهم جداً، مثلاً؛ إذا اتفقت مع شخص على الساعة الثامنة، وذهبت في الساعة الثامنة وعشر دقائق أو الساعة الثامنة والنصف أو قبل الظهر، مع حضورك في الساعة الثامنة، تأثر مشابه؟ الإخلاص العملي جزء من الثقافة العامة اللطيفة.

الأمر بالنسبة لمسألة الإخلاص في العمل؛ أي أنّ أفراد المجتمع حينما يتقبلون مسؤولية القيام بعمل ما، فإنّهم يعتبرون أنفسهم مسؤولين قِبال ذلك، ويكون لهم شعور وجداني تجاه المسؤولية، ولا يكتفون بمجرّد إسقاط المسؤولية عن عاتقهم؛ بل إنّهم يقومون بإنجاز العمل المُوْكَل إليهم بإتقان وكمال.

وكل هذه العناوين تعتبر جزءاً من أخلاق مجتمع ما، وتأثيرها كبير جدّاً في حياة الشعوب، وبإمكانها أن تغيّر مصير ومستقبل شعب ما[6].


  • [1].  بيانات سماحته مع مجموعة من المعلمين بتاريخ 30-4-1997م
  • [2].  بيانات سماحته أمام قادة حرس الثورة الإسلامية بتاريخ 20-9-1990م
  • [3].  بيانات سماحته أمام مسؤولي مؤسسة تبليغات إسلامي بتاريخ 24-2-1992م
  • [4].  بيانات سماحته أمام أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية بتاريخ 10-12-1990م
  • [5].  بيانات سماحته أمام مسؤولي وزارة التربية والتعليم في مختلف المناطق بتاريخ 12-8-1992م
  • [6].  بيانات سماحته أمام أعضاء اللجان الثقافية بتاريخ 10-7-1995م
المصدر
كتاب الثوري الأمثل في فكر الإمام الخامنئي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى