مواضيع

الإيمان بالغيب والوعود الإلهية

إنّ الحدّ الفاصل بين الأديان السّماوية والسّواد الأعظم من المؤمنين في العالم مع باقي النّاس والبشر منذ زمن آدم عليه السّلام إلى يومنا هذا – كلّ واحدٍ منهم كان عالماً – هو الإيمان بالغيب؛ أي ما وراء عالم عواطفنا ومعادلاتنا وحساباتنا البشريّة المبنيّة على الحواسّ. هذه هي الحدود الفاصلة والنّقطة الرّئيسيّة، وتشير آية <الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ>[1] في بداية سورة البقرة إلى هذه النّقطة.

معنى الإيمان بالغيب

إن الإيمان بالغيب لا يعني تجاهل عالم الشهود؛ أي عالم التّواصل المرئيّ والشّائع لدى الجميع؛ لا ينبغي تجاهل هذا، العين ترى، الحواسّ تشعر، والعقل يدرك، يجب العمل على هذا الأساس. الإيمان بالغيب يعني أنّ وراء ما هو موجودٌ في عالم الحواسّ البشريّة والإدراك المادّيّ هناك عالمٌ آخر، وهو ليس عالماً يحظى فيه الجميع بفرصةٍ عشوائيّة؛ بل عالمٌ منتظمٌ ودقيقٌ من العلّة والمعلول؛ يعني أنّ ما وراء عالم الملك هذا، هو الملكوت وعالم المعنى، إنّ عالم المعنى هذا لا يرتبط بيوم القيامة والبرزخ وما بعد الموت؛ بل هو يتعلّق بي وبكم، ويجب الاعتقاد به. بالطبع؛ النّقطة الأساسيّة، بل المعنى الحقيقيّ الكامل لجميع العوالم، هو الذّات المقدّسة لله تبارك وتعالى، الّذي هو مصدر الحياة والوجود والتّفاعلات والحركة وكلّ شيء؛ لكن في هذا العالم غير المرئيّ، هناك العديد من الأشياء الأخرى الّتي يجب الاعتقاد بها.

إنّ بؤس الإنسان يحدث عندما يحدّ كلّ الحقيقة بمشاهداته المادّيّة وأحاسيسه؛ كالمادّيّين والكثير من غير المادّيّين الغافلين. هذا الإنسان الجاهل ليس مادّيّاً أيضاً، فهو يؤمن بالله؛ لكن مع أنّه يؤمن بالله، إلّا أنه لا يدرك أن هذا الاعتقاد مرتبطٌ بالإيمان بمبدأ الغيب والتّفاعلات والعلّة والمعلول الغيبيّ. إذا لم نؤمن بالغيب، أو لم يكن لدينا فهمٌ صحيحٌ له، فإنّ النتيجة ستكون مرتبطة بالحسابات المادّيّة، ونغدو نحن متعلّقون بالكامل بنسبة 100٪ بالمعادلات والتّبادلات البشريّة.

أين تكمن مشكلة من يأخذ بعين الاعتبار كلّ الجوانب ثمّ يهاجمنا من طبس أو الحدود الغربيّة والجنوبيّة مثلاً؟ وهل هناك سوء فهمٍ في حساباته المادّيّة؟ كلّا؛ الحسابات المادّيّة صحيحةٌ بقدر ما تعطي فهماً للتّفاعلات المادّيّة للإنسان، لقد اعتمدوا على المال والأشخاص والأدوات والسّياسة والدّعاية والدّعم، وهي كلّها أجزاءٌ من الحسابات المادّيّة، لقد قاموا بكلّ أنواع الحسابات، لكن في النّهاية ترى أنّه لا يوجد شيء في قبضة يدهم. يشير هذا إلى أنّ هناك سلسلة من الحسابات والأسباب والعوامل والتّفاعلات الّتي لا تستطيع حواس الإنسان، وفي معظم الحالات العقل المادّيّ البشريّ الوصول إليها، ويمكن أن يراها أحدٌ آخر.

أتصوّر أنّ العين الّتي ترى تلك التّفاعلات تسمّى الحكمة من النّاحية الإسلاميّة والقرآنيّة <وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ>[2]، بقدر معرفتي؛ الحكمة هي البصيرة الّتي يمكنها رؤية الحقائق خارج غشائها المادّيّ. على الرّغم من أنّني كنت مخلصاً وأميناً في خدمة إمامنا العظيم لسنواتٍ عديدةٍ قبل الثّورة، وكنت أعرفه عن كثب، إلّا أنّني أدركت بعد الثّورة أنّ إمامنا رجلٌ حكيمٌ. ليس المقصود هنا الحكيم – الفيلسوف – بالمعنى الحرفي؛ بل الحكمة المنشودة هي بالمعنى القرآنيّ الصّادق – الّتي قال الله تعالى أنّنا أعطيناها للأنبياء. انظر إلى فهرس الكتب – مثل المعجم المفهرس – تعرّف على هذه الأشياء بأُنسٍ؛ هذا عملٌ حسنٌ جدّاً، ابحث عن كلمة الحكمة في القاموس، ثمّ انظر إلى جميع الآيات الّتي وردت فيها كلمة الحكمة، وإذا كنت لا تفهم معنى الآيات، فراجع التّرجمة وانظر ما هي الحكمة في القرآن.

تصوّري أنّ الإمام الخمينيّ(ق) كان حكيماً؛ أي أنّه كان يرى نفس التّفاعلات الرّوحيّة الباطنيّة خلف الكواليس؛ مثل تيّارات المياه الجوفيّة الّتي لها علمٌ خاصٌ بها، إنّ أيّ شخصٍ، حتّى لو لم يكن له عيون، عندما يتحسّس باللّمس، فإنّه يفهم تدفّق الماء ويسمع بأذنه صوتها؛ ولكن ليس تدفّق المياه الجوفيّة، هذا هو معنى الحكمة. لقد رأيت ذلك الرّجل الاستثنائيّ في عصرنا – والّذي لا يمكن مقارنته بأحدٍ – وكأنّه كان يرى تيّارات الحوادث الجوفيّة ووراء الكواليس. لا نريد أن نقول إنّ الإمام كان يعلم الغيب، فلا أحد يعلم بالغيب إلّا من أذن الله تعالى له، لم يدّعٍ الإمام الخمينيّ ذلك، ولا توجد لدينا نحن هذه المزاعم عنه. نظرة الحكمة مختلفة؛ أي أنّه كان يفهم الأشياء بشعورٍ معنويّ.

كلّ تلك الأحداث الّتي رأيتموها خلال الثّورة، وتحدّث الإمام وقال عنها شيئًا هي من هذا القبيل. هذا لا يعني أن تتصوّر أنّه(ق) كان يحسب مادّيّاً وسياسيّاً. لا؛ لم يكن لدى هذا الرّجل العظيم أيّ من هذه الحسابات. بالطّبع كان لديه عقلٌ سياسيٌّ ناضجٌ جدّاً ويفهم الحقائق، لكنّه لم يكن يقوم بالحسابات الّتي يقومون بها عادةً. هذا هو علم الغيب وملكوت العالم وملكوت وجودكم الّذي يجب أن تؤمنوا به. طريق الوصول إليه هو التّقوى.

إنّ حقيقة أن تقف الأمّة الإيرانيّة وقائدٌ مثل الإمام الخمينيّ(ق) في مواجهة التّجمّع الواسع لأحزاب الكفر والنّفاق، من الشّرق إلى الغرب، من المسلم الأمريكيّ الهوى إلى الاشتراكيّ المزاج، من المنافقين والرّجعيّين إلى الشّهوانيّين «كان بعض النّاس يقاتلون ضدّ الجمهوريّة الإسلاميّة فقط بسبب الحقد، وقد تلطّخت قلوبهم بهذه الأشياء! فكانوا يكرهون هذا النّظام ويقاتلون ضدّه»، ويكونون واثقين بالنّصر، هي نتيجة التّقوى الّتي منحتهم الحكمة والبصيرة[3].

الإيمان بالوعود الإلهية

إن تحقق معاجز الوعود الإلهية يحمل دائماً معه دلالات أمل يبشّر بتحقق وعود أكبر، وما يحكيه القرآن الكريم عن الوعدين الإلهيين لأمّ موسى هو نموذج من هذه السنة الربانية.

إذ في تلك اللحظات العسيرة، حيث صدر الأمر بإلقاء الصندوق حامل الرضيع في اليمّ، جاء الخطاب الإلهي بالوعد: <إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ>، إن تحقق الوعد الأول، وهو الوعد الأصغر الذي شدّ على قلب الأم، أصبح منطلقاً لتحقق وعد الرسالة، وهو أكبر بكثير، ويستلزم طبعاً تحمّل المشاق والمجاهدة والصبر الطويل: <فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا ولَا تَحْزَنَ ولِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ…> هذا الوعد الحقّ هو تلك الرسالة الكبرى التي تحققت بعد سنين وغيّرت مسيرة التاريخ.

ومن النماذج الأخرى التذكير بالقدرة الإلهية الفائقة في قمع المهاجمين للكعبة، والذي ورد في القرآن بلسان الرسول الأعظم <أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ>[4]، وذلك لتشجيع المخاطبين علی امتثال الأمر الإلهي: <فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ>[5].

وفي موضع آخر يذكّر سبحانه رسوله بما أغدقه عليه من نعم تشبه المعجزة: <أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، ووَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى> ليكون ذلك وسيلة لتقوية معنويات نبيّه الحبيب وإيمانه بالوعد الإلهي في قوله: <مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ ومَا قَلَى> ومثل هذه الأمثلة كثيرة في القرآن الكريم.

حين انتصر الإسلام في إيران، واستطاع أن يفتح قلاع أمريكا والصهيونية في أحد أكثر البلدان حساسية من هذه المنطقة المهمة بامتياز، عَلِم أهل العبرة والحكمة أنهم إذا انتهجوا طريق الصبر والبصيرة فإن فتوحات أخرى ستتعاقب عليهم، وقد تعاقبت فعلاً.

الحقائق الساطعة في الجمهورية الإسلامية والتي يعترف بها الأعداء قد تحققت بأجمعها في ظل الثقة بالوعد الإلهي والصبر والمقاومة والاستمداد من ربّ العالمين. شعبنا كان يرفع دائماً صوته بالقول: <كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ> أمام وساوس الضعفاء الذين كانوا يردّدون في الفترات الحرجة: <إِنَّا لَمُدْرَكُونَ>.

هذه التجربة الثمينة هي اليوم في متناول الشعوب التي نهضت بوجه الاستكبار والاستبداد، واستطاعت أن تسقط أو تزلزل عروش الحكومات الفاسدة الخاضعة والتابعة لأمريكا. الثبات والصبر والبصيرة والثقة بالوعد الإلهي في قوله سبحانه: <وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ> بإمكانها أن تمهّد طريق العزّ هذا أمام الأمة الإسلامية حتى تصل إلى قمة الحضارة الإسلامية.[6]


  • [1].  البقرة: 3
  • [2].  ص: 20
  • [3].  بيانات سماحته أمام قادة حرس الثورة الإسلامية ورؤساء ممثليات الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية بتاريخ 20-9-1990م
  • [4].  الفيل: 2
  • [5].  قريش: 3
  • [6].  بيانات سماحته في الملتقى العالمي للعلماء والصحوة الإسلامية بتاريخ 29-4-2013م

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى