الإيمان بالتوحيد ويوم الحساب

المسألة الأولى التي يجب أن تؤخذ بنظر الاعتبار هي مسألة المبدأ أو مسألة التوحيد.. <إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَیْهِ رَاجِعُونَ>[1]. المشكلة الأهم في العالم الراهن.. العالم الذي يتجلى بأكثر بهرجة ممكنة في الغرب، هي البعد عن الله وعدم الإيمان به وعدم الالتزام بهذا الإيمان. طبعاً؛ قد يكون هناك اعتقاد ظاهري وصوري وما إلى ذلك، ولكن ليس ثمة التزام بهذا الاعتقاد. إذا تم حل مسألة المبدأ فسوف تحل الكثير من المسائل الأخرى. <يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ>[2]. <وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا>[3]. حينما يعتقد الإنسان بهذه الأمور فإن هذه العزة الإلهية وهذا التوحيد الذي يعرض علينا هذا المعنى سوف يوفر للإنسان طاقة عظيمة لا نهاية لها. <هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ>[4]. حينما يؤمن الإنسان بمثل هذا التوحيد وعندما نستطيع بسط ونشر مثل هذا الاعتقاد في حياتنا فسوف يتم علاج مشكلات البشرية الأساسية.
القضية الأساسية الثانية هي قضية المعاد والحساب وعدم انتهاء المطاف والأمور بزوال الجسم عند الموت. إنها لقضية على جانب كبير من الأهمية أنّ ثمة حساب وكتاب <فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ>، الشعب الذي يعتقد بهذا ويكون هذا المعنى في برامجه العملية: <فَمَن يَعمَل مِثقالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ>[5]، فسوف يُحدث ذلك تحولا أساسيا في حياته. الاعتقاد بامتداد نتائج العمل يضفي معنى على الإيثار والجهاد ويجعلهما أمرين منطقيين، فمن الأدوات المهمة للأديان – والموجودة في الإسلام بوضوح – قضية الجهاد، والجهاد يجب أن يكون مصحوباً بالإيثار، وإلا لم يكن جهاداً، ومعنى الجهاد هو التجاوز عن الذات وغضّ الطرف عنها. غضّ الطرف عن الذات شيء غير منطقي حسب منطق العقل الذرائعي، فلماذا أغض الطرف عن ذاتي؟ إنه الإيمان بالمعاد الذي يجعل هذا الأمر منطقياً وعقلانياً. حينما نؤمن أنه ما من عمل سوف يذهب سدى؛ بل ستحفظ جميع الأعمال وسوف نراها في حياتنا الحقيقية الآخرة <وَإِنَّ الدّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الحَيَوانُ>[6] عندها لو خسرنا هنا شيئاً في سبيل أداء التكليف والواجب فلن نشعر بالخسارة حتى لو كان ذلك الشيء هو أرواحنا أو أحباؤنا وأبناؤنا. يجب أن تُدرج هذه الأمور ضمن نموذج التطور، وتكتسب معناها في تقدم المجتمع. إذًا، فالمسألة الأصلية هي مسألة التوحيد والمعاد[7].
فارق الرؤية التوحيدية والمادية
هناك بصيرة يحصل عليها الإنسان من خلال اختياره للرؤية الكونية وفهمه الأساسي للمفاهيم التوحيدية وعبر نظرته التوحيدية إلى عالم الطبيعة. الفرق بين النظرة التوحيدية والنظرة المادية هو في التالي: في النظرة التوحيدية، هذا العالم هو مجموعة منظّمة، مجموعة ذات قانون، طبيعة هادفة؛ نحن أيضاً كجزء من الطبيعة، وجودنا، خلقنا وحياتنا لها هدف؛ لم نُخلق عبثاً في هذه الدنيا. هذه لازمة النظرة التوحيدية. معنى الاعتقاد بوجود إله عالم وقادر هو أنه حينما فهمنا أن لدينا هدفا فإننا ننهض للبحث عن ذلك الهدف، هذا البحث بحدّ ذاته هو جهد مؤمّل، نسعى لكي نجد ذلك الهدف، وبعد أن نجده ونفهم ما هو الهدف، يبدأ السعي للوصول إليه. في هذه الحالة؛ فإن كل حياة الإنسان تصبح سعياً؛ سعيٌ هادف ومعروف الاتجاه. من ناحيةٍ أخرى نعرف أيضاً عبر النظرة التوحيدية بأن كل نوع من السعي والمجاهدة في سبيل الهدف يوصل الإنسان حتماً إلى نتيجة، هذه النتائج ذات مراتب، وهي توصل الإنسان يقيناً إلى النتيجة المطلوبة، وعندها فلا معنى لشيءٍ باسم اليأس والضياع والاكتئاب في حياة الإنسان. عندما تعرفون بأن وجودكم وخلقكم وحياتكم وتنفّسكم يرتبط بتحقيق هدف، فستتحرّكون وراء هذا الهدف، وستبذلون الغالي والنفيس للوصول إليه. إن هذا السعي نفسه له أجرٌ وثواب عند الله تعالى والذي هو خالق الوجود، وعندما تصلون إلى أية نقطة فإنكم في الواقع قد وصلتم للهدف. في النظرة الإسلامية، الخسارة والضرر لا يمكن تصوّرهما بالنسبة للمؤمن؛ حيث قال <إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ>[8]، واحدة من اثنتين كلاهما أحسن؛ إما أن نموت في سبيل الله، وهذه حسنى؛ وإما أن نزيل العدو من الطريق، وهذه حسنى أيضاً. فهنا لا وجود للضرر أبداً.
في النقطة المقابلة تماماً تقع النظرة المادية. تعتبر النظرة المادية أن خلق الإنسان ووجوده في العالم لا هدف له؛ فالإنسان فيها لا يعرف لماذا جاء إلى الدنيا. بالطبع؛ هو يحدّد لنفسه أهدافاً في الدنيا كأن يصل للمال، أن يصل للحب، أن يصل للمنصب، أن يصل للّذّات الجسدية أو اللذات العلمية؛ يمكنه أن يحدّد لنفسه أهدافاً كهذه لكن أي منها ليس هدفاً طبيعياً، ليس ملازماً لوجوده. عندما لا يكون هناك اعتقاد بالله؛ فالأخلاقيات أيضاً تصبح بلا معنى؛ العدالة بلا معنى؛ ولا معنى لشيء سوى اللذة والنفع الشخصي. إذا اصطدمت قدم الإنسان بحجر وتأذّى في طريق الوصول إلى نفعه الشخصي يكون قد تضرّر وخسر، فإن لم يصل للربح، إن لم يستطع أن يسعى، يأتي دور اليأس والانتحار وغيرها من الأعمال غير المعقولة. لاحظوا إذًا؛ الفرق بين النظرة التوحيدية والنظرة المادية، بين المعرفة الإلهية والمعرفة المادية. هذه هي أهم ركائز البصيرة.
عندما يدخل الإنسان في صراع على أساس هذه النظرة، فإن هذا الصراع هو جهد مقدس؛ إذا قام بحرب مسلّحة فإن الأمر كذلك. الصراع في الأصل ليس قائماً على سوء الظن وسوء النوايا، الصراع يهدف إلى أن تصل الإنسانية وليس فقط هذا الإنسان نفسه إلى الخير والكمال والرفاهية والتكامل، بهذه النظرة تكتسب الحياة وجهاً جميلاً، وتصبح الحركة في هذا الميدان الواسع عملاً لذيذاً، يزول تعب الإنسان بذكر الله تعالى وذكر الهدف. هذا هو المرتكز الأساسي للمعرفة؛ المرتكز الأساسي للبصيرة، هذه البصيرة هي أمرٌ مطلوبٌ ولازمٌ جداً، هذا ما يجب أن نوفّره في أنفسنا. في الحقيقة فإن البصيرة هي أرضية جميع الجهود والمساعي الإنسانية في المجتمع[9].
[1]. البقرة: 156
[2]. الجمعة: 1
[3]. الفتح: 7
[4]. الحشر: 23
[5]. الزلزلة: 8
[6]. العنكبوت: 64
[7]. بیانات سماحته في الملتقى الأول للأفكار الاستراتيجية بتاريخ 1-12-2010م
[8]. التوبة: 52
[9]. بیانات سماحته أمام الجامعيين والشباب لمدينة قم المقدسة بتاريخ 26-10-2010م
تعليق واحد