مواضيع

نقد مبادرة التسعينات

س: كيف نقد الأستاذ حفظه الله المبادرة في التسعينات وهو مهندسها؟

تمهيد

مما لا يختلف فيه أي أحد ممن عايش حقبة التسعينات أو اطلع عليها أن قيادة الساحة الإسلامية في البحرين كانت بيد سماحة الشيخ الجمري قدس سره والجموع القيادية الملتفة حوله وعلى رأسها الأستاذ عبد الوهاب حفظه الله الذي كان أبرزهم وهو المنظر الحقيقي لتلك المرحلة وخصوصاً في الشأن السياسي والذي أفرز انتفاضة الكرامة آنذاك.

وكان الأستاذ صاحب الدور الفاعل في مفاصل الانتفاضة، وكان مع الشيخ الجمري صاحب القرار المركزي للمسائل المصيرية.

وبحكم موقعه القيادي والتنظيري في الساحة، وضع الأستاذ أسسا جديدة لنقد أداء القيادة وتقييم دورها العملي، وذلك لتصحيح مسارها واستدامة غطائها وحركتها، وتصبح عملية النقد جزءاً من حالة التفاعل بين القيادة والجماهير وتقوية للعلاقة بينهما، والنقد مع مراعاة أدب الخطاب وحفظ المقامات وموضوعية الطرح وملامسة مواطن الخلل من قبل النخب والجماهير من جهة، ومن جهة أخرى إصغاء القيادة وسعة صدرها للنقد وتقليبها للآراء وأخذ المشورة من أهل الخبرة والاعتراف بالأخطاء والشجاعة في نقد الذات واتخاذ القرار المناسب. كل ذلك يعزز العلاقة بين الطرفين وليس كما يتوهم البعض أن النقد يتسبب في توهين القيادة وإضعافها ويجرّئ الآخرين عليها!! إن قرب القيادة من الجماهير وإزالة الحواجز الاعتبارية والانفتاح على عقولهم وقلوبهم يؤسس لعلاقة روحية عميقة بين القائد والجماهير فضلاً عن الشفافية والثقة، وهذا نهج السيد الإمام قدس سره. وهكذا نجد انعكاسات لهذا النهج في سلوك سيد المقاومة حفظه الله وخطابه المباشر للجماهير، وجذور هذا الطرح يعود لسلوك أمير المؤمنين (ع) في قيادة الأمة، ككلامه لابن عباس: (لك علي النصيحة، ولي عليك الطاعة)، وقول أحد أصحابه فيه (ع): (كان فينا كأحدنا).

وغيرها مما يعبر عن السلوك القيادي للأمير (ع).

وعندما طرح الأستاذ رؤيته في نقد القيادة بدأ بنقد نفسه ومشاريعه، وفتح الباب وفي مجلسه لآراء الآخرين دون حواجز، وكأنه يتمثل بقول أمير المؤمنين (ع): (ما أمرتكم بطاعة إلا وسبقتكم إليها..)، ومن الأمور التي تناولها الأستاذ بالنقد ما سمي بـ (المبادرة) في فترة التسعينات والتيكان أحد أعمدتها وله دور محوري فيها.

المبادرة

بالإشارة إلى هذا الاصطلاح الذي شاع استخدامه في انتفاضة التسعينات وما بعدها؛ وتعني: تلك الخطوة التي قامت بها المجموعة القيادية للانتفاضة من داخل السجن بعد اعتقالها في أبريل 1995م وإيداعها سجن المنامة، والمتعلقة بقبول عرض النظام حينها لخفض التوتر الأمني مقابل إطلاق السجناء في المرحلة الأولى، وبعد استكمال هذه الخطوة يتم الانتقال للمعالجة السياسية في المرحلة الثانية، وجرت مفاوضات بين رمز المعتقلين والجهاز الأمني بقيادة رئيس الاستخبارات هندرسون في بداية النصف الثاني من عام 1995م، ونتج عنها إطلاق سراح كافة المعتقلين بما فيهم قيادة الانتفاضة، وكان آخر اثنين هما الأستاذ عبد الوهاب بتاريخ 25-9-1995م، واستثني من الإفراج في المرحلة الأولى مجموعة صغيرة من المعتقلين، ولكن النظام سرعان ما نكث بالتزاماته ولم يحرك في المرحلة الثانية شيئا، فقامت المجموعة القيادية للانتفاضة باعتصام جماهيري لإعادة تحريك الجماهير بعد التهدئة، فتجددت الاحتجاجات وعاد الوضع للمربع الأمني الأول في ديسمبر 1995م، وعلى إثره اعتقل الرموز الذين أطلق عليهم (أصحاب المبادرة).

تنبيه

هذه الإشارة التاريخية لا بد منها لتكون مقدمة لكيفية نقد الأستاذ لهذه التجربة، كما تجدر الإشارة للمطلب السياسي المطروح في تلك المرحلة؛ حيث اقتصر على مطلب إعادة العمل بالدستور المعطل، وإلغاء التدابير التي أجريت بعد تجميد العمل بالدستور، ووفق هذا المطلب تعاطى رموز الانتفاضة مع تلك المرحلة بما يتوافق مع السقف المنشود، ولأن المطلب يقع ضمن النظام القائم وبرموزه الحاكمة فقد أخذت قيادة الانتفاضة مواقف وقدمت مبادرات حينها تتناسب وحجم المطلب، لذا يجب التنبيه لذلك؛ لأنه قد يشتبه على البعض منا بحكم قراءته للمرحلة الحالية بأن السلوك السياسي لقيادة الحراك آنذاك غير سليم، ولكنه في الواقع يتناسب مع المرحلة وطبيعة المطلب، لذلك لزم التنبيه.

ما هدف النقد؟

النقد في اللغة هو إظهار محاسن الشيء وعيوبه، واصطلاحاً هو النظر في الأمور وتمييز الصحيح والسقيم فيها وتصحيح مسار الأمور، ومن هذا المعنى تنطلق حالة النقد السياسي كمراجعة للسلوك السياسي وتقييمه لتصحيح الخلل الواقع في الأداء وإعطاء رؤية للعمل مستقبلاً، وقد اتخذ الأستاذ عبد الوهاب النقد كوسيلة مستدامة للمراجعة وتقييم الأمور، واعتبرها وسيلة كذلك لإثراء التجربة وتقوية أداء القيادة والجماهير، فهي ليست ترفاً، ولا معول هدم وتخريب، ولا ذريعة للتسقيط والتوهين؛ بل هي طريقة لتقويم الذات والتجربة وتصحيح للمسارات إن شابها خلل.

المبادرة .. ما لها وما عليها

يمكن قراءة المبادرة من زاويتين لتقييمها:

  1. النظرة السلبية:

إن النصف الأول من سنة 1995م شهد انهيارا واسعا للمنظومة الأمنية للنظام، وفشلت في سحق الانتفاضة الشعبية، وأخذت الانتفاضة حينها خطاً تصاعدياً خصوصاً بعد اعتقال قيادات الانتفاضة، وعندما أدرك النظام عجزه بحث عن طوق النجاة عبر تشخيص القيادات في السجن والتفاوض معهم حول حلول موهومة من أجل تبريد الساحة وانتشال السلطة من مستنقع الوحل الذي وقعت فيه، وبالفعل نجحت السلطة في خداع القيادة، وذلك عبر التفاوض معها وهي تحت وطأة القيود -أي تحت الضغط- وتفريغ المطلب والتسويف في المطلب السياسي الأساسي وتأجيل التفاوض حوله، واقتصار المرحلة الأولى على المعالجة الأمنية؛ أي تبريد الساحة مقابل الإفراج من السجن، وعندما حققت السلطة غايتها في تهدئة الشارع وخروجها من الوضع الخانق ماطلت في مرحلة التفاوض السياسي؛ بل لم تحرك خطوة واحدة فيه، واقتصر اللقاء بين القيادات المعارضة والجهاز الأمني فقط وعلى مستوى رئيس الاستخبارات، وتم تمرير تلك الخديعة، وكانت لها انعكاساتها على مسار الانتفاضة، وقد تكرر الموقف بشكل أو بأخر في سنة 1999م بعد هلاك الطاغية السابق والخروج من الأزمة السياسية، وكان عنوانها الأول المعتقلين. خرجت السلطة بمشروعها (التخريبي) مرة أخرى عبر بوابة قيادات المعارضة الموجودين في السجن وعلى رأسهم الشيخ والأستاذ، والذي أفرز لاحقاً ما سمي بـ (الميثاق)؛ حيث تم التفاوض معهم مجدداً وهم تحت الضغط في السجن وإن كان هذه المرة لم يقتصر فقط على الملف الأمني وإنما تعدى الى الملف السياسي، ولكن على قاعدة رسم خطوطها مشروع السلطة لا مشروع المعارضة.

  • النظرة الموضوعية:

لو تم النظر إلى الظروف التي أحاطت بالواقع السياسي والميداني في تلك المرحلة، وكذلك إلى طبيعة المطالب وعقلية السلطة الحاكمة، وكذا الوعي الجماهيري والقيادي في الساحة سواء بخصوص مبادرة 1995م أو مخاضات الميثاق 2001م سنجد أنه ما كان بالإمكان أكثر مما كان لدى قيادة المبادرة وذلك للمعطيات التالية:

  • سقف المطالب المحدودة (البرلمان وتفعيل الدستور) والذي لا يعطي مجالاً للمناورة، خصوصاً وأنه سقف ضمن حدود النظام الدستوري، فبمجرد قبول السلطة أو ادعائها بقبول الحوار حوله لا مجال ولا عنوان للتصعيد حينها.
  • من يجلس في طاولة المفاوضات يجب أن تكون بيده أوراق ضغط على الطرف الأخر، لا أن يكون هو الواقع تحت الضغط (السجن – التعتيم على الوضع خارج السجن – عدم تصدي قيادة بديلة للحراك – عدد المعتقلين الهائل حيث امتلأت السجون والمراكز والمعسكرات في النصف الأول من عام 1995م – المحيط الإقليمي والدولي الداعم للسلطة – لا يوجد إعلام خارجي مؤثر – ولا حراك حقوقي ضاغط)
  • المعارضة في الخارج آنذاك كانت في المنافي، ولم تستطع أن تكون قيادة بديلة عن الجمري والأستاذ اللذين كانا في السجن، كما تفتقر لمستوى الحس والتجربة.
  • مستوى الوعي الجماهيري بشكل عام لم يرتق للمستوى الذي يدرك فيه طبيعة المطالب وحجم التضحيات المطلوبة وما يرافقها من صبر ومشقة.
  • وإن كان لشعب البحرين تجارب سياسية وحراك متجدد، لكن حجم الحراك الشعبي كان الأوسع في التسعينات تضاعفت بسببه مسؤولية القيادات، فيُعتبر ذلك تجربة جديدة والخبرات فيها محدودة.
  • أحد العوامل المؤثرة والتي كان للأستاذ مراجعة فيها لاحقاً هو مركزية القرار في كل مراحل الصراع، فبمجرد أن تضعف القيادة والمركز يسقط كل الحراك، ولوجود تفاوت بين القيادات في الصبر والثبات وفهم الوضع والقراءة الجيدة للأمور عملت السلطة على الفصل بين القيادات نفسها وممارسة الضغوطات المختلفة لانتزاع المواقف التي تخدم مخطط السلطة.

المعالجات النقدية التي طرحها الأستاذ والمستفادة من تجربة المبادرة

  • في ظل التحديات الكبيرة والتي تتطلب مواقف من القيادة، لا بد لها من المعطيات والمعلومات الكافية لتبني رؤية واضحة تحدد الموقف المناسب في كل الظروف، وإذا كانت الرؤية غير واضحة فهو كالسائر على غير الطريق لا يزيده سرعة السير إلا بعداً عن الحق! وإن اتخاذ المواقف الانفعالية أو الارتجالية وليدة اللحظة تكون عادة عبثا، ولا تكفي النية الحسنة وحدها لتبرير المواقف، كما قال الشيخ نعيم قاسم حفظه الله: (الفعل الذي لا يخدم الهدف فهو عبث).
  • التوكل على الله سبحانه وتعالى والثقة به والصبر الاستراتيجي والاستقامة والبصيرة مرتكزات النصر، وهذا يتطلب عدم استعجال قطف الثمار والتأني في دراسة الخيارات.
  • إيجاد تكتيكات مرحلية تضمن استمرارية الحراك المطلبي، وتواكب تصاعده أو ثباته وفي كل الظروف، وتزيل الضغوط التي قد تفرض على القيادة في مرحلة السجن مثلاً أو الحصار، وهذا ما دعا له الأستاذ في هذه الثورة لضمان استمراريتها وعدم إجهاضها عبر إضعاف قيادتها، ولكن قطعاً ليس خياراً استراتيجياً.
  • التأكيد على دراسة التجارب السابقة وفحصها كي لا يتكرر الأخطاء، وتجاوزها عبر خبرات بديلة بعد تحديد مواطن الضعف والقوة في التجارب السابقة.
  • التأسيس لمنظومة قيادية تضم الرؤى المتباينة والتشخيصات المختلفة للمرحلة ترعاها المظلة الشرعية، ويكون تعاطي المختلفين مع بعضهم وفق مبداً التكامل بين الأطراف.
  • رفض التصدي في ظروف السجن والدخول في مفاوضات مع السلطة تحت الضغط، وقد استفادوا من تجربة التسعينات في هذا الموضوع تحديداً؛ حيث كانت الظروف ضاغطة على قيادات الانتفاضة، وقد أثرت على القرار السياسي بشكل أو بآخر.
  • خ‌-     بحكم التجارب السابقة مع هذا النظام الناقض للعهود والذي يمارس الدجل والغدر بصورة مختلفة لا يمكن الوثوق بأي مشروع مشترك معه إلا بوجود ضمانات حقيقية، وفي ظل عدم توافرها كما هو جارٍ لا يمنع التعاطي معها فيما يصب في مصلحة الأمة شريطة أن تكون المعارضة حذرة وواعية ومستعدة للمواجهة في حال نكث العدو بتعهداته، والممانعة لاستكمال ذلك المشروع المشوه، أما البقاء فيه تحت ذريعة حفظ المكتسبات فهو رهان مرفوض ومسايرة غير مقبولة.
  • التأسيس للمجتمع المقاوم والممانع في الساحة لشاريع لمشاريع السلطة واستبدادها وبناء منظومة قيمية تتبنى مشروع المقاومة المشروعة في الداخل، وتكون جزءا من محور المقاومة مستقبلاً.

ملاحظة

من خلال تتبع كلام ومواقف الأستاذ صاحب البصيرة، حاولت استشراف هذه الخلاصة التي تتناول أدبياتها منذ 2001م على الأقل وحتى يومنا هذا، ونجد جلها اليوم ماثلا أمام أعيننا، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على عمق طرحه وبصيرته المعجونة بالإخلاص والإيمان، فتركت أثرها في ضمير هذا الشعب حتى اللحظة، وأطروحة مثل المجتمع المقاوم، وأطروحة التكامل تجد فيها اليوم الدواء الشافي لجراح هذا الشعب إن عملوا بها.

والله الهادي لسواء السبيل.

المصدر
كتاب مشكاة - فضيلة أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟