تقوى وبصيرة وحكمة أستاذ البصيرة
كثيراً ما يُقال ويُذكر بأن الأستاذ يمتاز بالحكمة والبصيرة، وأنه قادرٌ على تحليل الأحداث وقراءة المعطيات وغيرها، ولكن هناك صفة مهمة يمتاز بها الأستاذ لا يتم ذكرها عادةً، وهي صفة «التقوى»، والتي كان الأستاذ يمتاز بها أيضاً، والتي لها ارتباط بصفتي الحكمة والبصيرة، فالأستاذ لم يكن يتحلّى بتقوى من درجة عادية؛ بل كان يتحلّى بدرجة عالية من التقوى، قليلاً ما تجد أشخاصاً يتحلّون بمثل هذه الدرجة من التقوى، حتى لو بحثنا بين الشرائح المختلفة الموجودة في المجتمع، فلا تجدُ من بين ألفٍ واحدا.
حقيقة التقوى
ولو تأملنا في حقيقة التقوى من الناحية النفسية، لوجدنا أنها ناتجة عن:
أ – مراقبة النفس.
ب – ومراعاة الدقة في امتثال الأحكام الشرعية وتطبيقها.
ج – طهارة النفس والقلب (سلامة الفطرة).
فما لم يكن الإنسان مراقباً لنفسه، ومدركاً ومنتبهاً للأفعال التي يقوم بها، فسيقع في كثير من الأخطاء والمحرمات من دون أن يشعر.
وكذلك لو كان الإنسان مراقباً لنفسه، ولكن من دون أن يكون مراع للدقة في امتثال الأحكام الشرعية، ومن دون أن يكون ملتفتاً ومتأملاً في المصاديق المتعددة والمختلفة للأحكام الشرعية، فإنه أيضاً سيقع في مخالفات شرعية من دون أن يعلم ويعرف.
تقوى الاختلاف
ولهذا كان من أكثر ما يميز الأستاذ في جانب التقوى، هو التزامه بما اصطلح عليه هو بـ«تقوى الاختلاف».
أي الالتزام بالأحكام الشرعية اتجاه من نختلف معهم، ومراعاة الأحكام الشرعية والحقوق الإيمانية عند الانتقاد ونقل الواقع والأحداث.
يقول الأستاذ: «في العمل السياسي هناك عدة توجهات مؤثرة وفاعلة في الساحة، ومن الطبيعي أنك ستلاحظ أفعال الآخرين، ومن حقك أن تنتقد ما يقوله الآخرون ويفعلونه، لكن عليك ألا يتجاوز النقد حد الفعل، وفي وحدود الفكرة، وألا يتجاوز النقد إلى تسقيط وتجريح».
لكن للأسف، كثير منا لا يراعي مثل هذه الأحكام؛ بل بمجرد أن نختلف مع أحد ما، ويكون على خلاف توجهاتنا وأفكارنا، فإنا نعطي أنفسنا رخصة في تجاوز جميع الحدود والأحكام، ونسقط حقوق الأخوة الإيمانية، فيكون ذلك الشخص الذي نختلف معه لقمة سائغة بالنسبة لنا، «وننشر غسيله على الملأ»!! وكأننا حكمنا عليه بالفسق والكفر.
وللأسف أيضاً فإن هذا السلوك لا يصدر من عامة الناس فقط؛ بل يصدر من خواص المؤمنين، وممن لهم مكانة وكلمة مسموعة بين الناس، وإذا كانوا لا يمارسون هذه السلوكيات هم بأنفسهم، فلا أقل إنهم لا يعترضون على ذلك، بينما ما ينبغي أن يكون هو ليس مجرد عدم التسقيط والجرح؛ بل ينبغي الدفاع عن الإخوة المؤمنين ساعة الحاجة، والوقوف معهم.
وهذا ما نجده واضحاً في مواقف الأستاذ، ففي السنتين الأخيرتين قبل قيام الثورة، تم منع سماحة آية الله المقداد حفظه الله وفضيلة الأستاذ حسن مشيمع حفظه الله من صلاة الجماعة، وكان هذا المنع من أخطر الخطوات التي اتخذتها السلطة للسيطرة على المنابر، فتحدت السلطة للسيطرة على المنابر، فتحدت الرموز والجماهير المنع، وحدثت مواجهة وصلت إلى داخل مسجد الإمام الهادي (ع) بالعكر الغربي، وكانت الجماهير تنتظر موقف الأستاذ حفظه الله والتيار، فاكتظ مجلس الأستاذ الأسبوعي بالجماهير، ولكن الأستاذ صرف النظر عن موضوع المنع، وركز في حديثه على الحديث الفكري فقط.
فتم سؤال الأستاذ من قبل أحدهم بعد تفرق الحاضرين عن سبب تجاهله للموضوع، رغم أن الجماهير كانت تنتظر ذلك.
فأجاب: كان على الآخرين أن يتقدموا للدفاع عنا.
ثم قال: إذا مرّ منع صلاة آية الله المقداد، والأستاذ حسن مشيمع مرور الكرام، فسيصل المنع إلى منبر الدراز، وسيمنع آية الله قاسم والشيخ علي سلمان، وإذا كان ذلك سنكون أول المدافعين عن آية الله قاسم.
وفعلاً وبعد سنوات قليلة وقع ما قاله الأستاذ، ورغم وجود الأستاذ في السجن، إلا أنه أصدر بياناً قوياً دافع فيه عن آية الله قاسم، وحث التيار لتوجيه جهوده للدفاع عن آية الله قاسم.
إذًا؛ ترك المؤمنين لقمة سائغة للمجرمين والظالمين، بحجة أننا نختلف معهم، لهو أمر غير صحيح بتاتاً، وله مردود سلبي على جميع المؤمنين، أخلاقياً وروحياً، وسياسياً.
العلاقة بين البصيرة والتقوى
وهذا ما كان يدركه الأستاذ ببصيرته الفذة، والتي كان لتقواه أثر كبير فيها، فالبصيرة هي: القدرة على التفريق والتمييز بين الحق والباطل، ما يحتاج من تقوى وإيمان لكي يكون الإنسان قادراً على التمييز بين الحق والباطل، ولكي يثبت ولا يميل الى الباطل، ولا تعمى عين قلبه.
يقول الله سبحانه وتعالى: <فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ>[1].
ويقول جل جلاله في موضوع أخر: <وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً>[2].
بخلاف ذلك الذي <إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ>[3] ويتحلى بالتقوى.
فهو من يكون قادرا على الاستفادة من الوحي الإلهي، فالوحي الإلهي (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ)[4]، وعن أمير المؤمنين (ع): «فإني أوصيكم بتقوى الله فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم، وبصر عمى أفئدتكم … وجلاء عشا أبصارك»[5].
ويقول (ع): «الأماني تعمي أعين البصائر».
ويقول (ع): «من عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد خرقت الشهوات عقله، وأماتت الدنيا قلبه».
لو تأملنا في هذه الأحاديث والآيات، نصل الى نتيجة واضحة هي: أن من غلب على قلبه شيء لا يكون قادراً على الحكم بشكل صحيح بل أكثر من ذلك، قد يحكم بما هو واضح البطلان، وبما يخالف حسه، فحاله حال «الرجل الذي لدغته حية ويخاف من الحبل» مع قطعه بأن الحبل لا يضره.
تأثر التوجهات السياسية بالتعلقات القلبية
ولو تأملنا أيضاً فسنجد بأن الكثير من الأخطاء من ناحية المواقف السياسية، والآراء والتوجهات، هي ناتجة عن تعلق بالدنيا، أو تأثر بترهيب العدو وأبهته، بحيث يمتلك الخوف والفزع قلب ذلك الشخص، ويجعله يضطرب ويتردد ويتراجع، وأوضح مثال على ذلك ما لو سألت أحداً من المساجين: «ما رأيك أن نخرج الآن من دون أي مكسب سياسي أو نخرج بعد 10 أو 5 سنوات ونحصل على مكسب سياسي؟».
فالجواب المتوقع أن يقول الأكثر في قرارة نفسه: «الآن»، أو على الأقل «سيترددون ويتوقفون»، على الرغم من وضوح المسألة في نظر العقل بأن الخيار الثاني هو الأصح!! وما ذلك إلا لأن العقل يقول شيئا، والقلب يريد شيئاً آخر.
وعلى ذلك فقس بالنسبة للمسائل والمواقف السياسية الأكثر حساسية وخطورة، وتتطلب صلابة ورباطة جأش وتضحية أكثر؟! كالدخول في حرب أو «سقوط دماء»؟ فالمسألة إذاً ليست أن صاحب البصيرة يرى مالا يراه الآخرون، أكثر مما هي استقرار نفس واطمئنان نتيجة للإيمان بالله سبحانه وتعالى، وبوعده الإلهي وسننه، وصفاء القلب ونقاؤه بحيث يؤهله ذلك لاستقبال الدروس، والتعلم من التجارب، وقراءة الواقع بشكل صحيح.
والبصيرة أيضاً تحتاج الى تجرد من المصالح الشخصية والأنانية العاجلة والتجرد من تدخل الأهواء والمصالح الشخصية، ففي كثير من الأحيان تكون نتيجة بعض المواقف والقرارات السياسية هي الخسارة المادية، وخسارة الإنسان لحياته، والخروج من المصالحات السياسية، وإنما من ينال الربح والنصر المادي هو الجيل اللاحق أو القائد الأحق، وفي مثل هذه الحالة ليس من السهل أن يقبل الشخص بالتنازل والتضحية من أجل وصول الأخرين، خصوصاً إذا كان ذلك لشخص يأمل في الحصول على بعض المكاسب السياسية.
إذاً؛ عندما يقال بأن الأستاذ في فترة الضربة الأمنية عام 2010م، وعندما فرضت السلطة جواً إرهابياً وقمعياً، واعتقلت مجموعة من المشايخ والرجالات الملتفة حول الأستاذ، وكانت أيدي الأجهزة الأمنية مطلقة حتى على رجال الدين، وكان الخوف يسيطر على الكثير من الناس، كان الأستاذ عندما تنقل له أخبار الاعتقالات والانتهاكات يبتسم بابتسامة عريضة ويقول: «إنه خير»!! فإن ذلك نتيجة طبيعية، وذلك لعلم الأستاذ بأن نتيجة الحراك ستكون كذلك، وهو مسلم وموطن نفسه على ذلك، ويعلم بأن النتيجة التلقائية لمثل هذا القمع والضغط هو الانفجار!!.
البصيرة والتقوى يقودان الى الحكمة
هناك نوعان من الحكمة، فهناك:
- الحكمة النظرية.
- وهناك الحكمة العملية.
وغالباً عندما يقول عامة الناس بأن هذا الشخص حكيم، فهم يعنون «الحكمة العملية»؛ أي وضع الشيء في موضعه، والحكمة بهذا المعنى ستكون نتيجته طبيعية للبصيرة والتقوى، إذ عندما يكون الشخص بصيراً وقادراً على التمييز بين الحق والباطل، وعلى قراءة الواقع بشكل صحيح، وفي نفس الوقت يتحلى بالتقوى والنزاهة بحيث لا يقدم مصالحه الشخصية وأهوائه على المصالح العامة، فهو بالتأكيد سيضع كل شيء في مكانه المناسب، وبذلك سيكون إنساناً حكيماً نقياً بصيراً، وهكذا كان الأستاذ.
[1] الحج: 46
[2] الجاثية: 23
[3] الصافات: 84
[4] البقرة: 3
[5] نهج البلاغة
تعليق واحد