المجاهدة درس مهمّ نتعلّمه من السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام )
إنّ المقامات المعنويّة للسيّدة فاطمة الزهراء(عليها السلام) هي من بين المقامات المعنويّة الأسمى لعددٍ محدودٍ من البشر؛ إنّها معصومة، والعصمة ميزةٌ خاصّةٌ للأشخاص الإلهيّين الذين اصطفاهم الله من بين البشر، وهذه المرأة الجليلة ـ فاطمة الزهراء(عليها السلام) ـ هي من جملتهم، وبالالتفات إلى هذه الحقيقة، وهي أنّ هذه المرأة المسلمة المجاهدة في سبيل الله، كانت في حدود العشرين من عمرها (وذلك على اختلاف الروايات، فهي بين الثامنة عشرة والخامسة والعشرين)، لقد كانت امرأةً شابّةً تمتلك هذه المرتبة المعنويّة العالية التي تضعها في الصف الأوّل بين الأولياء والأنبياء، بحيث سمّاها الرُسل الإلهيّون «سيّدة نساء العالمين».
وفضلاً عن هذا المقام المعنوي، فإنّ تجلّي الخصال البارزة والأعمال المهمّة في الحياة الشخصيّة لهذه السيّدة العظيمة، جعلَ كلّ واحدٍ من هذه الأعمال والخصال درسًا وعبرةً: تقواها وعفّتها وطهارتها وجهادها وتبعُّلها وتربية أولادها، ووعيها السياسي وحضورها في الساحات الأهمّ لحياة الإنسان في تلك المدّة -سواء في مرحلة طفولتها وصباها أم في مرحلة زواجها- كلّها دروسٌ وعبرٌ، وليست لكُنَّ فقط أيّتها السيّدات، بل هي دروسٌ لكلّ البشريّة[1].
إنّ جهاد تلك المرأة العظيمة في الميادين المختلفة، كان جهادًا نموذجيًا، سواء في دفاعها عن الإسلام، أم في دفاعها عن الإمامة والولاية، أم في حميتها للنبيّ، أم في رعايتها وحفظها لأعظم القادة الإسلاميّين، يعني أمير المؤمنين الذي كان زوجها.
إنّ أمير المؤمنين، يقول عن فاطمة الزهراء(عليها السلام): «وَلا أَغْضَبَتْنِي وَلا عَصَتْ لِي أَمْرًا»[2]، لقد كانت فاطمة الزهراء(عليها السلام) في المنزل ـ مع ما لديها من العظمة والجلال ـ زوجةً وامرأةً كما يأمر به الإسلام، وعالمةً عظيمةً في محيط العلم، فتلك الخطبة التي خطبتها فاطمة الزهراء(عليها السلام) في مسجد المدينة بعد ارتحال النبيّ، هي خطبة ـ كما يقول العلاّمة المجلسي ـ من الخطب: «التي تحيّر من العجب منها والإعجاب بها أحلام الفصحاء و البلغاء»[3]، فهي عميقة وبليغة إلى هذه الدرجة! من ناحية الجمال والإتقان، جمالها كجمال خطب نهج البلاغة.
لقد ذهبت فاطمة الزهراء(عليها السلام) إلى مسجد المدينة المنوّرة، فوقفت أمام الناس وخطبت بهم ارتجالًا! قد يكون ذلك لمدّة ساعةٍ كاملةٍ، وبأجمل وأفضل العبارات، وبمعانٍ مختصرة وعميقة.
عبادتها، فصاحتها وبلاغتها، حنكتها وعلمها، معرفتها وحكمتها، جهادها ونضالها، سلوكها بصفتها امرأة، سلوكها بصفتها زوجة، سلوكها بصفتها أم، إحسانها إلى الفقراء حتّى إنّه عندما أرسل النبيّ ذلك الرجل المُسنّ إلى باب منزل أمير المؤمنين وقال له: اطلب حاجتكم هناك، قامت فاطمة الزهراء(عليها السلام) وأعطت السائل ذلك فراشًا من جلد كان ينام عليه الحسن والحسين، ولم يكونوا يملكون شيئًا غيره، وقالت له: خذه وبعه واستعمل ماله! فهذه هي الشخصيّة الجامعة لفاطمة الزهراء، هذه هي القدوة، هذه هي القدوة للمرأة المسلمة.
على المرأة المسلمة أن تسعى في سبيل العلم والفكر؛ وفي سبيل بناء ذاتها معنويًّا وأخلاقيًا؛ وأن تُقدم في ميدان الجهاد والنضال مهما كان نوع الجهاد والنضال؛ وعليها أن لا تعتني بزخارف الدنيا والكماليّات التي لا قيمة لها؛ وعليها أن تتحلّى بالعفّة والعصمة والطهارة إلى الحدّ الذي يمتنع وقوع عينٍ غريبةٍ أو نظرة غريبٍ عليها بنحوٍ تلقائيٍّ.
ففي المحيط الأسريّ تعمل على راحة الزوج والأبناء، فهي مصدر السكينة والحياة والراحة، وتُخرج لنا أطفالاً سالمين من الناحية النفسيّة والتربويّة من حضنها المليء بالحنوّ والمحبّة، وبسبب أحاديثها المليئة بالحِكَم والعاطفة، تُخرج لنا أبناءً ليس لديهم عقد نفسيّة، ويتحلّون بروحيّة جميلةٍ، تخرج لنا أبناءً سالمين عصبيًا وروحيًا، يزدهرون ويتقدّمون في أحضانها حتّى تقدّمهم لنا رجالاً ونساءً ويصبحوا شخصيّات بارزة في المجتمع.
إنّ الأمّ أكثر بناءً وإنتاجًا من كلّ بنّاء ومنتج، وأكثر قيمةً منهم جميعًا، فإنّ أعظم العلماء الطبيعيّين قد يخترعون أدواتٍ إلكترونيّة معقّدة جدًا، وقد يصنّعون صواريخ عابرة للقارّات، وقد يخترعون وسائل لغزو الفضاء، ولكنّ ذلك كلّه ليس بأهميّة إنتاج إنسان راقٍ، وهذا العمل هو عمل الأمّ؛ علينا أن نمحّص في حياة فاطمة الزهراء(عليها السلام) بدقّة، وأن نجعل تلك الحياة نموذجًا وقدوةً بكلّ معنى الكلمة من خلال نظرةٍ جديدةٍ إليها[4].
إنكنّ حين رضيتنّ بأن يكون يوم ولادة فاطمة الزهراء(عليها السلام) يومًا للمرأة، فهذا يُرتب عليكنّ مسؤوليّاتٍ وتكاليف؛ يومكم هو يوم المرأة ويوم الأم وهو يوم فاطمة الزهراء(عليها السلام)، فما معنى هذا؟ إنّها خطوةٌ رمزيّةٌ وعملٌ رمزيٌ، ومعناه أنّ المرأة يجب أن تسير على هذا الصراط، فالعظمة والجلالة وعلو المقام والقدر إنّما تتحقّق للمرأة في هذا الدرب، ذلك الدرب الذي تتوفّر فيه التقوى والعفاف، والعلم والخطابة، والصمود في مختلف الميادين التي تحتاج إلى الصمود، والذي تتوفّر فيه تربية الأبناء، والحياة العائليّة، والذي يتمتّع بالفضائل والجواهر المعنويّة كلّها، فعلى النساء السير في هذا الاتجاه.
ولحسن الحظّ، فإنّ نساء مجتمعنا كنّ هكذا ـ للحقّ والإنصاف ـ وليس في أيّام الثورة فقط، بل كنّ كذلك في الماضي أيضًا؛ إنّ النساء الإيرانيّات المتديّنات كُنّ من الروّاد في مختلف الميادين، وفي كلّ القضايا، لقد كُنّ في الساحة قبل بدء النضال القاسي في النهضة الدستوريّة، ثمّ بعدها وخلال برهةٍ معيّنة مِن الزَمن خمد نضال النهضة الدستوريّة، ثمّ اشتدّ ودخل فيه الجميع، وآنذاك عندما لم يكن الجميع قد دخلوا في هذا النضال بعد، وكان هناك في الواقع عدد من العلماء والخواصّ يتابعون هذه الأمور، وجدنا أنّ النساء قمن وشكّلن اجتماعًا وجئن وسددن طريق الحاكم يوم ذاك، فهرب منهنّ وذهب واختبأ في قصره! فلحقنه وإذا بمأموري الحكومة ينهالون عليهنّ بالضرب، نزلن إلى الساحة يومذاك بالشادور والشاقشور -غالبيتكم بل ربما جميعكم لم يروا (الشاقشور)[5]– لقد نزلنَ إلى الساحة بهذه الحالة.
قد يظنّ بعضهم أنّ المرأة ما لم تكن سافرة وعديمة الأخلاق، فلن تستطيع الدخول في الميادين الاجتماعيّة والسياسيّة المختلفة، أمّا في ثورتنا وفي بعض مناطق البلاد فقد شكّلت النساء التجمّعات قبل الرجال، وسِرن في الشوارع وواجهن السلطة، ولدينا معلومات أكيدة عن هذا، لقد كان هذا هو الحال في مرحلة الثورة، وفي حالات النضال المتنوعة بعد انتصار الثورة، وكذلك في الحرب المفروضة.[6]
- [1]– من خطاب سماحته في لقائه بجمعٍ من النساء النخبة في البلاد بتاريخ 19-4-2014م
- [2]– بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي: ج43، ص134
- [3]– بحار الأنوار، محمّد باقر المجلسي: ج29، ص 247. (المترجم)
- [4]– من خطاب سماحته في لقائه بجمعٍ من النساء النخبة في البلاد بتاريخ 19-4-2014م
- [5]– الشادور والشاقشور والروبند: أنواع من الحجاب الإسلامي الإيراني المغلق. (المترجم)
- [6]– من خطاب سماحته في لقائه بقراءٍ للعزاء والمدائح من أنحاء البلاد بتاريخ 12-5-2012م
تعليق واحد