المزاوجة بين الجهاد والعلم والمعرفة هو أمرٌ قيّمٌ في الجهاد الجامعي
إنّني أعتقد فيما يتعلّق بالجهاد الجامعي أنّ هذه التركيبة -أي الجهاد والجامعة، والمزاوجة بين الجهاد الذي يمثّل حالةً قيميّةً معنويّةً وبين العلم والمعرفة والجامعة- لها أبعادها ورسالتها الخاصّة، فهي تدلّ على إمكانيّة وجود علمٍ جهاديٍّ وجهاد علميٍّ، وهذا هو المجال الذي تعملون فيه.
إنّ علمكم هو علمٌ جهاديٌّ، فهو مصحوب بالجهاد والاجتهاد، فأنتم لا تستجدون ولا تجلسون منتظرين هديّةً علميّة من هذا أو ذاك ومن هنا أو هناك؛ بل أنتم تتحرّكون وتسيرون طلبًا للعلم لتكتسبوه، هذا هو العلم الجهادي المنبثق عن الجهاد والاجتهاد والسعي، فأنتم تعملون من جهةٍ عملًا جهاديًا ـ والجهاد معناه الكفاح والنضال من أجل هدفٍ سامٍ مقدّسٍ، ولهذا الجهاد ساحاته، بعض ساحاته المرابطة فـي المعارك المسلّحة المعروفة فـي العالم، كما أنّ هناك الساحة السياسيّة، وهناك الساحة العلميّة، وهناك الساحة الأخلاقيّة، إنّ الملاك فـي صدق الجهاد هو أن يكون لهذا التحرّك اتجاهه وأن يواجه العقبات وأن يبذل همّته لرفعها، هذا هو الكفاح والنضال، والجهاد هو هذا الكفاح والنضال الذي إذا كان له اتجاه وهدفٌ إلهيٌّ فعندها سيكتسب الطابع القدسي.
إنّكم تمارسون نضالاً علميّاً؛ ذلك لأنّ عملكم هذا له بكلّ وضوحٍ أعداءٌ ألدّاء جدًا، لا يريدون لهذه الحركة العلميّة والبحثيّة أن تتمّ؛ لذا أعتقد أنّ الجهاد الجامعيّ ليس مجرد مؤسّسة، بل هو ثقافةٌ، وهو اتجاهٌ وحركةٌ، وكلّما استطعنا إنشاء هذه الثقافة فـي المجتمع أكثر وتكريسها وتعزيزها أكثر، نكون قد تقدّمنا نحو الشموخ والعزّة والاستقلال الحقيقي.
لحسن الحظّ قد لبّى الجهادُ الأمورَ التـي كانت متوقّعةً منه، وربّما كان قد ساد ذات يومٍ تصوّرٌ مفاده أنّ الجهاد مشروعٌ يشبه البيوت الزجاجيّة، وأنّنا صنعناه بصفة نموذجٍ فقط، لكنّنا نرى اليوم أنّ هذه البيوت الزجاجيّة تُحوِّل مناخَ المجتمع إلى بساتين وحقول، فالجهاد الجامعيّ لم يكتف بتوفير النماذج؛ بل راح يفيض ببركاته، إنّ هذه الإحصاءات التـي قدّموها، فيها معانٍ كثيرة وقد بعثوها إلـيَّ مُسبقًا وراجعتها.
إنّكم حينما تنشطون فـي الصفوف المتقدّمة للعلم، فـي بعض القطاعات، وتوظّفون هذه القطاعات للتقدّم العلمي والصناعي والتقنـي فـي البلاد، وتطورون البحث العلمي، فمعنى ذلك أن هذه البيوت الزجاجيّة لم تعد بيوتًا زجاجيّةً، بل هي فضاءٌ مفتوح عاطر ينمو ويتسع باستمرار، وأنا من أنصار هذا الاتساع، ويجب أن يزداد هذا الاتساع والنمو يومًا بعد يومٍ.
فـي التقرير الأوّل الذي قام الأخ بعرضه، كان يتحدّث عن إنتاج الخلايا الأساسيّة وتكثيرها وتجميدها، وقد تسلّمت تقارير جدّ مُرضية عن هذا العمل البحثي المميّز، ويبدو أنّهم أنتجوا لأوّل مرة فـي العالم ـ كما هو في خاطري ـ الخلايا الصانعة للأنسولين، وقد قرأت مؤخرًا فـي الصحيفة أنّهم يختبرون الخلايا الأساسيّة للقلب من أجل ترميم القلب، وقد زرعوها وربطوها.
هذا معنى إفاضة هذه البركات على مستوى المجتمع، والنقاط الأخرى التـي تمّ عرضها أيضًا تعدّ كلّ واحدةٍ منها مثالًا بارزًا لبركات الجهاد الجامعي.
لقد بذلوا جهودًا حثيثةً فـي العالم من أجل أن يثبتوا أن للعلم طبيعةً علمانيّةً، وأنّه لا توجد أيّة صلةٍ للعلم بالقيم، وقد نحتوا فلسفةً لتسويغ ذلك وتبريره، وساقوا استدلالاتٍ وبحوثًا من أجل تقديم العلم بوصفه مفهومًا خاليًا من القِيم، وهذا على النقيض تمامًا ممّا فعلتموه الآن، فأنتم تقولون: الجهاد الجامعي، والجهاد حالة قيميّة.
والحقيقة هي أنّ العلم والعقل أداتان ذواتا بعدين، يمكنهما أن يوظّفا لخدمة القِيم، ويمكن أن يُستخدما للعدوان والنزعات الحيوانيّة، وهذا يعود إلى مَن يتولى إدارة العلم، وإذا كانت إدارة العلم بيد طلّاب الدنيا والسلطة والمال، ستكون الحصيلة ما تشاهدونه اليوم فـي العالم؛ أي إن العلم يتحوّل إلى أداةٍ للاستعمار والاستغلال وإهانة الشعوب والاحتلال وإشاعة الفحشاء والجنس والهيروين.
فلولا ذلك العلم لما وجد الاستعمار، لقد استطاع الأوربيّون بفضل علومهم السير فـي العالم وإخضاع الشعوب لسلطاتهم الاستعماريّة، وإبقائها متخلفةً مئة سنة، ومئة وخمسين سنة، ومئتـي سنة على اختلاف الأقاليم، وقاموا بحرمانها من ثرواتها الماديّة، وتحطيم مواهبها الإنسانيّة، وقاموا بمذابح ضدّها.
حين يخضع العلم إلى إدارة عناصر لا تفكّر إلّا بالجوانب الحيوانيّة للحياة، ستكون هذه هي النتيجة؛ أمّا إذا أدار العلم العباد الصالحون فسيكون العلم خادمًا وغير مضرٍّ، لو أنّ الذين اكتشفوا الطاقة الذريّة كانوا من أهل الفضيلة والتقوى، ولو كان الذين استخدموها من أهل الفضيلة ومن العباد الصالحين، لما وقعت حادثة «هيروشيما» أبدًا.
وحتّى يومنا هذا، حينما تنظرون إليهم فإنّكم ترون أنّهم يستخدمون هذه الطاقة الهدّامة بمقدار ما يستطيعون، فلقد استخدمت هذه القوى الطاقة الذريّة المنضّبة فـي حربهم مع العراق قبل عشر سنوات أو اثنتـي عشرة سنة، وقد استخدموها فـي هذه الأحداث أيضًا، واستخدموا هذه الأسلحة فـي مناطق أخرى من العالم أيضًا فتسببت فـي إهلاك الحرث والنسل، فهم مصداق ينطبق مع الآية القرآنيّة: <يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ>[1]، إنّهم يُفسدون الأراضي ويقطعون ذريّة البشر، ولقد تركوا للشعوب والأجيال القادمة الآثار المخرّبة لهذه الأشعّة السامّة المدمّرة إلى سنين متمادية لا يعلمها إلّا الله، أمّا لو كانت إدارة العلم بيد الصالحين، لما وقعت مثل هذه الأحداث ولاستخدمَ العلم لخدمة الإنسانيّة، لأنّ فيه مثل هذه الإمكانيّة ويمكنه أن يكون كذلك.
إذاً، لو أردنا عَلمَنة العلم وإثبات أنّ العلم لا يُمكنه أن يترافق مع القِيم، لكانت هذه مغالطةً كبيرةً جدّاً وخدعةً كبيرةً لأذهان البشر، كلّا، يُمكن للعلم أن يرافق القِيم، والنزعة المعنوية الإسلامية تعارض الحيوانيّة والفساد واستغلال العلم، وفي المقابل هي لا تعارض العلم والتقنيّة والبحث العلمي، فيمكن للمعنويّة أن تصحب العلم ويمكن لنتائج العلم والبحث أن تتحرّك فـي طريق المعنويّة.
إنّ عنوانكم هو الجهاد الجامعي، فشددوا على هذا الاسم والتزموا بما يقتضيه، وجاهدوا حقًا، وحين يكون ثمّة جهاد، أي حينما يوجد السعي الهادف فـي سبيل الله، فإنّ النجاح سيكون حليفه دون ريب.
ثِقوا أنّ سبيلنا نحو تخوم العلم المتقدّمة فـي المجالات كافّة لن يُقطع إلّا بروح الاستقلال، وروح التوكّل على الله، وروح العمل للإيمان.
علينا أن نقطع هذا الطريق بسرعة، وأن نجد الطُرق المُختصرة، وأن نوصِل أنفسنا بأنفسنا، وعلينا أن نفتح حدود العلم ونُوجِد حدودًا جديدةً، فهذه عمليّةٌ ممكنةٌ، وهذه أرضٌ تُنبتُ العلم، وقد أثبتم أنّ هذا الأمر ممكنٌ، وهناك العديد من أبواب هذه العلوم مغلقة أمام بلدانٍ مثل بلدنا، بلدان لا تحمل هذه العلوم، ولا يسمحون لهذه العلوم بأن تنتقل إلّا حين تكون قد أصبحت قديمةً وباليةً وبلا أيّة حيويّة وطراوة؛ والأمر كذلك طبعًا فـي الميادين كافّة، وحتّى فـي ميدان العلوم الإنسانيّة أيضًا، الأمر كذلك.
لقد قلتُ ذلك اليوم للأصدقاء الناشطين فـي حيّز الاقتصاد وإدارة البلاد بمختلف أقسامها وكانوا هنا: إنّ الأمور التـي ينادي بها بعضهم هنا أصبحت منسوخةً، أمّا نظريّاتهم الأرقى فقد نزلت إلى السوق وجرى استخدامها وراحوا يعملون بها، لكنّ بعضهم هنا ـ ممّن انبهروا بآرائهم ـ ما زالوا يطرحون تلك الذيول القديمة! يقول بعضهم: يجب أن لا نتعبّد أمام الله تعالى وأن لا نتعبّد بالدين، إلّا أنهم أنفسهم يتعبّدون بالغرب وأوربا وأمريكا! إنّهم يرفضون التعبّد لله غير أنّهم يوافقون من أعماق نفوسهم التعبّد للرأسماليّة الغربيّة وأجهزة التسلّط السياسي المستندة إليها!
إنّ هذه المؤسّسة هي مؤسّسة ثوريّة، فابقوا ثوريّين، هذه هي وصيّتـي الأكيدة، وإنّ التحرّك الثوري يخالف إيحاءات الخبثاء وبعض الأقلام المأجورة التـي تُشيع أنّ الثورة تعنـي الاضطراب والتيه والفوضى والعبثيّة وعدم تماسك الأمور، لا ليس التحرّك الثوري كذلك أبدًا، بل هو انضباطٌ ثوريٌّ وهو أرقى وأقوى أنماط الانضباط.
وعدم الانتظام الذي كان مشهودًا في بداية الثورة كان بسبب وجود بناءٍ خاطئ أعوج متهرئ يجب هدمه وتشييد بناءٍ جديد مكانه، وذلك الاضطراب يعود إلى بداية الثورة، ولا تعني الثورة ذلك الاضطراب والتشتّت، بل الثورة حالةٌ مستمرّةٌ، والثورة معناها البناء، أي النماء والطراوة، وهل النماء والطراوة أمورٌ ممكنةٌ من دون انضباط أو قانون أو نظام؟!
إنّ أفضل الأعمال هي تلك التـي قام بها أشخاصٌ تحلّوا فـي عملهم بالروح الثوريّة، سواء فـي الحرب، أم فـي إعادة الإعمار، أم فـي العلوم والقضايا الثقافيّة.
إذاً عليكم أن تبقوا ثوريّين، والروح الثوريّة بمعنى عدم البقاء فـي أسر الحدود المفروضة بالإكراه، وعدم الاقتناع بأخذ القطرات الشحيحة المعطاة من هنا وهناك، وهي التحرّك المتفائل نحو الهدف، والوصول إليه من خلال الدافع والنشاط والإصرار والمثابرة، هذه هي الثورة وهذا هو التحرّك الثوري[2].
تعليق واحد