مواضيع

تشكيل الحكومة الإسلاميّة كان نتيجة للمجاهدة

إنّنا نُشجِّع الشباب الذين يدرسون فـي الجامعات على العلم والبحث والتحقيق، وإنّكم[1] تسمعون وترون أنّي أذهب إلى الجامعات وأتحدث للشباب الجامعي والأساتذة، وأشجِّعهم على أن يحطموا حدود العلم، وأن يجتازوا هذه الحدود، وأن يكتسبوا علومًا جديدةً، أن يُنتجوا علومًا جديدةً أيضًا، وهذه هي الأمور التـي ينبغي علينا القيام بها، علينا أن نشجع ونرغّب المديرين والأذرع الناشطة فـي البلاد فـي العمل التقنـي والصناعي والزراعي وإنتاج الثروة الوطنيّة وزيادتها، وعلينا أن نبذل مساعينا وأن نرصد الأموال فـي هذه المجالات. هذا كلّه ضروريٌّ، بشرط أن يتمّ على أحسن وجهٍ.

أما إذا غِبتم أنتم المشمِّرين عن سواعدكم للحفاظ على أنوار المعنويّة والفضيلة والدين الوهّاجة النيّرة، فسيفقد كلّ هذا التطوّر والتقدّم قيمتها، بل ستتحول إلى قِيم سلبيّة مضادّة، وهنا تتجلّى أهميّة الحوزات العلميّة؛ فمن هذا المنظار تصبح مُهمّتكم أهمّ من الأعمال التـي يتمّ إنجازها كافّة. إنّ وجود مجموعة من رجال الدين العلماء الواعين المثقفين الشجعان الورعين النزيهين المتحلّين بالوعي الواسع وبخشية الله فـي مجتمعٍ يعيش حالةً من التقدّم والنمو، يُبشِّر بأنّ هذا التطوّر والتقدّم لن يُستخدم لمزيد من التيه والضلال، ولن يكون باتجاه السقوط والانحطاط فـي المسيرة التاريخيّة.

هذا هو دوركم أيّها الشباب من طلاب العلم ودارسي العلوم الدينيّة، فاعرفوا قيمة هذا الأمر، فهو مهمٌّ جدّاً، وبالطبع هناك بعض المشاكل التي ستقف فـي طريقكم، فطلبتنا ورجالُ الدين عندنا يواجهون اليوم العديد من المشاكل،‌ فهناك المشاكل الماديّة، وهناك مشاكل من ناحية الاعتبار والحيثيّة في المجتمع، هناك مشاكل مختلفة ومعاناة من الحرمان، بيد أنّها لا تساوي شيئاً بالنظر إلى هذا الطريق وهذا الهدف الكبير.

واعلموا أنّه ما من مجموعة استطاعت القيام بدورٍ مؤثّرٍ وخالدٍ من دون أن تكابد بعض الصعوبات والمشاكل، فطبيعة الإنسان لا تسمح بوصوله إلى مراتب راقية عن طريق الركون للدِعة والتمتّع بالراحة المطلقة، بل عليه أن يتحمّل الصعوبات، وهذا هو عين التوجّه نحو الرضا الإلهي والقيام بدورٍ مؤثّر فـي سعادة المجتمع.

يمكن للحوزات العلميّة اليوم أن تبني نفسها بحيث تكون ذات دورٍ مؤثّرٍ بالمعنى الحقيقي للكلمة؛ إنّ الحوزة العلميّة فـي قم تأسّست عام1340هـ (أي قبل خمسٍ وثمانين سنة) على يد المرحوم الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري، وفـي عام 1355 هـ (أي بعد خمسة عشر عامًا)، ظهر أنّها قد تلاشت بوفاة مُؤسّسها، أي فـي ذروة قوّة -والد الشاه المخلوع، الشاه- رضا خان وممارساته القمعيّة.

فحينما توفّـي المرحوم الشيخ عبدالكريم الحائري تفرّق حتّى أولئك المئات من الطلبة الذين كانوا فـي قم، والذين كانوا يعانون الجوع والإفلاس والخوف والافتقار لأيّ مصدرٍ معيشيٍّ، فكانوا يذهبون نهارًا خارج مدينة قم يتباحثون فـي البساتين المحيطة بقم، و يعودون مساءً إلى المدرسة الفيضيّة أو إلى منازلهم.

ولكن خرج من بين نفس هؤلاء الطلبة المشرّدين المتفرّقين الخائفين المرعوبين من تسلّط النظام الحاكم ومن هؤلاء المسحوقين تحت الضغوط الاقتصاديّة والاعتبارية والسياسيّة الشديدة، خرج شخصٌ كالإمام الخمينـيّ بعد أربعين عامًا من تشكيل حوزة قم (أي فـي سنة 1381هـ)، وانطلقت ثورة رجال الدين، وهذا الأمر مليء بالمعانـي.

وبعد أن انقضت عدّة سنين من هذه الأربعين سنة بكلّ ما حملتها من الشدائد، وفـي شهر فروَردين من سنة 1342ش -الموافق لـ 1382 هـ و1963م- حينما وقعت أحداث المدرسة الفيضيّة وضُرِبَ طلّاب الحوزة وقذفوا بهم من فوق السطوح، ذهبنا فـي نفس اليوم إلى منزل الإمام الخميني، وكنتُ آنذاك طالبًا شابّاً فـي أعماركم الآن، كانت الأجهزة القمعيّة لمحمّد رضا -الشاه المخلوع- قد وقفت علنًا ضدّ الحوزة العلميّة، وكان الطلبة لا يجرؤون على العبور من إحدى جهتي الشارع إلى الجهة الثانية فـي شارع إرم بقم، وقد شاهدت هذا بعينـي! فقد كانت القوّات الخاصّة في أجهزة الشاه تنهال على طالب العلم كأنّه الشمر فيضربونه ويرمون بعمامته أرضًا ويُمزّقون ثيابه.

فـي مثل هذا الظرف المُرعب، عاد الإمام الخميني ذلك اليوم بعد صلاتي المغرب والعشاء إلى منزله ـ وهو نفس المنزل الموجود حاليًا فـي قم ـ وجاء الطلبة أيضًا، وكنتُ موجودًا معهم، فذكّرنا الإمام بأيّام القمع فـي عهد رضا خان وخروج الطلبة إلى خارج قم، وقال كنّا نعيش في تلك الأيّام بهذه الطريقة، فذهب أولئك وبقينا، والآن أيضًا سيذهب هؤلاء وستبقون أنتم.

لقد كانت هذه نبوءة الإمام الخميني، نبوءة تستند إلى الوعد الإلهي، فقد وعد الله تعالى أيّ جماعةٍ تجاهد وتصبر فـي سبيله وتكون مؤمنةً بأنّها ستبلغ هدفها يقينًا، والوعد الإلهي لا يكذب، إنّ الله تعالى يدلّ الإنسان على الطريق ويأخذ بيده خطوةً خطوةً، وإذا كان الله هو الهدف فسوف تتوفّر الهداية الإلهيّة، <وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا>[2]، فالأصل هو وجود هذا الحافز وهذا الإيمان، والنزول إلى الساحة وبذل الجهود والمساعي، وحيثما توفّرت هذه الأمور فسوف يتحقّق النجاح بلا شكّ.

لقد استطعنا اليوم أن نشاهد بأعيننا ثمار المجاهدات المتضافرة والمتراكمة والتي لا يعرف أجرها إلّا الله، استطعنا أن نرى بأعيننا تشكيل حكومةٍ على أساس الإسلام ومعارف أهل البيت(عليهم السلام)، فهل هذه مزحة؟ هل كان يخطر على بال أحدٍ أصلًا أنّه فـي عصر الهيمنة المطلقة للقوى الماديّة على العالم وعلى مختلف الأساليب والآليّات الدعائيّة والسياسيّة والاقتصاديّة والماليّة الاستعماريّة والاستعمار الحديث، ولاسيّما فـي هذه المنطقة الحسّاسة من العالم، هل كان يخطر على بال أحد أن تنبثق فجأةً غرسةٌ صالحة بهذه الجذور الراسخة، فتعجز الأعاصير طوالَ خمس وعشرين سنة أن تلحق بها أيّ ضرر؟ لقد كان هذا محالاً، إلّا أنّ هذا الأمر نفسه ـ المستحيل بالنظرة العاديّة والعُرفيّة الدارجة ـ كان حتميًا فـي الميزان والمعيار الإلهي، وقد تحقّق.

لقد قلنا اليوم فـي استشرافنا للعشرين عامًا القادمة: إنّ بلادنا يجب أن تبلغ بعد عشرين سنةٍ هذه المرحلة من التطوّر المادّيّ والتقدّم السياسيّ ومن الناحية المعنويّة والثقافيّة.

إنّ الوصول إلى هذه الطموحات هو أمرٌ أكيد إذا كانت هناك مساعٍ حثيثةٌ وكان هناك جهادٌ وراءها، فما من شكٍّ فـي هذا. ولكن ـ كما بيّنت ـ يُمكن لهذا التحرّك أن ترافقه الهِداية الإلهيّة والدينيّة وإرشاد رجال الدين، ويمكن أن لا يرافقه ذلك؛ وإذا لم يرافقه فسوف نقف فـي أسفل قائمة البلدان المتقدّمة فـي العالم، فقد حقّق الآخرون تقدّمًا كهذا التقدّم قبلنا بمئة عامٍ وقبلنا بمئتـي عام، فهل هذه هي النهاية؟!

إنّ سجن (أبـو غريب) والسجون الأخرى، والحرب العالميّة الأولى والثانية، والوجه الاستعماري البغيض فـي العالم، هو نهاية المطاف لكلّ ذلك التطوّر، أمّا إذا رافقت الهدايةُ الدينيّةُ ذلك التطوّر والتقدّم، عندئذٍ سيحدث ما لم يحدث فـي العالم، وسيحدث أمر ليس له سابقة فـي التاريخ[3].


  • [1]– الخطاب موجّه لجمع طلّاب الحوزة. (المترجم)
  • [2]– العنكبوت: ٦٩
  • [3]– من خطاب سماحته في لقائه بطلّاب مدرسة آية الله مجتهدي بتاريخ 11-6-2004م
المصدر
كتاب الحياة بأسلوب جهادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟