الحوزة هي منبع الثورة ومركز المقاومة والجهاد
إنّ جمعكم أنتم يا طلّاب الحوزة العلميّة في قم وفضلاءها، أنتم يا تلامذة مدرسة أهل البيت ومقتفي ذلك الأثر، هو محفلٌ سارٌّ وذو مذاقٍ حلوٍ، وهو الذي كان منبعًا للثورة ومركزًا للمقاومة والإيثار والجهاد والشهادة؛ إنّ كلّ مدرسةٍ في كلّ زاويةٍ من زوايا هذه المدينة هي ذكرى قيّمة للنجوم الساطعة في سماء العلم والمعرفة؛ مدرسة المرحوم آية الله الحائري[1]، مدرسة المرحوم آية الله الخونساري[2]؛ مدرسة المرحوم الحاج آقا ميرزا جواد آقا[3]؛ مدرسة الثاني من فروردين[4]؛ مدرسة الخامس عشر من خرداد[5]؛ مدرسة الشجاعة والإيثار؛ مجمَع الأفكار والأحاسيس والحوافز التي استطاعت أن تحفظ الحوزة العلميّة في قبال الأمواج العاتية للحوادث، أو أن تحافظ عليها مرفوعة الرأس فحسب، بل إنّها استطاعت أيضًا أن تنشر نور المعنويّة والمعرفة في جميع أنحاء البلد، بل في جميع الآفاق الإسلاميّة؛ وهي في مثل هذا اليوم الذي هو يوم الشهداء من علماء الدين؛ وهو اليوم الذي سمّي باسم الدماء التي أريقت بلا حقّ من الطلاب التعبويّين والفضلاء المعروفين وغير المعروفين، تلك النفوس الطيّبة، وتلك القلوب النقيّة وتلك الدوافع النورانيّة؛ إنّ زمان جمعكم ومكانه أيّها الأعزّاء مليءٌ بالخواطر والذكريات الجذّابة والمحبّبة[6].
لقد كان العلماء العنصر الأساسي في الكفاح المرّ الذي دام خمسة عشر عامًا، وانتهى بانتصار الثورة، ثمّ تشكيل النظام الإسلامي المقدّس، وارتفاع علم الإسلام خفّاقًا في العالم.
وكانوا أيضاً العنصر الرئيس في مقاومة الشعب الإيراني الحماسيّة ضدّ أنواع الهجوم المعادي، وقبل ذلك كان هؤلاء العلماء ـ ولقرون متمادية ـ العامل الأساسي في الحفاظ على المعارف الإسلاميّة، وإيمان الشعب الإيراني العميق الصادق بالرسالة الإسلاميّة التي تحيي النفوس، وكانوا المسؤولين عن نمو الفكر الديني في كلّ مكان.
لقد كان وجود العلماء الملتزمين والمجاهدين في محور الصراع ضدّ النظام العميل لأمريكا هو المُحفِّز لانضمام الفئات الشعبيّة المختلفة إلى ساحة الصراع، ومنحه صبغة شعبيّة عامّة.
كما أنّ الحضور النشط لعلماء الدين في طليعة كلّ الحوادث الكبرى المهمة التي اشترك الشعب الإيراني في صنعها كالثورة الدستوريّة (المشروطة)[7]، وثورة التُنباك[8]، هو العامل الوحيد الذي أدّى إلى الحضور الشعبي العمومي في ساحة تلك الأحداث.
ومِن هنا وجدنا الاستعمار الإنجليزي ـ لأنّه أدرك هذه الحقيقة ـ قد جعل مسألة القضاء على فئة علماء الدين في صدر أولويّات مهامه، وذلك تمهيدًا لاستدامة وجوده الاستعماري في إيران، وراح الإنجليز يُخطّطون للقضاء على العلماء بوساطة عميلهم رضا خان[9] في السنين التي تلت عام 1313 ش -الموافق لعام 1435 هـ وعام 1934م-، فحصلت فجائع واعتداءاتٌ على علماء الدين العظام والحوزات العلميّة لم يسبق لها مثيل في تاريخ إيران مطلقًا.
ومن المؤسف أنّه لم يتمّ تدوين تفاصيل تلك الفجائع الكبرى وكيفيّة مقاومة العلماء وطلاب العلوم الدينيّة المظلومين في أواخر أعوام حكم رضا خان المتجبِّر، وبالنتيجة لم يطّلع عامّة الناس عليها، الأمر الذي يفرض على الأفراد والمؤسسات المتخصّصة بهذا الأمر أن يعملوا بهمّةٍ عاليةٍ على تجميع كلّ المعلومات المتوفّرة لدى شهود العيان الذين مازال العديد منهم هنا وهناك بحمد الله.
ولقد كانت حريّة علماء الدين والحوزويّين، وعدم نفوذ القوى الداخليّة والعالميّة إلى صفوفهم سببًا في عدم تمكّن المتجبرين والمتحكِّمين الطغاة في أيّ وقتٍ مِن الأوقات مِن منع هذه المجموعة الربّانيّة من الوقوف بوجه مفاسدهم وأساليبهم الغادرة والخائنة.
وإذا أمكن لهم أن يجرّوا إليهم مجموعةً من العملاء الذين تزيّوا بزِيّ الدين وعلماء البلاط، طمعًا من هؤلاء في حطام الدنيا الدنيّة الفانية، فجلسوا على موائد الظالمين، وصاروا يؤيّدونهم قولًا وعملًا، فإنّ بقيّة العلماء والفضلاء والطلاب الشبّان الذين يمثّلون الأكثريّة كانوا يجلسون في قلعة المناعة والتقوى والطهارة، وكانوا يحتفظون بقدرتهم على النضال الصادق المقتدر، وكانوا يعملون على تثبيت العقيدة الراسخة بعلماء الدين الشيعة في قلوب كلِّ فرد من أفراد الشعب والثقة الكاملة بهم.
من هنا كان مجتمع العلماء غرضًا لسهام العداء المسمومة المُغرِضة لشتى الأعداء والمستعمرين والأجانب وعملائهم على الدوام، وأصبحوا بمثابة العدوّ الأوّل بالنسبة إليهم.
ولقد كانت الدعايات والإعلام المعادي الذي خطّطت له حكومة البهلوي، وكذا السياسات النافذة ذات الطبيعة الاستعماريّة مئة بالمئة، والتي حصلت في الخمسين عامًا الماضية، كانت كلّها موجّهةً ضدّ فئة علماء الدين في عصر حكومة رضا خان وفي النصف الأوّل من حكم محمد رضا[10]، وكانت جميعها امتحانًا عسيرًا لعلماء الدين وكلّ العاملين في هذا الحقل، إلّا أنهم أدّوا امتحانهم بكلّ نجاحٍ وعزّةٍ.
ولقد كانت الحوزة العلمية في قم وباقي الحوزات العلميّة، وكذا الوجوه العلميّة الدينيّة اللامعة، هي المهد الأصيل للنضال، وبالنتيجة الهدف الأصلي للحملات الوحشيّة المعادية طبعًا، إلاّ أن العنف الشديد والإرهاب الذي لا حدّ له لم يستطع ـ بإرادة الله ـ أن يجبر علماء الدين على التراجع عن طريق الفخر والعزّة الذي اختاروه واجباً إسلامياً لا يقبل التراجع، بل إنّنا نجد الفكر الإسلاميّ قد تفتّح أكثر فأكثر، وأشدّ وضوحًا ونقاءً، ونجد أنّ الفقه القرآني قد امتلك ثراءً وعمقًا أكبر، كما أنّ شخصيّة العلماء المجاهدين قد اكتسبت صلابةً ومراسًا، ممّا مهّد السبيل لتشكيل الحكومة الإسلاميّة.
وبعد انتصار الثورة وحتّى الآن كان هؤلاء العلماء غرضًا لحملاتٍ مسمومةٍ لا انقطاع لها لدى العدو، ولاسيّما تلك العناصر البارزة التي كان لها دور مباشر في خدمة نظام الجمهوريّة الإسلامية، سواء على الصعيد الإعلامي، أم على صعيد الاغتيالات الغادرة وكلّ ذلك بتخطيطٍ من العدو.
وقد قدّم العلماءُ شهداء عظامًا سواء في جبهات الحرب المفروضة، أم على جبهات النشاطات الجهاديّة الأخرى، فخضّبوا محراب صلاة الجمعة وساحة العلم والسياسة والتبليغ الإسلامي بدمهم الطاهر.
إنّ أمّتنا العزيزة تعلم أنّ دوافع الأعداء من هذا الهجوم الشامل على علماء الدين إنّما هو لكونهم يعلمون ـ بكلّ وضوحٍ ـ الدور المصيري الفريد الذي امتلكوه وما زالوا يمتلكونه، وهم إذا كانوا يهاجمون العلماء فإنّما هم في الواقع يسعون إلى زعزعة أسس الثورة والقضاء عليها[11].
- [1]– يعدّ آية الله العظمى الشيخ عبد الكريم الحائري، مؤسّس الحوزة العلميّة في مدينة قم. (المترجم)
- [2]– يعدّ آية الله العظمى السيّد أحمد الخونساري من المراجع الكبار، ومن الأشخاص الذين أعلنوا تأييدهم لثورة السيّد الخميني بعد أحداث 15 خرداد عام 1342 ه (1383 هـ – 1963م)، وكان له العديد من المواقف المشرّفة فيما يتعلّق بمواجهة الشاه المخلوع. (المترجم)
- [3]– يعدّ الميرزا جواد آغا الملكي التبريزي، من العرفاء والفقهاء ذوي الشأن والمقام العالي، وكان من تلامذة العارف الكبير الملّا حسين قلّي الهمداني رضوان الله عليهما، وكان معتمد أهل قم في التقليد، كما أنّه كان يلقي الدروس الأخلاقيّة في المدرسة الفيضيّة في قم، وقد تتلمذ على يديه عدد كبير من العلماء العظام، منهم: مفجّر الثورة الإسلاميّة الكبير السيّد الخميني، والمرجع الكبير الشيخ محمّد حسين الأصفهاني المعروف بالكمباني. (المترجم)
- [4]– يصادف هذا التاريخ، اليوم الذي هاجم فيه جلاوزة الشاه المخلوع طلّاب الحوزة العلميّة في قم، في المدرسة الفيضيّة، فقتلوا منهم العديد من العلماء بوحشيّة، وذلك عام 1342 ش (1383 هـ – 1963م)؛ كما ويصادف أيضًا بدء عمليّات الفتح المبين التي أدّت إلى تحرير الأراضي الإيرانيّة من أيدي نظام صدّام حسين، وذلك عام 1361 ش (الموافق لعام 1402 هـ و عام 1982م). (المترجم)
- [5]– إشارة إلى اليوم الذي ألقى فيه الإمام الخميني خطاب سماحته الشهير في المدرسة الفيضيّة والذي انتقد فيه تصرّفات الشاه، وبدأت الانتفاضة على الشاه منذ ذلك بسبب تأييد الناس لخطاب سماحته، ونزول الآلاف للطرقات وندائهم: الموت للديكتاتور، وذلك في عام 1342ش (1383 هـ – 1963م). (المترجم)
- [6]– من خطاب سماحته في اجتماعه بطلّاب حوزة قم العلميّة وفضلائها بتاريخ 20-2-1992م
- [7]– الحركة الدستورية (المشروطة) في إيران من أهم محطّات التاريخ الشيعي الحديث وتاريخ الحوزة العلميّة في إيران والعراق، وقد تزعّمها اثنان من كبار علماء الدين هما السيّد محمّد الطباطبائي، والسيّد عبد الله البهبهاني، وقد عملت الحركة على تصحيح الحكم إلى ملكي دستوري مشروط ببرلمان، ونجحت في (5/8/ 1906م)، في إجبار مظفَّر الدين شاه على إعلان الدستور، والاحتفاظ بمكانةٍ عليا تضمن للفقهاء الإشراف على قوانين المجلس.
- ولكنّ الحركة الدستوريّة انقسمت إلى فريقين، يطالب أحدهما بحكم ديمقراطي مطلق، وآخر يطالب بحكم يلتزم بالشريعة الإسلاميّة، ممّا أدى إلى إعدام آية الله الشيخ فضل الله النوري أكبر دعاة (المشروطة المشروعة) في طهران على يد الفريق الآخر. ما جعل حالة من التشكيك في الحركة الدستورية المطلقة تسود في أوساط العلماء، فاتهموها بالعمالة لبريطانيا. وقد حاولت الحركة الاعتماد على المرجعيّة الدينيّة في النجف الأشرف لتتخذ موقفًا حاسمًا ضدّ السلطة القاجاريّة التي كانت تعارض أهداف الحركة في إنشاء مجلس شورى، والحركة الدستورية، فكان على رأس أنصار المشروطة الشيخ كاظم الخراساني والشيخ حسن الخليلي والشيخ عبد الله المازندراني والشيخ محمّد حسين النائيني وغيرهم. وفي 24 جمادى الثانية 1327-.ق (13حزيران 1909م). حققت المشروطة انتصاراً ساحقاً بسقوط الشاه على أيدي أنصار المشروطة وخروج الروس من إيران. (المترجم)
- [8]– وهي أوّل انتفاضة في تاريخ إيران المعاصر، وقد حدثت عام: 1891م؛ إذ قادها رجال الدين بمواجهة منح امتياز (حصر التبغ والتنباك) للشركة الإنجليزيّة منذ البداية وقبل بدء عمل الشركة في إيران، فحصلت بعض الاحتجاجات، فقد دعا آية الله الميرزا الشيرازي مرجع الشيعة آنذاك إتمامًا للحجّة في رسالة شفهيّة بدايةً وبرسالة خطيّة لاحقًا إلى إلغاء الامتياز، لكنّ ناصر الدين شاه لم يكترث لهذا الاحتجاج وأوعز لممثل إيران في العراق بأن يذهب إلى سامراء ويُعلمه بفوائد الامتياز. وفي أواخر شهر محرّم من عام: 1309 هـ (1891م) ارتفعت وتيرة مقاومة عمليّات الشركة في عموم البلاد، فيما عارضها علنًا كبار العلماء في مدن طهران وتبريز وأصفهان، ثمّ أصدر الميرزا الشيرازي فتوى التنباك الشهيرة، أمّا ناصر الدين شاه، الذي أرهبته فتوى آية الله ميرزا الشيرازي، فإنّه كلف أمين السلطان (صدر أعظم) بلقاء العلماء بحثًا عن سبيل لإنهاء هذه الغائلة؛ لذا التقى بالميرزا حسن الآشتياني، قبل أن يجتمع بسائر العلماء ويتعهد فيه باتخاذ ما يلزم من خطوات لفسخ امتياز حصر التبغ والتنباك وإبطاله، وأنّه بعد استرضاء الشاه ومحاورة الإنجليز، أقنعهم بوجوب العدول عن حقّ حصر التبغ والتنباك في إيران، ما دفع إلى أنّ تتولى الشركة الإنجليزيّة أمر تصدير التبغ والتنباك واستيرادهما فحسب، ومع ذلك فإنّ هذا الأمر لم يرض الميرزا حسن الآشتياني وسائر العلماء الذين طالبوا بإلغاء كامل الامتياز وإبطاله جملةً وتفصيلًا؛ وفي نهاية المطاف عزّزت قضيّة تحريم التنباك، وانصياع ناصر الدين شاه لإرادة علماء الدين، منزلتهم وأضعفت منزلة الشاه، ثمّ آلت لهزيمة الشاه القاجاري وقتله بعد نحو أربع سنوات. (المترجم)
- [9]– والد الشاه الإيراني المخلوع، والذي نصّب نفسه شاهًا بعد قيامه بانقلابٍ عسكري. (المترجم)
- [10]– ابن رضا خان، وهو الشاه المخلوع. (المترجم)
- [11]– من خطاب سماحته في الذكرى الأولى لارتحال الإمام الخميني بتاريخ 31-5-1990م
تعليق واحد