مواضيع

حياة الحوزة المستمرّة وتاريخها مرتبطان بالجدّ والجهاد

في عام 1340 هـ، أي قبل حوالي اثنين وسبعين عامًا من الآن[1]، حينما قَدِم المرحوم آية الله الحائري إلى هذه المدينة[2]، لم يكن آنذاك أيّ خبرٍ عن كلّ هذه البركات، لا في هذه المدينة، ولا في البلد، ولا في جميع أنحاء العالم، لقد جاء وأسّس الحوزة هنا، ثمّ بعد أربعين عامًا من ذلك التاريخ تقريبًا ـ أي في سنة 1381 و 1382 هـ ـ بدأت هذه الثورة هنا.

لاحظوا كيف أنّ هذه الثمرة قريبةٌ إلى أصلها، وكيف أثمر ذلك الإخلاص الذي كان يسكن في ذلك البرعم ـ يعني برعم الحوزة العلميّة ـ حتّى ظهرت هذه الثورة، وظهر حاضن بُرعُم الثورة ـ يعني ذلك المعلّم للجيل الحالي، ولأجيال البشريّة في المستقبل، ذلك الرجل الإلهي، وذلك العبد الصالح، الذي كان يقتفي أثر الأنبياء ـ وانظروا ماذا فعل بإخلاصه بحيث ما زالت تلك النبتة تُثمر حتّى يومنا هذا، وها أنتم ترون ثمارها في كلّ أنحاء العالم، وأحد ثمارها هو الجهود التي حصلت في إيران، وتشكيل الجمهوريّة الإسلاميّة مع كلّ ما فيها من بركات، وأثمرت صحوةً للمسلمين في المناطق الأخرى، وباقي الثمار التي تعرفونها.

واليوم علينا أنا وأنتم أن نتحرّك بإخلاصٍ وبجدٍ وجهاد، وذلك لكي تستمرّ هذه الشجرة بالعطاء ولتثمر أكثر وأكثر، وهذا هو الحمل ننقله من يدٍ إلى يدٍ.

إذاً الحوزة العلميّة كانت وما زالت عبارة عن وجودٍ مثمرٍ، وينبغي أن تبقى مثمرة فيما بعد، وإن أصحبت الحوزة غير مثمرة، فلا فائدة فيها، ولا تستحقّ الجهود التي تُبذل للحفاظ عليها، فكلّ شجرةٍ لا تُثمر، أو لا تمنح ظلاًّ فوق رأس أحدهم في الأقل،‌ لا يقبل أيّ مزارع أن يُتعب نفسه في الحفاظ عليها[3].

إنّ الحوزة عبارة عن موجودٍ حيٍّ، والأفراد في هذه الحوزة يأتون ويذهبون، فأنتم أتيتم في يومٍ من الأيّام وملأتم هذا المكان، وفي يومٍ من الأيّام كان هناك أشخاصٌ آخرون قبلكم ملؤوا هذه الساحة وهذا الصحن، هم ذهبوا وأنتم أتيتم، وأنا وأنتم سنذهب، وسيأتي أناسٌ آخرون، وإن شاء الله سيملؤون هذا المكان وسيكونون أكثر تلألُؤاً وأكثر مجدًا من زماننا، فنحن نتغيّر، وأمّا ما يبقى فهو الحوزة العلميّة، ولذا فالحوزة العلميّة موجودٌ حيٌّ على الدوام، وحياتها في أيدينا وفي أيدي كلّ الأجيال اللاحقة.

إذا لم ندخل أنا وأنتم الحياة وجوهر الحياة في الحوزة، ستصبح حياة الحوزة ضعيفةً، ولن تصل إلى الجيل اللاحق،‌ إنّ الحوزة غير مرتبطة بالأفراد، فالأفراد يأتون ويذهبون، أمّا حياة الحوزة المستمرّة والتاريخيّة، فهي مرتبطة بجهد الأفراد وجهادهم.

إنّنا نستطيع القيام بعملٍ قبيحٍ ـ والعياذ بالله ـ وأن نحصل على النتيجة السيّئة،‌ كما أنّنا نستطيع القيام بعملٍ جيّدٍ وأن نحصل على نتيجته الناصعة،‌ إذاً عملنا هو الذي يؤمّن ويعيّن المستقبل، ويعيّن آثار الحوزة وثمراتها،‌ والآن السؤال هو: ماذا علينا أن نفعل لكي تبقى الحوزة مثمرة؟

هناك مسألة واحدة، وهي أنّه: أهناك دورٌ لطلاب العلوم الدينيّة والفضلاء الشباب في بناء الحوزة ومستقبلها أم لا؟ والجواب هو نعم لهم دورٌ في ذلك، ولكلّ شخصٍ دورٌ، في كلّ مجموعة هناك دورٌ لكلّ فردٍ من أفرادها، وفي البدن السالم، كلّ خليّة لها وظيفة تقوم بها، ومن هنا إذا قام كلّ واحدٍ منّا نحن بعمله بنحوٍ متقن، فإنّنا نكون قد ساعدنا على سلامة المجموعة بأكملها، وفي المقابل إذا لم يقم كلّ واحدٍ بعمله بالنحو المطلوب،‌ فإنّ كلّ واحدٍ يكون قد وجّه ضربةً لسلامة المجموعة على قدر ما لديه من شعاعٍ وجودي.‌

«رَحِمَ الله امرءاً عَمِلَ عملًا صَالحًا فأتقَنهُ»[4]، ينبغي أن يكون العمل متقنًا، وأن ينجز على أفضل وجه، فينبغي أن تُدرس الدروس بنحوٍ جيّد، وينبغي أن تراعى الأخلاق في التعامل، وينبغي أن يكون أساس حياتنا مبنيًا على الدين،‌ وينبغي علينا اتخاذ ممشى الأعاظم بصفة أنموذجٍ وأسوة نتأسّى بهم في آداب الحياة، وفي الأخلاقيّات العباديّة والعمليّة، وهناك أمورٌ أخرى، والتي تتطوّر بالطبع بتطوّر الزمان،‌ فعلينا تطويرها وأن نغيّرها.

إذاً يمكن لأفراد الحوزة كبيرهم وصغيرهم حتّى الطالب الذي دخل للحوزة حديثًا أن يقوموا بدورهم على أتمّ وجهٍ، وهذا الدور سيكون مؤثّرًا في سلامة الحوزة الآن وفي المستقبل أيضًا.

فلو أنّ الطالب أهمل اليوم دراسة دروسه، فإنّ ذلك إمّا أن يكون إهمالًا لعبادته وجهده الفردي والأخلاقي، وإمّا أنّه لم يُفعّل كلّ إمكاناته وطاقاته، وأمّا أنّه أضاع هدفه، ومثله كمثَل الشخص الذي كان يمشي نحوٍ هدفٍ من الأهداف، ولكن حينما وصل إلى أحد المقاهي الذي يحيط به ماءٌ وهواءٌ جميل، حطّ رحاله هناك، وبقي هناك ونسي هدفه،‌ أو كمن وقعت عينه في أثناء الطريق على منظرٍ جميل، فلم يعرف كيف يرجع إلى طريقه وأضاع هدفه، وجميع هذه الأمور هي آفات طريقنا.

على طالب العلم أن يختار طريقه مستعينًا بالعلم والمعرفة واليقين، وعليه أن يُكمل طريقه بالعلم والمعرفة واليقين أيضًا، وهذا هو الأمر المتعلّق بكلّ فردٍ من أفراد الطلبة، وبالطبع هناك مسؤوليّاتٌ أخرى أيضًا، وهي تقع وقوعاً طبيعيّاً على أشخاصٍ آخرين، وهو عملٌ يقع على عاتق المديرين والأساتذة الأعاظم ـ ولهذا الأمر تفصيلٌ آخر ـ وهو لا يقع على عاتق الطلبة[5].‌


  • [1]– كان خطاب سماحته في عام 1412 هـ. (المترجم)
  • [2]– مدينة قم، وذلك إشارة إلى انتقال الشيخ عبد الكريم الحائري إليها وتأسيسه الحوزة العلميّة فيها. (المترجم)
  • [3]– من خطاب سماحته في لقائه بجمعٍ من العلماء بتاريخ 20-2-1992م
  • [4]– مسائل علي بن جعفر، ص 93
  • [5]– من خطاب سماحته في لقائه بجمعٍ من العلماء بتاريخ 20-2-1992م
المصدر
كتاب الحياة بأسلوب جهادي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟