مواضيع

مسلمُ ابنُ عقيلٍ و غُربة الثوّار..

الإمام الحسين عليه السلام : ” و بعثت إليكم أخي و ابن عمي ، و ثقتي من أهل بيتي ، و المفضل عندي مسلم ابن عقيل ، فاسمعوا له و أطيعوا “

تمهيدٌ .

البَصِيرَةُ و الإِرَادةُ .. عندما تُفقدَانِ فِي الفَردِ أَو المُجتمعِ فإِنّ العَواقِبَ تكونُ وخَيمةً، و يَجرُّ ذلك بالويلاتِ و الحَسَرَاتِ و المَآسِي، فَعِندَمَا تمّ اعتِقَالُ هَانِي ابنَ عروة فِي قَصرِ الأَمَارَةِ و عَلِمَ بذلك أَهلُهُ و عَشِيرَتِهِ، و عِندمَا اجتَمَعُوا حَولَ القَصرِ و كَانَ ابن زِيَاد ضَعيفاً و إِلى الآن لَم يَتَمكّن مِن الكُوفَةِ، و السُؤالُ المُحيّر : أَنّهُ لِمَ لَمْ يَستنقِذُوا شَيخَهُم و زَعِيمَهُمْ و قَائِدَهُمْ مِن الأَسرِ ؟!

و الجوابُ: أَنّه كانَت هُنَاكَ عدّةُ نِقاطِ ضعفٍ كانت السّبَبَ وراءَ خُذلانِ هانِي ابنَ عُروةَ ممّا أَدّى إِلى استشهادِهِ لاحقاً و استشهَادِ مُسلَم و الإمام الحُسين عليه السلام.

العَوامِلُ فِي إِخمَادِ الثّورَاتِ

كانَت هُناكَ عِدّةُ عَوَامِل كانَت السّبَبَ فِي إِخمَادِ الثّورَةِ الّتِي نَهضَ بِهَا مُسلِمَ بن عَقِيلٍ، و هَذه العوامِلُ كالسُنَنِ الجاريةِ فِي التاريخِ، فهي تَتَكَرّرُ و تُعِيدُ نَفسَهَا كمَشهَدٍ خَالِدٍ و إِن تَغيّرَ الزّمانُ و المكانُ و أهلهُما.

1- علماءُ البلاطِ والسّلطَان: إنّ وجودَ عالمٍ فاسقٍ كشريحِ القاضِي كانَ سبباً لإخمادِ الثّورةِ، فوقوفُه مَع الحَاكمِ الظالمِ و عدمُ صراحتِه مع مجتمَعِهِ و شَعبِه، فضلاً عن أن يُفَكّرَ بتقديمِ تضحيةٍ فِي سبيلِ الله وفِي زوالِ الظّلمِ و الظّالمِ، كانَ كلُّ ذلك له الدّورُ فِي إِخمادِ الثّورةِ و إِرجاعِ النّاسِ إِلى بيوتِها، خصوصاً بعدَ أَن شَهِدَ زوراً و كذباً بأنّ هاني سليمٌ و هُو حيٌّ.

2- أصحابُ المَطامِعِ و المّصَالِحِ: وجودُ أصحابِ المصالحِ الذين هيّجُوا النّاسَ و أَمَرُوهم بالإلتفافِ على قصرِ الإمارةِ و محاصرتِه،  ولَم يَكنْ هَدَفُهُم الواقِعِي فِي ذلكَ هُو تَخلِيصُ هاني ابنَ عروةَ مِن الأسرِ و القَتلِ، بَل هِي حيلةٌ و خدعةٌ لأَجلِ اِمتصاصِ غضَبِ الجماهيرِ و من ثمّ خِداعُهُم، و عُمومُ النّاسِ كثيراً ما يثورونَ بقوّةٍ و سرعةٍ و يخمدون بقوةٍ و سرعةٍ.

ملاحظةٌ: إنّ هذينِ الصنفَينِ – علماءُ السوءِ و أصحابُ المصالحِ –  كانُوا و ما زالُوا يَسيرُونَ تحتَ خُطّةٍ واحدةٍ، و كلٌّ مِنهُما يقومُ بدورٍ خاصٍّ لأَجلِ مَصالِحِهِم الذاتيّةِ و على حسابِ مصالحِ الأمّةِ و قِيَمِ الإِسلامِ و مبادئِ السّماءِ.

3- مجتمعُ الهمجِ الرّعاع ” الجاهل المنهزم ” : وجودُ أمّةِ الهمج الرّعاعِ التي لا بصيرةَ لها و التي تعيشُ خواءَ الإرادةِ و ضعفِ العَزيمةِ  و المهزومةِ فِي داخلها: خوفاً مِن الموتِ و طمعاً في الأموالِ و حُطامِ الدّنيا، فهي تتحركُ بلا وعيٍ و تثورُ عَن جَهلٍ و عماءٍ، و تتوقفُ مِن غيرِ مُبرّرٍ عُقلائِي ومِن غير أن تَحصلَ على النتائجِ و المكتسباتِ.

و النتيجةُ: أنّ مخططَ الطاغيةَ ابن زيادٍ و أعوانِهِ قد تحققَ فقُتلَ هاني ابنَ عروةَ و استشهدَ مسلمُ ابن عقيلٍ، و انجرّتِ الويلاتُ على مجتمعِ أهلِ الكُوفةِ بل و على الإِسلامِ، و كانت النّتيجةُ المُرّةُ استشهاد الإِمام الحسين (ع) على أيديهِم.

أهلُ الكوفةِ و المُنعطفُ الخطيرِ

كانت الكُوفةُ خارجةً عَن سلطةِ و حكومةِ و ولايةِ آل أميّةٍ، خارجينَ عن طاعتِهم مُتمردينَ عليهم، و عندما جاءَ مسلمُ ابن عقيلٍ تأكّدَ الأمرُ أكثرَ و أكثر، و بايعتهُ الألوفُ على الطّاعةِ للإمامِ الحسين (ع) ، لكنّ ماذا حدثَ بعد أن جاءَ “عُبيد اللهِ ابن زيادٍ” و علِمَ النّاسُ بأنّه في القصرِ حاكماً جديداً على الكوفةِ؟ جاء ليخمدَ الثّورةَ و يُرجعَ النّاسَ إلى طاعةِ يزيدٍ ؟!

أ- إِنخارتِ القُوى، و ضعفت النّفوسُ، و أخذُوا يتذكّرُونَ أفاعيلَ أبيه “زيادُ ابن أبيه” بالمجتمعِ الكُوفِيّ، وما لاقُوه مِنهُ مِن تنكيلٍ و تقتيلٍ و تعذيبٍ و تشريدٍ، فدبَّ الخوفُ فِي القلوبِ و استشرى الخَواءُ فِي النفوس، و هذا هُو أوّل الإِنهزامِ . و الحالُ إِن ابن زيادٍ لا ناصرَ معهُ و لاقُوّةَ عِنده، و لو هجَمُوا عليهِ هجمةَ رجلٍ واحدٍ لتمّ القضاءُ عليهِ و لم يجد ما يمتنعُ بِه!

و لكن كيفَ ذلك و الانتصارُ لا يتوقفُ عَلى ذلك فحسب، فمنِ الانتصارِ هُو هزيمةُ العدوّ فِي داخِلِهِ، و تحطيمُ روحيتِهِ، و هكذا كَان، فقد هَزمَ “عبيدالله ابن زياد” نفوسَ الكوفيين و حطّم أرواحهم قبلَ أن يهزمَ أبدانَهُم.

ب- و هناكَ مَن أنهزمَ للأطماعِ و الأموالِ و المقاماتِ، خصوصاً الوجهاءُ مِن أَصحابِ المصالِحِ الآنيّةِ، حيثُ وجدُوا المَغنَمَ و الفُرصَةَ المناسِبَةَ لتحقيقِ أَهدافِهِم، فها هِي الدُّنيَا قَد أَقبلت عَليهِم، و الطريقُ لنيلها هو إعانةٌ عَلى إِمامِ الأمّة و على الإِسلام.

ت- نعم، كانَ هناكَ “رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْه‏ “[1] لكن كانوا قلّةً، و كثيرٌ منهم كان مصيرُه الأسر و غياهب السّجونِ، كما المختارُ الثقفي، و هناك من مضى شهيداً .

ث- و عاملُ الزّمنِ مهمٌ فِي حَسمِ المَعاركِ، فالتأخيرُ و إِعطاءُ المُهلَةِ و عدَمُ الحَسمِ السرّيع قد يكونُ له الأثرُ السيئ ، فإبنُ زيادٍ أخذَ يرتّبُ صُفوفَهُ و يستعينُ بأَعوانِهِ و ينفذُ مخططاتِه، فما كانَ إِلا حُصولُ الإنقلابِ على مسلمٍ، و وقوعُ الكوفةِ تحتَ هيمنةِ ابن مرجانَةَ.

 فلا بدّ من ملاحظةِ “عامِل الزّمنِ” و اغتنامِ فرصةِ القوّةِ الحاصِلَةِ، لأنّه فِي مثل هذه القَضَايا الإجتماعيةِ و السياسيةِ يكون لـ “عامِل الزمن” أهميةٌ كُبرَى فِي تغييرِ المُعادلاتِ و انقلابِ الهزائمِ إِلى انتصاراتٍ أو العكس.

الثورةُ و تكتيكاتُ القائِدِ

كان هناك وقتٌ محدّدٌ و مَوعِدٌ مُعينٌ للثّورَةِ و انطِلاقِها، و لكنّ مسلمَ ابن عقيلٍ القائدَ رأى بأنّه لابّدَ من تغييرِ الوقتِ و تقديمِهِ، و ذلك لوجودِ ظرفٍ خاصٍ و هو اعتقالُ هانِي ابن عروة، و تهديدُ حياتِه بالخَطَرِ و تغيرُ بعضِ الخطط عند بعضِ المُتغيراتِ السياسيّةِ أمرٌ يُقرّه السياسيون،

و لكن ماذا حَدَث؟

أ- في مثلِ هذا التّغييرِ في التكتيكِ، فإنّه لا يُمكنُ جمعُ و لَملَمَةُ كلِّ الأَنصارِ و الجُنودِ، فالتاريخُ يذكرُ أنّه قَد بايعَ مسلماً 18000 و لكنَّ مَن قدرَ على جمعِهم في هذا الظّرف الاستثنائِي هم 4000 فقط، و على كلّ حالٍ ففي هؤلاءِ الكفايةَ لعدوٍ مثل “عبيدالله ابن زياد” ، حيثُ لا يوجدَ عنده أكثرُ مِن 30 شرطياً و 20 وجيهاً مِن أصحابِ الدّنيا.

ب- في مثلِ هذا التّغييرِ فِي التكتيكِ، كانَ بالإمكانِ الأنتصارُ في المعركةِ، و لكن بشرطِ: أن يقفَ الأنصارُ مع القيادةِ بكلِّ شجاعةٍ و بَسالَةٍ، و اطاعته في كلِّ صغيرةٍ و كبيرةٍ، حيثُ إنّ الظّرفَ استثنائيٌّ و الأمورُ تسيرُ بسرعةٍ، فلا مُتّسعَ في الوقت لاي خطأ ، فضلاً عن علاجِ الاخطاءِ، و أيّ انحرافٍ عن مسيرِ تعليماتِ القيادَةِ قد يُسبّبُ الهَزيمةَ و الخُسران.

ت- في مثلِ هذَا التّغييرِ فِي التكتيتك، و الذي هو مُفاجئ للأنصارِ و سريعٌ في الموقف ، فإنّ توقّعَ انقلابِ النّاسِ على الأعقابِ واردٌ أيضاً:

1- حيثُ إنّ الإِضطّرابَ حَكَمْ.

2- ولا يُوجَدُ إِدراكٌ تامٌّ و بِشكلٍ صحيحٍ للمشهدِ بتمامِه.

3- مضافاً لوجودِ ضَعفِ الإِرادةِ فِي النّفوسِ، و الانهزامُ الداخلي :

بالتّخويفِ الموهومِ بجيشِ الشّام

وبالتهديدِ بقطعِ الأرزاقِ و القَتلِ

وبالترغيبِ بالعطاءِ الجزيلِ

أولياءُ الله و الفلاحُ بالامتحانات الحَسّاسَةِ

و الحاصلُ، أنّه فِي مِثلِ هَذا الوقتِ الحَسّاسِ لا يَفلحُ إِلا مَن كَانَ على تمامِ الجهُوزيّةِ و الاستعدادِ لمثلِ هذه المَعرَكةِ، فلا خوفٌ مِن المَوتِ، و لا مِن أيّ تهديدٍ دنيويّ، و لا طمعَ فِي دُنيا زائلةٍ، و هُناكَ وضوحٌ فِي الهَدفِ، و قُوةِ بَصيرةٍ بالإضافةِ للتّمتَّعِ بالإِرادةِ الفُولاذيّةِ.

و هَذا للأسفِ كانَ مَفقُوداً عِندَ غالبيةِ المُجتمعِ الكُوفيّ، فَكانَ ما كانَ، أَن تَركُوا (مُسلِماً) وحيداً فَريداً حتى استُشهِد ..


  • [1] الأحزاب: 23
المصدر
كتاب التغيير في سبيل الله للشيخ زهير عاشور

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟