الحماسة والعرفان
جدول المحتويات
الإمام الحسين (ع): «اللَهُمَّ أَنْتَ ثِقَتِي فِي كُلِّ كَرْبٍ؛ وَأَنْتَ رَجَائِي فِيكُلِّ شِدَّةٍ؛ وَأَنْتَ لِي فِي كُلِّ أَمْرٍ نَزَلَ بِـي ثِقَةٌ وَعُدَّةٌ، كَمْ مِنْ هَمٍّ يَضْعُفُ فِيهِ الْفُؤَادُ، وَتَقِلُّ فِيهِ الْحِيلَةُ، وَيَخْذُلُ فِيهِ الصَّدِيقُ، وَيَشْمَتُ فِيهِ الْعَدُوُّ؛ أَنْزَلْتُهُ بِكَ، وَشَكَوْتُهُ إلَيْكَ، رَغْبَةً مِنِّي إلَيْكَ عَمَّنْ سِوَاكَ؛ فَفَرَّجْتَهُ عَنِّي وَكَشَفْتَهُ وَكَفَيْتَهُ، فَأَنْتَ وَلِيُّ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَصَاحِبُ كُلِّ حَسَنَةٍ، وَمُنْتَهَي كُلِّ رَغْبَةٍ».
تمهيد
عندما يعيش الإنسان «النفس المطمئنة»، ويسكن إلى ربه، ويرضى بما كتب له، ولا يرى لنفسه إلا مقام العبودية لخالقها، فبقدم العبودية نرتقي في الربوبية، ونشهد سبحات الألوهية، فهي لا تملك شيئاً من خير أو شر أو نفع أو ضر!
وصاحب النفس المطمئنة يرى الدنيا دار مجاز لا دار بقاء، والدنيا – بنعمها ونقمها – بلاء وامتحان، فلا يطغى عند تواتر النعم والوجدان، ولا يكفر عند الفقر والفقدان، فيعيش في مستقر العبودية، فتارة يعيش «العرفان» والعشق والهيام من التبتل والدعاء في صحراء عرفة، فكانت «ثورة العرفان» بـ«دعاء عرفة»، وتارة يعيش النفس الحماسة والغليان والثورة على الظلام، فكانت «ثورة كربلاء الحسين (ع)»، فاجتمع «العرفان» مع «الحماسة» .. وهذه من خصوصيات مدرسة سيد الشهداء (ع).
الحماسة والعرفان
إن فلسفة اجتماع «العرفان» – الملازم للرقة واللطافة والأحاسيس الجياشة – مع «الحماسة» الملازمة للشدة وقوة القلب وصلابة الإرادة والثورية والإباء، إن المنبع لهما والعين التي ترويهما واحدة، فـ«العرفان» يترشح من نفس الأصل الذي تترشح منه «الحماسة»! فـ«القلب» اتصل برب يدعو للعروج والهيام عند التبتل والدعاء، وهو يدعو أيضا للثورة والحرب ضد الأعداء. فهو «رحيم» على المؤمنين، شديد على الكافرين <أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ>[1].
والحاصل أن الحماسة والعرفان وإن بدا التضاد الظاهري بينهما، إلا أن بينهما كمال الانسجام في الباطن واللب والروح.
وكمال الإنسانية يتحقق عندما يكون الإنسان شامخاً في «عرفانه»، صلباً في «حماسته»، وكمال «الحماسة والعرفان» نابع من كمال العبودية لله.
نفس راضية
والنفس المطمئنة إلى خالقها، الساكنة إلى ربها، المسلمة له كل شؤونها، هي نفس رضيت بما قدر الله جل جلاله لها، وقضى (تكويناً) أو حكم عليها (تشریعاً)، فلا تسخط النفس عندما ينزل عليها بلاء أو تحل بها كارثة أو تصاب بفجائع الأيام، ولا تزيغ بمعصية، ولا تتعدى على حدّ من حدود ربها.
نفس مرضية
وإذا رضي العبد عن ربه، رضي الرب عليه، إذ لا يسخطه تعالى إلا خروج العبد من زي العبودية، فإذا التزم طريق العبودية استوجب رضا ربه!
العبودية والربوبية
وصاحب النفس الراضية المرضية هو حائز على مقام العبودية، فالذي يطمئن إلى ربه، وينقطع عن دعوة الاستقلال، و يرضى بما هو الحق من ربه، فيرى ذاته وصفاته وأفعاله طِلقاً لربه، فلم يرَ فيها قدرًا و لا قضاء، ولا أمرًا ولا نهيا، إلا ما أراده الله ربه، فـ«كمال الإنسانية» في أن يعيش العبودية، و كلما ارتقى في عتبات العبودية نال على فيوضات الربوبية، وتوشح بالصفات الإلهية، فكل كمال إنساني لا يمكن نيله وبلوغه إلا بسُلّم العبودية والتسليم لله تعالى فيما أمر ونهى، وفيما فعل بالعباد.
جمال «عرفة» وجلال «كربلاء»
إن اتصاف الله سبحانه وتعالىبـ«صفات الجمال» و«صفات الجلال» والتخلق بأخلاقه جل جلاله، يستدعي أن يكون الإنسان متحلياً ومتصفاً بصفات الجمال وبصفات الجلال، فتارة يكون مَورداً لتجلي الجمال، وأخرى يكون مَورداً لتجلي الجلال، والإمام الحسين (ع) كما تجلى بـ«الجمال» في دعاء عرفة، تجلی بـ«الجلال» والقهر في عرصات كربلاء، ففي دعاء عرفة يكون العروج إلى السماء؛ إلى سماء الفضيلة والهيام في سبحات الربوبية، مع الدمعة المترقرقة والآهات الحزينة، وفي عرصات كربلاء يتجلى القهر والغضب والقتال لأعداء الله وإرواء الأرض من دمائهم، وتطهير البلاد من أرجاسهم، مع رفض الذلة والخضوع للبغاة الظلمة.
حماسة الثوار وعرفانهم
وهكذا يكون حال الذين يسيرون على درب سيد الشهداء (ع)، ويتربون في مدرسة الإسلام:
- فهم أصحاب الدعاء والتوكل والتهجد في الأسحار، يذرفون الدمع في محراب عبادتهم، ويهيمون في مناجاة سيدهم، وترجف قلوبهم بذكر معادهم، فهم رهبان الليل!
- وهم أصحاب السيف في الميدان، لا يتزلزلون ولا يتراجعون، وقد وتدوا في الأرض أقدامهم، وأعاروا الله جماجمهم، حتى صبغوا الأرض من دماء أعدائهم، واستماتوا في زهق أرواحهم، فهم أبطال الميدان وأسود النزال وليوث النهار!
حزب الله وحزب الشيطان
وأمة حزب الله تعيش الحماسة والعرفان، وأما أمة حزب الشيطان فهي وإن نزلت الميدان وبدلت الدم والنفس، إلا أنها أمة منهزمة خاسرة محطمة على الدوام؛ وذلك لأنها لا تملك «العرفان»، فهي تعيش حب الدنيا، واللهث وراء حطامها، والركض خلف سرابها! فالدافع المحرك لهم هو الدنيا، ومن أجل الدنيا، وفي الدنيا! ومن كان هدفه الدنيا، ومحوره ومسيره الدنيا، فإنه لا يحصل على الدنيا ولا على الآخرة!
وأمّا أمّة حزب الله التي تعيش الحماسة والعرفان، فحربها في الله ومن الله وإلى الله جل جلاله! ومثل هذه الأمة لا تعرف معنى الهزيمة، ولا الانكسار واليأس، حتى لو تكالب عليها كل أهل الدنيا والشياطين، فهي أمة منتصرة بنصر الله تعالى، عزيزة بعزته جل جلاله، ومن كان مع الله كان الله معه!
ونحن نملك ما لا يملكه أعداء الله، فنحن نملك الدمعة و«سلاحه البكاء»، الدمعة المتفجرة من وجدان ذاب في الله عشقاً، و اتصل به هياماً، و وثق به توكلاً.
وأعداء الله مهما ملكوا من الوسائل المادية وعدّة الحرب وجيوشها، إلا أننا نفوقهم في الوسائل،فمضافاً للوسائل المادية التي نملكها – وإن قلّت – فنحن نملك الوسائل المعنوية! والنصر يتوقف على الأمرين معاً؛ لا على أحدهما فقط!
بين عرفة وكربلاء
یُسطّر دعاء عرفة: «ماذا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ؟! وما الَّذي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟!»، وتسطر ملحمة كربلاء بمداد الدم: أن الإمام الحسين (ع) قد بلغ الفتح «مَنْ لَحِقَ بِي اسْتُشْهِدَ، وَمَنْ لَمْ يَلْحَقْ بِي لَمْ يُدْرِكِ الفَتْحَ، وَالسَّلامُ»!!
وأمّة تملك خيارين: النصر والشهادة، وترى فيهما إحدى الحسنيين، يجعلانها تعيش الثقة والأمل وعدم اليأس، مع كمال الطمأنينة! خصوصاً إذا اشتد خيار الأمة بالشهادة، و فضّلت الحياة الأخرى على الحياة الدنيا .. «وَاجْعَلْ فِكْرَهُ وَذِكْرَهُ وَظَعْنَهُ وَإقَامَتَهُ فِيْكَ وَلَكَ»[2].
وعندها تُطفئ نار الفراق بوصل اللقاء مع الله تعالى!
الإمام الحسين وثورة العشق الإلهي
والإمام الحسين (ع) قام بثورتين، ودعا الناس إلى الميدانين، فتقدم إماماً ودعانا مأمومين:
- فقد فجّر (ع) ثورة الوجدان والعشق والهيام والسفر إلى الله تعالى والرحيل عن هذه الأوطان، فقد استرخص الدنيا وما فيها وتركها لأهلها، ولمن أحبها، وسافر بـ«دعاء عرفة» إلى عالم الخلود ليسكن عند ربه آمنًا مطمئناً! فكانت كلمات دعاء عرفة كالماء الزلال على النفوس تطهّرها، والنور الوضاء على القلوب تشرقها، حتی عزفت النفس عن الالتفات إلى جيفة هذه الدنيا، وقررت العروج في عوالم ملكوتها، فكان العرفان الحسيني!
- والإمام الحسين (ع) هو نفسه الذي فجّر أعظم ثورة خالدة، قدّم فيها أروع وأعظم التضحيات في عرصات كربلاء! فهزّ بثورته عروش الطغاة من زمانه إلى آخر الأزمان، فكتب «دعاء عرفة» بالدم على صفحات صحراء نينوى، فكانت الكلمات أجساد الشهداء المضرجة، والأسطر الخيام المحروقة، والقارئ للدعاء في كربلاء بكاء الأطفال ونحيب النساء، وهكذا سطرت ملحمة الإباء من صحراء عرفات إلى صحراء كربلاء!
أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي و…
وملحمة كربلاء – بحماستها وعرفانها – قد تجسدت في أروع صورها وأبهى نورها في أبناء حزب الله في حرب تموز 2006، فعندما يقف سيد المقاومة ليخاطب اليهود أعداء الله وأعداء البشرية بذلك الكلام الخالد، الممزوج بالحماسة والعرفان، ويرعبهم ويدب الخوف في قلوبهم، حتى انهزموا من خطابه قبل أن تدكهم صواريخ رجاله، واستسلموا بـ«الكلمات العرفانية» قبل أن يواجهوا ويروا «روحية شبابه الحماسية» ..
قال لهم: أتعرفون من تقاتلون؟!
أنتم تقاتلون أبناء محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين! وهنا تكمن قوة «حزب الله» وسر انتصار «أنصار الله»، فعندما تتصل قلوب «أبناء المقاومة» بالله العزيز الجبار، وعندما يتوسل بالأنوار الساطعة والعترة الطاهرة، فعندها لا ينفع الأعداء أي عدد أو أية عدة؛ بل يكون النصر محتم لعباده وحزبه، وهكذا كان النصر بـ«الحماسة والعرفان».