مواضيع

لغة الدم (علاج الشلل النفسي)

تمهید

إن من أخطر الأمراض الروحية والنفسية التي تصيب الأمم والشعوب هو مرض الشلل النفسي، وضعف العزم وخواء الإرادة؛ حيث يقعد الناس عن الحراك، فيرضون بالذل والهوان، فالأمة ترى الحق وتبصره وتميزه عن الباطل، إلا أنها لا تقوى على أخذ حقها ولا على دفع الضرر من أعدائها، فالطغاة تسلب قوتها، ويسلب البغاة مقدراتها، ولكن وبسبب خواء إرادتها فهي لا تفعل شيئاً؟

ولغة الدم هي العلاج لمثل هذا الداء، فمن خلال الفداء والتضحية والنزول إلى الميدان وتقديم الأضاحي لخيرة الشبان، وصبغ الأرض بلون الدم الأحمر القاني، هو الذي يبث الروح الصلبة في وجدان الأمة ويمد عروقها بالدماء الثائرة.

فكانت ملحمة كربلاء ودماء سيد الشهداء ليعيد للأمة روحها، ويبث العزيمة والإرادة في وجودها لتحيى من جديد بعد أن تسلط عليها يزيد!

الإمام الحسين ولغة الدم

إن من أعظم الدروس التي قدمها الإمام الحسين(ع) للأمة الإسلامية؛ بل لعامة البشرية أنه يوجد على وجه الأرض أشخاص يملكون الإرادة في مواجهات الطواغيت، والإرادة في إسقاط عروش الظالمين، والإرادة في أخذ الحقوق وإقامة حكومة الإسلام، والإرادة في قول (كلا) للبيعة ليزيد وأمثال يزيد، (كلا) لأي تغيير في أحكام دين الله جل جلاله.

والأمة الإسلامية قبل ثورة كربلاء كانت تعيش الشلل النفسي وخواء الإرادة، ترى الحاكم يمارس الفساد ليلاً ونهاراً، وترى كيف تُهتك الحرمات وتستباح المحرمات، ويُتعدى على حدود الله جل جلاله، وهي مع ذلك لا تحرك ساكناً ولا تحدّث نفسها بالقيام أبداً!

وقد شخّص الإمام الحسين(ع)الداء والدواء، فداء الأمة كان في خواء عزمها وضعف إرادتها، ودواء الأمة كان في بث دماء جديدة وإرادة صلبة في كيانها.

فلم يكن ينفع الوعظ والكلام، ولا لغة الكتب والأقلام، فالأمة تعلم إلا أنها مشلولة! فهي غير جاهلة إلا أنها عاجزة! فكان لابد من الذهاب إلى مصرع الشهادة وساحة الفداء، وكتابة دروس العزة بمداد الدماء، وبرفع رأسه على القناة عالياً، وليبقى دين الله في الأمة خالداً.

فـ«قبل عاشوراء» كانت الأمة ميتة في إرادتها مشلولة عاجزة، بعوامها وخواصها، ترى إمامها يخرج من المدينة ومن مكة المكرمة فلا تخرج معه، وتتركه وحيداً غريباً حتى يلاقي مصرعه شهيداً! لم تخرج الأمة معه، لا لإيمانها بحقانية يزيد وحكومة آل أمية، ولا أن الإمام الحسين(ع) في خروجه كان ظالماً أو مفسداً، بل لأن الأمة تعيش الشلل في إرادتها والخواء في عزمها.

ولكن بعد عاشوراء، وبعد أن قدم الإمام الحسين(ع) للأمة دروس العزة والفداء، فإنه أعطاها الإرادة القوية، وبثّ فيها الدماء الساخنة، فغلّت الأمة في المدينة، فكانت «واقعة الحرة». وأهل الكوفة الذين خذلوا الحسين(ع) في كربلاء ها هم الآن يسطرون ملاحم الإباء والفداء من خلال ثورة التوابين وثورة المختار الثقفي!

وهكذا تتابعت الثورات حتى سقط نظام آل أمية الطاغوتي، إنه دم سید الشهداء الذي غيّر روحية الأمة، وخلصها من شللها النفسي، فصيّرها أمة عزيزة لا تخشى طواغيت الزمان ولو كان بسفك دمائهم وزهق أرواحهم .. إنها لغة الدم التي سطّرها الإمام الحسين الموعود بشهادته قبل استهلال ولادته، وهذه هي اللغة النافعة لكل أمة تُبتلى بمثل هذا الداء العضال ألا وهو الشلل النفسي.

الشهيد الصدر(ق) ولغة الدم

جثى حزب البعث الكافر على صدر الشعب العراقي، ووصل صدام العفلقي إلى سدة الحكم، فوصل الرعب إلى أوجِه والخوف أقصاه، فعاثوا في العراق فساداً وبالعباد ذبحاً وبالنساء استحياء، فدبّ الشلل الروحي في وجدان الشعب العراقي! فصار حاله كحال الأمة في زمن الإمام الحسين(ع)، وهنا انبرى حفيد الإمام الحسين(ع) وسليل العترة الطاهرة، شهید الأمّة ومفجّر الثورة الإسلامية في العراق، الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس الله سره)، فقد أعلن أن الداء الذي أصاب الشعب العراقي هو نفسه الذي أصاب الأمة في زمان الإمام الحسين(ع)، ألا وهو الشلل الروحي وخواء الإرادة، والخوف الرهيب المقعد عن كل حراك، وفي مثل هذه الظروف، ومع مثل هذا الداء، لا علاج إلا نفس العلاج الذي قام به الإمام الحسين(ع)! إنها لغة الدم والفداء والتضحية، والذهاب إلى مصرع الشهادة!

فأعلن للشعب العراقي أنه مصمم على الشهادة، ومتوجه إلى لقاء الله جل جلاله، ودعا قوافل الشهداء أن تلحق به، وذلك لأنه لا حل للشعب العراقي إلا الدواء حتى يحصل على عزته وكرامته واسترجاع إسلامه، وهكذا زال البعث الكافر وسقط صدام الفجور والإجرام ببركة دم الشهيد الصدر قدس الله سره وقوافل الشهداء رضوان الله عليهم أجمعين.

البحرين .. وثورة 14 فبراير

ومثل هذا الداء وهو «الشلل النفسي» قد أصاب روح هذا الشعب في عقدٍ من الزمان (2001-2011) حيث أقعده عن الحراك مع ما يعانيه ويعانيه من مختلف المؤامرات من انقلاب على الميثاق ودستور 2002، وخداع الشعب ببرلمان فاقدٍ للصلاحيات، والأمَرّ من كل ذلك ما تكشف من مخاطر مخطط بغيض وحقد دفين، ذلك الذي سُطر في تقرير البندر؛ حيث التخطيط لاستبدال هذا الشعب الأصيل بشعوب أخرى، ومن إقصاء للطائفة الشيعية والقضاء على كل معالمها، وذلك بشكل ممنهج وتدريجي، ومصادرة أموالها وأخماسها وكل ما تملك من مقدرات حتی جاروا على «أحكام الأسرة»، ووضعوا قانون الأحوال الشخصية، وغيرها الكثير والكثير من الفجائع التي يكفي كل ملف منها للثورة والقيام، ولكن وبسبب تسرب هذا الداء العضال وهو الشلل النفسي في الأمة، فإن الناس عاشت خانعة ذليلة راضيه بالظلم والتهميش، ترى وتسمع وتعلم، إلا أنها لا تحرك ساكناً، ومع هذه الروحية المشلولة، وبدل أن تقوم الأمة بالتغيير أخذت باختلاق التبريرات، والقبول بسياسة الأمر الواقع، وانتهاج طريق ومنهج المسايرة لكل مخططات النظام، وتقديم التنازل تلو التنازل! وكادت الأمور تصل إلى الموت – موت الأمة – الذي لا رجاء بعده في الحياة! إلى أن قامت الجماهير وثارت في 14 فبراير 2011؛ حيث تحركت روحية الأمة، ونفضت عنها غبار الشلل والتوسل بالتبريرات، والذي ضاعف في لهيب الثورة، وزاد قوة في عزيمة الثوار، هو سقوط الدم الزاكي للشهيد «علي مشيمع» في أول يوم من الثورة، وما تلاه من دماء زكية لقافلة الشهداء، فكانت «لغة الدم» هي التي أحيت روح هذه الأمة، والشعب اليوم يسير على صراط تحقیق كرامته وعزته والوصول إلى أهدافه.

فبعد أن زلت قدمه عن الصراط، وتاه في اتخاذ المنهج، – والذي كبّد الشعب الكثير – ها هو الآن يسير على الصراط المستقيم، وينتهج درب سيد الشهداء(ع)، ويقدم الشهداء والقرابين، ولم يبق على هذا الشعب العظيم إلا أن يواصل المسير ويستقيم، ولا يتوقف في وسط الطريق فضلاً عن التفكير في الرجوع إلى الوراء!

واستقيموا يا شعب البحرين

وعلى الشعب أن يعي خطط الشيطان، وأساليب المتملقين ومكر المنافقين! فبالوعي وبالعزم يمكن أن نوصل هذه الثورة إلى بر الأمان، وذلك عندما نقيم «الحكومة الإسلامية»، وعندها سوف يسعد هذا الشعب في دنياه، ويفوز بالجنة في أخراه.

فالحذر كل الحذر، وبعد كل التضحيات وسقوط الشهداء، وبعد آلاف من الجراحات التي ذاقها وتجرعها هذا الشعب المظلوم، الحذر من الاستماع لأي صوت يريد أن يرجع الناس والجماهير إلى منهج الاستسلام، والرضا بكل ما يفرضه النظام، فنكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً!

فـ«لغة الدم» تحتاج إلى صبر أيوب في بلائه، وصمود يوسف في سجنه، وفداء الحسين(ع) بنفسه وأهل بيته، وتحمل السَّبْي وانتهاك الأعراض كما حل بنسائه.

وما دمنا على الحق لا نبالي، وإذا كانت المعاملة مع الله، وحفظ دين الله والفوز بالجنة والرضوان فخذ یا ربي حتى ترضى.

المصدر
كتاب رحيق كربلاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
تواصل معنا
سلام عليكم ورحمة الله
كيف يمكننا مساعدتك؟